فضاء الكلمة.
بقلم: خليل إبراهيم الفزيع.
إنارة دروب الآخرين.
مما ورد في مأثور الأقوال: (إذا أنرت طريق غيرك فقد أنرت طريقك) وهو قول يستحق أن نقف إجلالا لم قاله، لأنه ينتقل بالإنسان من ذاته المجردة إلى ذاته العامة، ينقله من حالة حب الذات إلى حالة حب الآخرين، ويؤكد أن سعادته يمكن أن تتحقق من خلال سعادة الآخرين، وهو أمر يغيب عن معظم الناس.
كثيرون أولئك الذين يتبنون مبدأ أنا وبعدي الطوفان، وهو مبدأ يدل على احتقان الذات بالنرجسية، وهي نزعة يفسرها علماء النفس بقولهم: (إنها الحب المفرط للذات، فالهيام بالذات وعشقها هو الطابع الجوهري المميز لهذه النزعة) وهي تنسب إلى شخصية نرجس أو نرسيس في الأسطورة الإغريقية القديمة وقد وقع في حب خياله الذي تراءى له على صفحة الماء.
وفي أمثالنا العربية (ما عاش من عاش لنفسه) فالحياة هي منظومة بشرية لا يمكن لمن يغرد خارجها أن يحقق حياته ضمن هذه المنظومة، أو أن يكون له أي شأن يذكر إذا ما ذكرت محاسن الناس أو حتى مثالبهم، وقد ولى زمن الأبراج العاجية التي كانت بعض الفئات تتحصن بها بعيدا عن نبض الحياة وهم بذلك أحياء كالأموات، وفي هذا الزمن أصبحت علاقة الإنسان بغيرهم بحاجة أكثر إلى التواصل، وهو تواصل يفرض نفسه من خلال عدد من قنوات ووسائط ووسائل التواصل وبعضها من نتاج التقدم العلمي الذي حققته البشرية لتستفيد من إيجابياته وتتجنب سلبياته، وإذا كانت الأبراج العاجية وسيلة للعزلة عن الآخرين، فإن هناك من اتخذ من وسائل التقدم العلمي وسيلة للانشغال عن الناس وصرف جل وقته في حالة من الانغماس التام مع الآلة وكأنه يعيش في جزيرة نائية بعيدا عن ما يجري حوله والإحساس به والتفاعل معه، وكيف يتسنى له ذلك مادام يقضي جل وقته مع حاسوبه أو قناته الفضائية المفضلة، بحثا عن ثقافة هزيلة تشغله حتى عن نفسه.
إن الحياة لا تستقيم بالأخذ الدائم ولا بالعطاء الدائم بل هي أخذ وعطاء، بذلك تتحدد الواجبات والحقوق، لتضع حدا لطغيان التنمر الفردي، وسوء استخدام مقاليد الأمور في حالة الاستحواذ عليها بشكل أو بآخر، وفي نهاية هذا النفق المظلم من وجوه الحياة المتعددة يلوح وميض برق الأمل المتمثل في وجود أولئك الذين ينيرون دروب الآخرين سعيا وراء اكتساب قيمة الشعور براحة الضمير واطمئنان النفس والبعد عن القلق والتوتر والجهل بما في الحياة من إيجابيات جميلة يمكن أن تحيل الإنسان إلى حالات الرضا عن النفس، بقدر رغبته في كسر حاجز العزلة الذي قد يحيط به إذا لم ينظر إلى سواه بعين المحبة والاحترام.
والذين يؤثرون على أنفسهم هم أسعد الناس، فعن طريق هذا السلوك القويم يمكن للنفس أن تتخلى عن عقدة حب الذات، لتضع لبنة في صرح العلاقات البشرية المتوازنة، الخالية من الاستغلال أو السيطرة أو الإقصاء أو غير ذلك من السلوكيات المرفوضة شرعا وعرفا، وهو أمر يقتضي بالضرورة التخلي عن كل معاني الأنانية والنرجسية والنظرة الفوقية حين يغيب الاعتراف بقدرات الآخرين ونجاحاتهم في مجالات حياتية مختلفة.
إنارة دروب الآخرين موقف اختياري يعني عظمة الإنسان، وقدرته على العطاء بمعناه الشامل، وليس بمعناه المادي فقط، بل هو عطاء بالكلمة الطيبة وبالرأي السديد وبالنصيحة المخلصة وبإرشاد السادر في غيه لعله يعود إلى طريق الصواب، وبالمشاركة في أي جهد إنساني فيه مصلحة البشر، وبالحرص على التخلص من كل السلوكيات المشينة، وأن يكون المرء قدوة حسنة لغيره، بعد أن رانت على قلوب بعض الناس غشاوة آحادية الرأي والموقف.
ومرة أخرى: إذا أنرت طريق غيرك فقد أنرت طريقك.
فهل تصبح هذه النظرة التفاؤلية قاعدة دائمة لحياتنا؟!
جريدة الشرق القطرية ـ عدد الأحد 10/5/2009
التعليقات (0)