السلام عليكم
إمكانية تغيير اتجاه فكري تحت ضغط شديد
عندما ينشغل إنسان ما بشيء ما كثيرا؛ فإنَّ الشيء الذي يُشْغِله يسيطر على مساحة كبيرة من فكره، بحيث تبقى تتكرر في ذهنه لوقت طويل، ويتجلى هذا بوضوح عندما يكرر – إنسان ما – قاعدة نحوية – مثلا - يريد حفظها؛ فكلما كرر القاعدة النحوية؛ فإنَّها تسيطر على جزء أكبر من مساحة فكره، حتى يأتي وقت يجد القاعدة النحوية تتكرر في ذهنه رغما عنه، وهذا يَظْهَر بوضوح عندما يكرر المكرر القاعدة النحوية كثيرا ثم يذهب مباشرة إلى النوم، فيستيقظ في الصباح فيجد أنَّ القاعدة النحوية تتكرر في ذهنه دون أنْ يكررها إراديا، فهي صارت تتكرر جبرا، وليس عجيبا إذا علمتَ أنَّها ستزداد تشبثا وتكرارا إذا تَوَتَّر الذي تتكرر القاعدة النحوية في ذهنه، فالتوتر يُعَزِّز تكرارها.. إذا أُرِيد القضاء على تكرارها فلا بد الصبر عليها إلى أنْ يتوقف التكرار، أو أنْ يحفظ المكرر قاعدة نحوية أخرى أو شيء آخر، وعليه ألا يتوتر إذا تداخلت القاعدة النحوية التي تتكرر قهرا، مع القاعدة النحوية التالية التي يكررها، فإذا شَعَرَ إنَّ التداخل قد توقف بين القاعدتين النحويتين في ذهنه، من حيث التكرر، فهنا لا بد أنْ يتوقف، أو يكرر القاعدة النحوية التالية قليلا، وبعدها فليتوقف؛ وبهذا يتوقف تكرار الذي يتكرر جبرا وقهرا.
إنَّ الذي حَدَثَ مع الذي كرر قاعدة نحوية إلى مرحلة تكرارها جبرا وقهرا، يمكن أنْ يَحْدُث في إنسان فاضل لم يسرق قد، وليس في حاجة أنْ يسرق، فكل ما عليه هو أنْ يكرر "أنا سأسرقه" إلى أنْ تتكرر جبرا وقهرا، ولكي يجعل تكرارها يشتد ويزداد تشبثا، فلا بد أنْ يغضب من تكرارها، أو من شيء آخر يجعل الغضب يدوم طويلا، وهنا:
1-إمَّا أنْ ينخضع لأوامر العقل بأنْ لا يسرقه، رغم تكرار وتشبث:”انا سأسرقه" في ذهنه.
2- وإمَّا أنْ "يسرقه"، فإذا سرقه؛ سيهدأ تكرار "أنا سأسرقه" إلى أنْ يزول التكرار من ذهنه، ولكن إنْ ندم على سرقته؛ فهنا تبدأ فكرة الندم تتكرر.. إذا أراد أنْ يزول تكرار فكرة الندم: فعليه أنْ يُرْجِع ما سرقه بطريقة ما، وإنْ استطاع: فعليه إزالة آثار السرقة من الذي سرق منه غرضه.
المثالان السابقان يوضحان أنْ الفكرة التي تتكرر هي أساس المعادلة؛ وهذا يعني أنَّ الفكرة التي يمكن أنْ تتكرر يمكن أنْ تتعلق بقتل، أو باختراق في زمن المشباك (النت)، أو بهروب، أو بضرب، أو بجرح، إلخ.
لننتقل إلى مسألة أخرى غير بعيدة عمَّا قلناه في السطور السابقة، كلنا يعلم أنْ أصحاب اﻷديان والاتجاهات الفكرية المختلفة لم يتوقفوا عن الصراع على اﻷقل على المستوى الفكري، وهو الذي يهمنا، وقد كان الصراع يتم بين علماء، أمَّا في هذا الوقت فصار العوام يدخلون على خط الصراع وبشدة، في عصر المشباك (النت)، وهم ليسوا مثل العلماء فالعلماء مزودون بحجج تجعلهم أقوياء في صراعهم مع غيرهم، أو في مخاصمتهم مع غيرهم، وهي أقل شدة من كلمة صراع، ولكن العوام لا يوجد لديهم حجج في أذهانهم، ولا بد لهم من الكثير من الوقت ليحصلوا على حجة تشد من موقفهم، وهذا ما لا يصبر عليه كثير من العوام، وهنا تبدأ العوام تتوتر، حيث ترى أنَّ اﻵخر يمتلك حجة أمَّا هم فلا يمتلكونها؛ وهذا يجعل حجة الخصم تسيطر عليهم، حتى لو كانت حجة الخصم فاسدة من أساسها، فالخصم بقيَّ صامد على ما يعتقد، وهنا أمام العامي:
1- أنْ يقول يوجد لدينا حجة ولكن أنا لا أعرفها؛ ولهذا فإنِّي أنسحب، ولا ينتظر رد من عالم؛ وبهذا يقل التوتر.
2- أنْ يقول يوجد لدينا حجة ولكن أنا لا أعرفها؛ ولهذا فإنِّي أنسحب؛ ولكن ينتظر رد عالم، ولكن العالم لم يرد ردا مقنعا؛ وهذا يجعل العامي يزداد توترا؛ ولا يقل التوتر إلا إذا مال لأقوال خصمه السابق، فهو لم يعُد خصمه، وهنا يمكن أنْ يَشْعُر العامي بفرحة عميقة.
3- أنْ لا يجد في ذهنه حجة، ومع هذا لا ينسحب من المخاصمة، فيستمع أو يقرأ أو يرى حجج الخصم، أو على اﻷقل صمود الخصم، أو تشبث الخصم بأقواله التي قد تكون مناقضة لمبادئ العقل؛ وهنا يمكن للعامي أنْ يميل إلى معتقد خصمه، فالعامي يسيره التوتر – في هذا الحال -، وسيطرة معتقد خصمه عليه في حال التوتر؛ تجعل معتقد خصمه قويا في ذهنه، وهنا:
أ- إمَّا أنْ يترك التفكير في مخاصمة خصمة؛ فيزول التوتر وأثر التوتر، ولو بعد حين.
ب- وإمَّا أنْ يديم التفكير في الذي يوتره، ومن ثم يميل إلى قول خصمة ليهدأ التفكير، فالتوتر وآثاره، ثم يزول، ولكن يمكن أنْ يبدأ التوتر مرة أُخرى من مخاصمة الذين كان ينتمي إليهم؛ ولهذا يوجد احتمال أنْ يعود إلى ما كان عليه، فيهدأ، ويمكن أنْ ينتقل من اتجاه إلى آخر في أزمنة متفاوتة؛ وهذا يجعل حياة المتنقل جحيما، أو شبيهة بالجحيم.
لنوضح هذا بمثال:
لنفترض أنَّ ص عامي من الناس على دين ج، ويوجد دين ف، وأصحاب دين ف يوجهون لدينه نقدا، وأصحاب دين ج يوجهون نقدا لدين ف؛ فإنَّ ص يتوتر كثيرا بالنقد الموجه لدينه، ويرى أنَّ صمود الخصوم – على افتراض صمودهم -؛ لم يَحْدُث إلا ﻷنَّهم على حق، أو أنَّ لديهم حق، ويقرر اعتناق دين ف، حتى ولو كان دين الذي كان عليه أفضل لو وعاه، ولكن أنَّى لو أنْ يعيه وهو مساق من توتره، فتوتره يجعل أقوال أصحاب د ف تسيطر على تفكيره، فتستحوذ على الجزء اﻷكبر منه (تفكيره)، فلا يهدأ إلا بأنَّ يميل إليه، فإنْ مال إليه؛ فإنَّ التوتر يقل، ومن ثم يزول، ولكن إنْ داوم قراءة، أو سماع، أو مشاهدة نقد لدينه الجديد سيتوتر، وكلما داوم متابعة النقد فسيتوتر أكثر، إلى أنْ تسيطر أقوال أصحاب دين ج على فكره، فلا يهدأ إلاَّ إذا عاد للدين ج.. إذا ملَّ ص من من حاله فيمكن أنْ ينتحر، أو يترك ما كان عليه وما عليه خصمه، أو لا يقرأ، ولا يسمع، ولا يشاهد شيء يتناول بالنقد معتقده..
ج- وإمَّا أنْ يترك ما كان عليه وما عليه الخصم، ولا يميل إلى هذا ولا ذاك.. وهذا على ما يبدو استخدم بعض العقل، وهنا تتوقف فكرة خصمة عن السيطرة عليه، ويهدأ توتره وأثر توتره، ثم يزول، ولكن لا يوجد دليل على أنَّه لن يتوتر ممَّا هو عليه بسبب خصومه، فهذا الحياة لا يوجد فيها راحة، فاﻷديان والمذاهب التي داخلها، والمذاهب الفكرية التي خارجها في مخاصمة وصراع، ولا يبدو أنَّ مخاصماتهم وصراعاتهم ستنتهي.
د- وإمَّا أنْ يترك ما هو عليه وما عليه الخصم، ويبدأ بمخاصمة الاتجاهين أو أكثر من اتجاهين، وهنا تتوقف فكرة خصمة التي سيطرت عليه، ومن هنا يهدأ توتره وأثره، ثم يزول، ولكن لم ينتهِ اﻷمر، فالأفكار التي مال إليها لها خصوم، فماذا تابع انتقاهم فسيتوتر، وكلما زادت متابعته لانتقادهم يزيد توتره أكثر، وكما نعلم أنَّ شدة التوتر في هذا الحال تجعل فكرة الخصم تسيطر على صاحبنا المُنْتَقَدُ معتقدَه، وهنا إما أنْ ينتحر، أو أنْ يترك النقد، فلا يقرأه، ولا يسمعه، ولا يشاهده، أو يعتقد أفكار أخرى، ولن يُتْرَك حتى ولو صار أصم وأعمى وأبكم.
كل الكلام السابق بشأن أناس غير مرضى دائميين بما يُسَمَّى بالخطأ باﻷمراض النفس، فهي على التحقيق روتية مرضية، ولكن الذي يحصل في المرضى يكون أشد، فكل ما يجب أنْ يكون هو تبديل فكرة بأخرى، خصوصا آنَ الوسواس القهري، وهذا يعني أنْ أصحاب الأحوال التي تناولناها فيما سلف يمكن أنْ يدخلوا إلى المرض الدائم بسهولة، فشدة توترهم تنذر ببقاء آثار التوتر في أعصابهم.
التعليقات (0)