امرأة من كمبو كديس
عبد العزيز بركة ساكن
مجموعة قصصية
2004
بت الجزار
بدأت أفكر في الموضوع بصورة قاسية بعد أن تحرك البص مباشرة متجهاً نحو الخرطوم، الأفكار المظلمة تنتابني بين لحظة وأخرى لدرجة أنني تمنيت أن أجدها قد توفيت ولو في حادث سير، كنت لا اعرف كيف تلتقي أعيننا بعد أن حدث منها ما حدث، هل سينتابني ذلك الشعور الحلو الذي دائماً ما يسيطر عليّ وأنا أراها وهي تكبر يوماً بيوم وتزداد عقلاً وخبرة في الحياة وجمالا ويتجلى وجهها الأسود الحلو الناعم براءة، كنت حينها أحس كما لو أن كل خلية في جسدي تتجدد وأنني اكثر طمأنينة وأقرب للحياة مني إلى الموت، بالرغم من تقدم العمر وأمراضه الكثيرة.. واكثر ما يعذبني فكرة أنها خانتني، خانتني أنا بالذات، ولكني أيضا أفكر في الأمر من جانب آخر. من جانبي أنا .. لأنني ما كنت انظر لعلوية كامرأة أبدا، يبدو أنني أضعها في مكانة رجل ما فوق الأربعين كامل النضج ومستقيم السلوك.. أما أن تذهب علوية مع رجل غريب إلى خلوة وان يغويها أو يلمسها مجرد لمس..بكامل رضاها ودون أن تحس ولو بعقدة الذنب أو خيانة الثقة التي أعطيتها إياها ... وان ... لا ... أمر لا اصدقه كيف يتسنى لعلوية ابنتي أنا التي أنشأتها منشئاً سليماً وربيتها من مال حلال اكتسبته بعرق جبيني واودعت من اجلها مالاً في البنك تسحب منه لمصروفها كما شاءت ... أن تتزوج زواجا عرفيا.. أكون أنا آخر من يعلم، كل القرية تعرف ذلك، جميعهم.. جميعهم.. إلا أنا .. لماذا تجعلني صغيراً تافها أمام الناس وأنا ما يملأ عيني تراب الدنيا كلها... كيف تنظر إليّ... ماذا تقول... هل تنكر ذلك... أتبكى.. ربما، هي نفسها ضحية لذئب لا يرحم لقد قرأت كثيرا في الجرائد عن زواج الطالبات العرفي، ولكني أحلته إلي أسباب مادية، إطلاقاً لم أفكر لحظة في علوية.. أن تكون علوية واحدة من هولاء البنات المطلوقات كما كنت اسميهن، ومازلت، البنات اللائى عجزت أسرهن في توفير مصروفهن، أو تربيتهن تربية كريمة تكسبهن العفة أو ربطهن في البيوت.
لم استشر أحدا في كيف أتصرف، لقد وضعت سنوات خبرتي الطويلة في العمل المدني والعسكري وتجاربي الحياتية ومخزوني المعرفي موضع التحدي.. فإذا لم أتمكن من عبور هذه المحنة وحدي بكل هذه المكتسبات فلا فائدة من الحياة التي عشتها. هذا التشجيع للنفس لم يمنع الضعف والانكسار الذي أحس به الآن والخوف.. نعم الخوف الحقيقي من إنني أقوم بفعل قد يحسب ضدي، بل قد يسئ إليّ والى أسرتي وآخرين غيري. في الحقيقة كنت مرتبكا عكس ما أبدو عليه في الظاهر، بحثت في جيوبي وجدت أنني أخذت ربطة من المال عشوائياً تحتوي على خمسمائة ألف جنيه سوداني، حسبتها مرتين، انقطعت دائرة البلاستيك التي تحيط بها. أدخلت المبلغ كله في الشنطة محتفظاً برباط البلاستيك المقطوع، اصدمت أصابعي بشيء صلب بالداخل..إنها السكينة الكبيرة، دخلت الشنطة نتيجة للاستعجال أو الإحساس الداخلي بأنني قد احتاج إليها، أو ربما دسها ليّ شخص فكر في الأمر بطريقة مختلفة، أخذت الهي نفسي بلعبة قديمة كنا نلعبها في طفولتنا مستخدماً رباط النقود المقطوع، كنت في حاجة لأي فعل يلهيني عن التفكير في علوية... عندما أجدها سأفكر في الحلول في ساعتها، لا احب ان يملي عليّ أحد رأيه، حتى ولو كان أخوها. في المقعد المجاور امرأة أربعينية غير متزوجة، طوال الطريق تقرأ مجلة حواء، يفوح منها عطر قوي، تسرق النظرات إلى لعبتي من وقت لآخر، وكنت اهتم بها، ولكنني اخفي ذلك بصورة جيدة كما أنني لا احب التحدث والونسات أثناء السفر، لان السفر هو فرصة جيدة لكي أخلو إلى نفسي دون أن يزعجني أحد، قد أنوم، النوم أيضا لا يتوفر في حياة سريعة ملآنة بالكد والجري وراء الرزق ولكن من اجل من؟
بتكلم معاي.
منو .. أنا ..آسف ..رأسي ملآن بالمشاغل وظاهر عليَ قاعد اكلم نفسي..معليش.. أزعجتك
قالت وهي تلم ثوباً أنيقا إلى جسدها.
ولا يهمك الناس كلها مشغولة.
حاولت النوم حتى لا أتكلم مثل المجنون وضعت رأسي على المقعد الأمامي، أغمضت عيني، أخذت أفكر: أين تكون علوية الآن.. في أي وضع.. في النوم نزلت عليَ ملائكة الأسئلة بجواب خطير.
نزلت عند الجامعة بعد أن أكد لي سائق التاكسي إنني سوف أجدها أو أجد صديقاتها في ذات المكان الذي أنزلني به وفعلاً وجدتها بسهولة ويسر، وربما هي التي وجدتني، حين رأتني من مسافة بعيدة وأنا أمر إمام الكافتيريا، هرولت نحوي ومعها صديقتان، وجدت نفسي دون شعور مني انظر أولا إلى بطنها، بصورة غير طبيعية، وربما لاحظن ذلك، علقت الصديقتان على إنني أبدو كما لو كنت أخا لعلوية وليس أبا، يشرن إلي مظهري الخارجي وما يتوهمنه من صغر السن، كن يتحدثن باستمرار، أسال نفسي أنا أيضا باستمرار، كم منهن متزوجة زواجاً عرفيا،ً كم منهن يدعرن، كم منهن عفيفات؟! عندما خلوت بعلوية، فاجأتها دون مواربة أو مراوغة،
انتي متزوجة زواج عرفي مش كدا؟!
قالت وقد انهارت تماماً من هول المفاجأة،
عرفت!!
نعم..عرفت.
وبحركة سريعة سقطت على رجلي، أخذت تبكي بصورة جعلتني أتعاطف معها، وربما اقف في صفها، إذا كنت اكثر صراحة أقول إنني لمت نفسي، بدأت لي طفلة في عهدها الأول، تجمعت بعض الطالبات، سألن إذا كان قد توفى أحد أفراد الأسرة أو إن هناك خبراً أسوأ.. ولكن لم نجب بشيء، طلبت منهن أن يتركننا سوياً لبعض الوقت، لم تستطع أن تقول شيئاً، كانت تنظر إلى الأرض وتبكي في صمت قلت لها،
انخدعت فيك يا علوية.. انخدعت؟1
قالت بصوت مبحوح،
كنا حنعلن زواجاً قريب جداً ..ولكن كل شئ بإرادة ربنا..
القرية كلها تعرف.. ماعدا أنا فقط.. الجميع يضحك عليّ .
سألتها ،
وين الزول دا؟
قالوا لي انه في الحصة الآن، بعد ربع ساعة يمكنني مقابلته، شربت الماء البارد جلس قربي خفير ثرثار، ما ترك شيئاً لم يسألني عنه، لم ينجدني منه سوى الجرس الذي، دق كمطرقة في رأسي، قال لي الخفير وهو يشير بفمه ويده وعينيه نحو أستاذ يمر أمامنا،
دا هو أستاذ سالم.
فالتفت الأستاذ إلى ومضى ظاناً أنني أب لأحد التلاميذ، ولكن الخفير صاح فيه منادياً،
الزول دا من الصباح منتظرك.. يا أستاذ.
طلب كرسي، جلس قربي في البرنده سأل ماء من اجلي، كانت يده ملآنة بالطباشير ويبدو مشغولاً جداً حيث تتحرك عيناه هنا وهناك بحثاً عن مفقود ما، كنت أحاول أن أجد ملمحاً فيه يدل على فعلته ولكنه كان شخصاً عادياً مثله مثل كل الناس، قدرت عمره وأخلاقياته وجزره العرقي أيضا.. قلت له معرفاً بنفسي.
أنا من قرية الدومات.. هل تعرف زول من القرية دي ؟
فكر قليلاً ، قال
..لا ..
علوية ..علوية..هي من قرية الدومات، علوية ما بتعرف علوية؟
قال باستغراب،
علوية..منو؟
علوية إبراهيم عثمان وردان ..
آه ..نعم علوية البتدرس في كلية التربية، ايوه قاعدة تحضر العملي هنا عندنا في المدرسة .. في شعبة الرياضيات .. أنا رئيس الشعبة.
قلت له،
بس!!
قال،
تقصد شنو ؟
أنت متزوجها زواج عرفي مش كده..
" قلت معتمداً الصدمة والمفاجأة كطريقة لها فائدة كبيرة في الحصول على اعتراف المجرمين"
قام من الكرسي ثم جلس، قال للخفير الذي أرخى أذنيه واخذ يستمع للحوار بتلذذ تام،
امش من هنا .. امش شوف شغلك،
ثم قال موجهاً كلامه لي،
ده كذب .. علاقتي بعلوية ذي علاقة كل المدرسة بيها ..لا زواج ولا غيرو.. أنا شخص محترم وأستاذ ..وما عندي وقت للهضربا البتهضربا دي ..أنت ذاتك منو ؟
قلت له ببرود،
أنا إبراهيم وردان، لواء شرطة ،، بالمعاش،، اعمل في سعاية الماشية،، برضو بذبح،، بذبح باستمرار،، عندي جزارة صغيرة في البيت، في وقت الفراغ بشتغل مُعْراقي، عارف معراقي يعني شنو.. لحظة.
أدخلت يدي في جيبي أخرجت ورقة بيضاء صغيرة مفتولة في حجم راس الإصبع الصغير في شكل إنسان،
ده أنت سالم علي عباس الوالدتك نفيسة جبرين العيش.
هززت الشيء أمامه وقمت بوضعه في الشمس، كان يحملق في الشيء بتركيز واهتمام بالغ وبعد ثواني معدودات هرب الشيء من الشمس بتلقاء نفسه واستقر في الظل... كررت العملية ثلاث مرات، أخرجت خيطاً طويلاً من الشنطة النوع الذي يستخدم في صيد الأسماك، بالسكينة الكبيرة قطعت منه ما يقارب ربع المتر، أعدت السكينة في الشنطة، أحطت بالخيط عنق الشيء في شكل انشوطة، قلت له وهو ينظر في ذهول،
دا أنت سالم ود نفيسة.
وقمت بجذب طرفي الانشوطة فمسك عنقه وصرخ في جنون، صرخة جمعت كل المدرسة في دقائق أحاطوا بنا، قلت له،
في خمسة ثواني فقط حاتموت.. اها عرفت معنى معراقي .
قال بصوت مبحوح بينما يتصبب عرقاً.
كنت حاتزوجا علناً في الإجازة،
انتبهت لكف تربت في كتفي وصوت وقور هادئ،
أنا مدير المدرسة..تعال يا حاج إبراهيم..تعال معي إلى المكتب.
اخذ بيدي إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة الكتب وعبق الطباشير، أكد لي المدير انه يعلم بزواج سالم من ابنتي عرفياً، وهو منذ البداية ضد الفكرة، لكنه أيضا أثنى على سالم وخلقه القويم وانه رجل مسئول، قال بإمكانه أن يلعب مع البنت، لكنه فضل الزواج العرفي .. أكد لي انه سيلزم أستاذ سالم على إعلان زواجه والآن..وأضاف بحماس: إنه بمثابة ابني.
قال المدير وقد فرغنا من الاحتفال الصغير الذي أقيم في بيته إحتفاءاً بإعلان زواج ابنتي علوية للأستاذ سالم،
نحن الآن أصدقاء وأهل.. وأنا عندي طلب واحد منك يا حاج إبراهيم، طلب بسيط جداً .. !
شنو ..اطلب اي شئ بسيط أو غير بسيط.
عايز الموضوع بتاع العروق دا ..والله أنا عندي مشكلة في الدنيا مابيحلها إلا الشيء العندك دا ..الحلّ مشكلة بتك علوية..حايحل مشكلتى .
قلت له،
أنا موافق، ولكن توعدني ما تحدث أي شخص كان، لما يدور من حديث بينا الآن.. وعد شرف
قال،
أوعدك وعد شرف
قلت له،
الموضوع بسيط، يحتاج إلى رباط بلاستيك النوع البيستخدم في ربط القروش، وورقة صغيرة مقوية وخيط متين، وأستاذ رياضيات جبان، ومدير مدرسة عندو مشكلة معقدة لا أكثر.
يوليو2004
امرأة من كمبو كديس
في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة – كعادتي – منذ أن طُردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين – سمعت صرّاخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير وأصوات نسوة تندفع إليَّ مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة، كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك. هادئون كانوا دائماً رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة. نعم قد يسمع نداء موسي السَمِح الجزار بين الفينة والأخري،وقد تتشاجر بائعتان، و قد، لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال؟!، وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حساً تشكيكياً عميقاً هتف في:
إن هنالك شيئاً ما في سوق النوبة...
وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البريّ تشممت طريقي الي المكان.
عزيزة – إبنة كلتوم بائعة العْرقِي – كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها اخصائية العْرقِي – مرت امام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل – على كتفها – أخاها الصغير منتصر، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة بلعابه اللزّج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث، كان أعجفا صغيرا،له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.. أعرفها جيداً وأعرف أيضاً أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة. نهاراً بالسوق، فكان لزاماً على عزيزة أن تحمل منتصر الرضيع ثلاث مرات في اليوم الى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص بألا تفّوت على إبنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعّيد، ويموت. لأن منتصر كان نزقاً شقياً و هبّاش، فما كانت كلتومة ترغب في ابقاءه معها في السوق.
صرخت فيها..
يا بت.. يا عزيزة..
إلتفتت الي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها الي حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد الثلاثة ثوانٍ، رأيت بؤساً وألماً مكثفاً متقنطراً على وجهها الصغير الأملس، بؤساً لا يمكن اخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسّمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه، وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة – أيضاً – غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخاً:
يا بنت....
أنا وأصدقائي من ابناء أعيان البلدة ومثقفيها، نفضل أن نسكر من عَرقِي بلح كلتومة وفي بيتها الصغير في كمبُو كديِس فهي امرأة أمينة صديقة حيث إنها لا تسرقنا – كما تفعل الحبشيات وكثير من بائعات العرقي – آخذة منا ثمن عَرقِي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء – أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة.
" إنني لا أُطعم أبنائي الحرام ".
كما أنها كانت دائماً حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا " أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيواناً مثقفاً لا أكثر فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ علي صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي – ضابط المجلس – وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين.. الى آخر مآسي يومي وأسرتي.. " فكانت كلثومة – والحق يقال – تسمع بإهتمام ولكنهها لا تقول شيئاً، وكنا جميعاً نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا وبالتالي "عزيزة" كانت لنا أختاً صغرى..
يا بنت.... قفي..
أمسكت بكمها القصير.. ودون أن تنظر الي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات " منتصر " الحامضة المتدفقة تباعاً:
أمي..
أمي قبضوا عليها..
"...... "
إذاً فهمت كل شئ وشعرت بأن الدينا أظلمت فجأة أمام عيني وأن شعري تحول الى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي،ولم استطع ان اقول او افعل لها شيئاً سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود تاركاً إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و"منتصر" مبللا صدرها بلعابه اللزّج المُلبِّنْ يصليها بصرخاته وندائه المتواصل – بلثغته الحلوة الممتعة – رغم مآساة الموقف – لأمه " اتوما ".
كثيراً ما كنت اخجل من نفسي عندما اجدني عاجزاً امام موقف ما، فاذا حدث ذلك بالامس لذهبت الى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي:
صدر القرار منك ؟
كنت مجبراً … فانت تعرف لا شئ بأيدينا تماما ..
ولماذا كلتومة … فهي تعول اطفالاً وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات.
لم يكن الامر بشأن كلتومة وحدها..
ولكن حظها.. فلابد –كما تعرف – ان يكون هنالك ضحايا قالوا ان الوالي في زيارة جاسوسيّة في كل مكان. ويجب ان يعرف ان الناس هنا تعمل، تحارب الفساد الى آخر الاوهام كما ان كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش، لقد أخبرها "احمد صالح" ..
ولكنهم وجدوا عندها جالوناً من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح.
هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم.. فهم غالباً لا يجدون شيئاً عند هؤلاء النسوة..
وما العمل ؟
كالعادة نخفف الحكم ما امكن وبدلاً من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائماً..
هذا ما كان يحدث إذا وقعت احدى " زبوناتنا " في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم " جلال الجميل " ؟!
فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن – فقط – الويسكي " والانشا " ويدعى مخالفة الله والتقوي، وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.
جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه ما تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص الى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها " مشفقة او شامتة " إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها وتحاول بقدر المستطاع وبجدية الا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يُخّيل للشرطيين القضاة او الجلاد، جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط " العنج " الأسود المشرب بالقطران والذي يصلي ظهرها مشقاً مبرحاً ممزقاً لحميات فيه عجفاء بائسة.
وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكاناً أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظه..
ثمانية وثلاثين إإيه.. هوب..
تسعة وثلاثين.. إييه.. هوب..
أربعون.. إيييه.. آآه.. تماماً مولانا... أربعون جلدة..
قال القاضي وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولاً من خلالها ان يكون تقياً، عادلاً، محبوباً وحاسماً في نفس الوقت..
هيا قومي.. استغفري ربك الله واعلني توبتك.. توبة نصوحة امام الجميع..
نظرت إليه – كلتومة – نظرة فاحصة، عميقة – أحسست انها معتصرة من خلايا كبدها – ثم بصقت على الأرض بصاقاً دامياً مرّاً – واقسم ان جميع المتفرجين: الإعراب ذوو الجلاليب المسودة من الأوساخ والتي تفوح منها رائحة وَبر الجِّمال والحمِّير،وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم. الشماسة أبناء الشوارع المتشردين.
أصحاب المتاجر – أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل ان يحضروا المحاكمة – الكلاب الضآلة الحذّرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضآلة أيضاً.
أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء، ناعقة. " المثقفاتية " مثلي – والذين ليس بإمكانهم فعل شيئ غير التعليق الذكي الصائب المُبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء " الكسرة "، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات.
أعضاء المحكمة " المتفلقصين " كمُخصيىّ القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون " معها او مع السلطة " الجميع.. الجميع بدون فرز ".. اقسم انهم جميعاً أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوفاً في عمق حلوقهم مراً كنقع الحنظّل.
ودون أن تحرك فوهتا عيناها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها – ساعية بخطي ثابتة سريعة – رغم ما بها من إرهاق – فكان عليها أن تسرع حتى لا تُفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.
حذاء ساخن
عندما انتصف النهار في ساعة الملازم حديث التخرج، المستبد، كانت الشاحنة المجروس عند التقاطع الرئيسي، وعلي السائق أن يتجه شرقا ويسلك الطريق الترابية المؤدية الي الموقع العسكري الحدودي، الذي يبعد مائة ميلا عن مدينة كسلا، لا عربة غير هذا المجروس العجوز علي الطريق، لن تكون هناك عربة أخري، فالمنطقة معلنة كمنطقة عمليات حربية، حولها تنتشر أودية من الألغام البشرية، أما القري المحيطة بها فهي خالية تماما من السكان، تسكنها الوطاويط، الحيات، الكلاب، القطط المتوحشة والذئاب، حولها الجنود نصف أموات، نصف أحياء نصف بشر، يعتصمون بجثث آلاتهم الثقيلة، مدافع الهاون، الراجمات وما لا يدري أحد من المميتات.
الشاحنة المجروس تنهق علي الشارع الترابي الوعر وهي تقفز علي الخيران التي تظهر فجأة أمام السائق، كأنما يدفع بها شيطان ماكر علي الطريق، مختلطة سحابة الأغبرة الكثيفة بحر الشمس الصيفية المُذاب في الهواء، كان الملازم حديث التخرج المستبد، يركب يمين السائق، لئيماً متكبراً، يري بينه وبين نفسه، بين فينة وأخري، أن الله ماخلق هذا الكون إلا ليصبح مسرحا لعنجهيته. في الحق كان لا يري في الكون غير فرقته العسكرية ومعسكره الحدودي، اذا اتسعت مخيلته فالعالم هو السودان، أما بقية الدول فهي دول خائنة وعدوه وحتما سيعينه الله علي فتحها، أنا حرسه الخاص، استغل صندوق العربة الضخم المفتوح علي السماء مباشرة، لا تحجبه عن الشمس غير الشمس ذاتها. كنت أشوي ببطء فلست أكثر من مجند يؤدي الخدمة العسكرية الالزامية كرها، وقد الحقت بها بينما كنت في سفر الي الخرطوم، بحثا عن وظيفة ما أسد بها رمق أفواه تخصني، صادفت احدي الكشات، ولو ان كثيراً مما معي من المكشوشين، هربوا، الا انني استسلمت للأمر الواقع: فلأي واقع بديل أهرب!!
الشمس تشويني، أنا مغطى بغبار أحمر ناعم ملعون، احمل علي كتفي بندقية ج3 ثقيلة، محاولا بقدر الامكان، أن أكون في وضع الاستعداد، وان أكون منتبها، متفحصاً الخلاء حولنا، الصحراء قاحلة، ليست بها شجرة واحدة أو حيوان، دعك من انسان، تبدو الحجارة الصغيرة عليها من بعيد في أحجام الجنادل، هذه الميزة مكنتني – وأيضاً السائق والملازم حديث التخرج المستبد- أن نميز وجود رجل علي بعد أميال كثيرة، ملابسه البيضاء تجعله كبقعة كبيرة من الضوء بعيدة، بعيدة تصغر كلما قربنا منها، ثم تبيناه: رجل شيخ يحمل ابريقاً وجراباً صغيراً وعصا يتوكأ عليها، ولأن الضابط حديث التخرج المتغطرس لديه وهم أن كل من وجد وحيداً علي مسافة من منطقة عسكرية، هو جاسوس، أوقف الشاحنة المجروس الضخمة:
أنزل يا حرس، وكن في وضع الإستعداد، لأنني سأستجوب هذا الجاسوس، فاذا بدرت منه أية بادرة عدوان أطلق الرصاص في الرأس أو القلب.
وكنت صائداً ماهراً: قنّاص.. لهذا السبب اخترت كحرس لهذا الملازم حديث التخرج المتغطرس،
حاضر سعاتو.
وكلمة سعاتو هذه تعمل في نفس الملازم حديث التخرج فعل السحر: فابتسم
قال العجوز القويّ والذي يحمل ابريقاً ومخلاة من جلد الماعز صغيرة علي ظهره، يرتدي سروالا وقميصاً نظيفين، يمشي حافياً، وجهه نظيف، ولو انه معروق ويبدو عليه الإرهاق.
تشيلوني معاكم لقرية سماورا ؟
القرية علي بعد عشرين ميلا من حيث وجدناه. تأكد الملازم حديث التخريج أن هذا الشيخ لم يزرع الغاماً، الا أنه أفتاه قائلا:
دي عربية جيش ولا نِشْيل شخصاً مدنياً وأحمد الله علي اننا لم نقتلك، تأكد لنا انك لست سوي سابل جائع منبوذ لامعرفة لك بزراعة الألغام وأمور الحرب، مجرد ملكي ساكت،
كالعادة آخر من ركب هو أنا، تحركت الشاحنة المجروس تاركة الرجل للشمس: جحيم فوقه، جحيم تحته، وسرنا لمسافة مائة متراً فقط. توقفت العربة وعندها قفزت علي الأرض في وضع الحماية وسألت:
توقفت العربة من تلقاء نفسها ؟
أجاب السائق.
وقدر ما حاول السائق أشعال المحرك إلا أن محاولاته كلها فشلت، فنطّاس الوقود ملآن، البطارية مشحونة، الأسلاك جيدة التوصيل ناقلات الوقود والحركة فاعلة، لا شئ.. لا شئ علي الاطلاق، وبينما السائق يحاول مرة أخري اشعال المحرك اذا بالرجل الشيخ قريبا منا قائلا:
تشيلوني معاكم ؟
أبعد من هنا، والا أمرت العسكري يديك طلقة في صلعتك دي.
ذهب الرجل دون أن يقول شيئا وتحركت العربة لمسافة مائة متراً أخرى ثم توقفت من تلقاء نفسها وبينما يحاول السائق اشعال المحرك اذا بالشيخ:
تشيلوني معاكم ؟
فانتهره الملازم حديث التخرج المتغطرس الذي يظن أنه ماخلق الله العالم الا ليكون مسرحا لخيلائه.
- أمش يا زوّل!!
ثم خاطبني الملازم حديث التخرج المتغطرس قائلاً:
- اذا اقترب هذا الرجل منا مرة أخرى أطلق عليه النار.
فاقترحت علي الملازم حديث التخرج المتغطرس اقتراحا دعمه السائق قائلا:
- ليه ما نشيلو معانا ما ح يكلفنا حاجة.
أنا المسؤول وأنا اليشاء! انتو شنو غير عساكر حاجات لتنفيذ الاوامر.
لا أدري كيف أحسست بأن الشخص هو الذي بقوة خفية كان يوقف العربة ثم يطلقها، وان له كلمة قوية علي الأشياء وانه يستطيع، وانه يفعل وانه يريد، لكن كيف أجعل الملازم حديث التخرج المستبد يفهم، ولو أن السائق قد فهم ويبدو ذلك من تقعر عينيه، كلما توقفت العربة، سمعت كثيراً عن الأولياء والصالحين، قرأت طبقات ودضيف الله، لكن كان ذلك لمجرد قراءة كتاب مهم لرجل جامعي مثلي، يجب أن يعرف الكثير عن السلطنة الزرقاء وبنيتها الروحية، كنت أفكر: لن اؤمن بهذه الخرافات الا اذا رأيت معجزة ما بعيني.
ثم تطوّرت الفكرة في ذهني، لماذا لم أتمكن من معرفة حقيقة هذا الرجل، لماذا لم أقنع الملازم حديث التخرج المتغطرس، انها فرصة وضاعت، انه طريقي لكي اعتزل حياة المادة بكل ضغوطها ومآسيها وأعيش نقياً شفافاً زاهداً، متجولا في الأرض أنشر المعجزات هنا وهناك، أنه يقودني الي النقاء الانساني الروحي، الذي هو حلم كل شخص، ان امتلك المقدرة علي التواجد اينما شئت! أصبح صاحب سلطة علي كل شئ حتى علي الآلة، ولكن في العودة قد نجده علي الطريق، عندها لن أبرحه، الا بعد أن أعرف كل كبيرة وصغيرة، بعد أن أفض أسراره، ولو كلفني ذلك العمر كله، بينما أنا في هذا اذا بنا نصل قرية سماورا، ذلك بعد مسيرة ساعة كاملة بالشاحنة المجروس، عبر الطريق الترابية الوعرة، قرية سماورا كغيرها من القري الحدودية، خالية من السكان مسكونة بالذئاب والنسور والصْبرَات، كثير من الكلاب والقطط التي توحشت، هناك شخص واحد فقط يجلس تحت شجرة، علي جانب الطريق، عندما توقفت العربة قربه، وجدناه هو ذاته الشيخ ذو الإبريق صاحب مخلاة الجلد، الحافي، ذو الوجه النظيف العرق، عندما شاهده الملازم حديث التخرج المتغطرس جحظت عيناه، جف ريقه، حاول أن يهبط اليه، ربما ليقبله في رجليه، ليرجوه أن يسامحه، دمعت عيناه، لكن فجأة أمسك به السائق في كتفه، همس في أذنه، فتصبب الملازم حديث التخرج المتغطرس عرقا غزيرا، أدار السائق المحرك بسرعة رهيبة، كنت أرقب كل شئ بحذر ولكني لم أحاول أن أفسر ما حدث ولم تكن لديّ الرغبة في ذلك وانطلق المجروس، الشاحنة العسكرية العملاقة، مخلفة وراءها غابة من الغبار وأخذ الغبار يهبط علي رأسي وأنا جالس علي الأرض متخفياً خلف قطية صغيرة حتى لا يراني السائق أو الملازم حديث التخرج المتغطرس بالمرآة، وعندما تأكدت تماماً من أنه ليس بالامكان رؤيتي خرجت من خلف القطية وذهبت نحو الشجرة التي كان الشيخ يجلس تحتها. ولم أجد أية أثر يدل عليه. نعم كانت هناك بقايا ماء علي الأرض حيث يبدو أنه توضأ ولكن هي لحظات فقط، ليست أكثر من دقيقة واحدة، بل ما يزال جعير المجروس مسموعاً وغباره يغرق المكان. وأخذت أصرخ وأنادي بأعلى صوت:
أيها الشيخ.. أيها الشيخ.. أيها الشيخ..
ولكن ليس من مجيب، أخذت أبحث عنه داخل المنازل المهجورة فلم أجد سوى الكلاب والتي ذعرت برؤيتي، حيث انها لم ترِ انساناً حياً منذ سنوت مضت، كانت الكلاب المتوحشة تنبح خلفي وتحاول عضي واعاقتي، كانت القطط تخرج هاربة من القطاطي المهجورة فزعة، خرج ضَبْعٌ كبير من احدي الحجرات المهجورة وهرب، فهربت خلفه الكلاب حيث تركتني بحثاً عن فريسة سوف تصبح أكثر اشباعاً، كانت القرية خلاء، في الحق أصبت بهلع شديد وأنا رجل أعزل حيث تركت البندقية علي صندوق العربة حتى لا يجدون في البحث عني من أجل البندقية هكذا تعلمنا: البندقية أهم من الجندي.. أترك بندقيتنا عندنا وأذهب الي الحجيم وحدك.
كانت الساعة تشير الي الثالثة مساء وأنا ما أزال أنادي وأبحث عن الشيخ طالباً منه بصراخ حاد أن يأتي الي لأنني أؤمن به وأريد أن أصبح له تلميذاً وخادماً وحواراً.. انني سوف انفق ما تبقي لي من عمر في خدمته: لقد وجدت الآن طريق الله ولن اتخلى عنها ابداً.. جلست تحت الشجرة ذاتها حيث كان يجلس، كنت تعباً مرهقاً وخائفاً أيضاً، الشمس الآن تذهب نحو المغيب وبالقرية لا شئ سوي الكلاب المتوحشة والذئاب وربما الاشباح أيضا. نعم أنا شخص مادي ولا أومن بهذه الأشباح ولكن الآن أمنت.. هناك أمور أعرفها بالباراسيكلوجي والميتافيزك، نعم، هل لبنية عقلي المادية الصرفة أن تؤمن بأن هناك نفر من بيننا يمكنهم فعل أشياء خارقة للطبيعة؟.. أناس يتواجدون حيثما شاءوا وكيفما أرادوا؟ أناس لديهم سلطان علي العلم نفسه، العلم الصرف، يمنعون متحركاً من الدوران؟ يمنعون بندقية من أن تطلق النار؟ يختصرون الأميال في خطوة، الآن لا شئ فوق مقدرة هذا الانسان! أعرف أنه لا عربة سوف تأتي بهذا الطريق، وأنني لا محالة مأكول، أما أن تتعشي بي الكلاب أو الذئاب وربما القطط المتوحشة والتي رأيتها بأم عيني تأكل بعضها. قرب الشجرة قطية قديمة، درت حولها لها باب قديم من الزنك، قمت بدفع الباب ببطء، داخل الحجرة عنقريب كبير يملأ معظم المكان، به هيكلان عظميان لطفلين، أغلقت الباب بسرعة وهربت، جريب بأسرع ما أستطيع علي الشارع الترابي الوعر، كنت لا أعرف الي أين أنا ذاهب المهم كنت أحس بالطمأنينة كلما ابتعدت عن هذا المكان المرعب، والشمس تذهب بعيداً نحو الغروب: يا أيها الشيخ.. أين أنت..
كان فمه يرتجف وعيناه تزدادان اتساعاً كلما بعدت الشمس عنه ولا أحد، كانت القرية تمضي بعيداً عني، بعيداً.. بعيداً.. الي أن اختفت اخيراً، توقفت، قرأت المكان من حولي، الشمس كانت خلف ظهري، اذاً أسير شرقاً، فاذا واصلت السير ولم يعقني عائق ولم يتفجر تحت رجلي لغم فانني سأدخل الحدود الارترية بعد مسيرة عشر ساعات، ولكن لماذا لم انتبه بأن هنالك الغام مزروعة بين هنا وهناك ولا أحد يعرف كيف يتجنبها، الآن أحسست بالرعب الحقيقي لأنني اذا خرجت حياً من هذا الحقل سأعتبر نفسي ولياً و رجلاً صالحاً يأتي معجزات ذلك الشيخ الغريب، وهنا أخذ العرق يتصبب علي وجهي وبين فخذي وتحت ابطي، وأخذت أمشي كالحرباء واضعاً رجلاً على الأرض في خفة وبعد تردد اسحبها، انه سوء تصرف من جانبي، جعلني أترك الشاحنة المجروس تمضي بدوني؟ لماذا لم اتريث، نعم، اذا تركت هذا جانباً، لماذا عندما هربت من الهيكلين العظميين لم أتخذ طريق المجروس، وهي الطريقة الوحيدة الخالية من الألغام والغريب في الأمر أنني كنت حرساً للمهندسين العسكريين الذين قاموا بزراعة الألغام حول هذه القرية ألف لغمٍ شخصيٍّ مغطاة بالبلاستيك حتى لا تتمكن أجهزة العدو النازعة للألغام اصطيادها، ولكن لا ذنب لي، فكنت مجرد منفذ للأوامر وأنا في داخلي وصميمي ضد هذه الحرب وقتل الانسان لانه لا خصومة لي مع أحد ولا معرفة لي بالذي أحاربه.. فكيف أقتله؟
كان يمشي كالحرباء تماماً كالحرباء.. "الشمس تجري لمستقر لها" وحيد خائف ومتردد، قد ينقذه فجأة في الوقت المناسب، نعم، هكذا في القصص والأحاجي وكتاب الطبقات، فان الأولياء يتدخلون لانقاذ مريديهم في اللحظات الحاسمة، وأنا أثق في هذا الرجل، إنه رجل صالح. إنه رجل صالح. ان لم يكن نبي الله الخضر ذاته!! والذي يتجول في العالم منذ بدء الخليقة الي أن يرث الأرض وما عليها ناشراً الحكمة والمعرفة بين الناس.. من أدرك!!
ليته عرف من جدته عنه الكثير.. لكن وعلى حقيقة القرية المهجورة والقطاطي المسكونة بالهياكل العظمية والقطط التي تأكل بعضها، فكر في الشيخ نفسه، قد يكون شبحاً من الأشباح من أدراك؟!
ما كان يؤمن بالبعاتي واعتبره ظاهرة ورثها المجتمع السوداني أو المخيلة السودانية من النوبة أجدادهم قبل ستمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث كانوا يؤمنون بان لكل انسان في هذا العالم كا و با وهذا الباء هو صنو الانسان وعندما يموت الأخير يكون الصلة بينه وبين الآخرين في الحياة الدنيا وانه نسخة عنه.. والآن أنت محاصر، الموت تحت أقدامك، ألغام الموت حولك، ذئاب وكلاب وقطط متوحشة، الموت من حيث لا تدري أشباح، ورغم كل هذا كنت متفائلا بأنني لن أموت، قد تعود الشاحنة المجروس للبحث عني اذا افتقدني أحدهم، ولكن يا ترى بماذا همس السائق في أذن الملازم! لا.. لا.. انه رجل طيب وصالح، أنا أثق به انه ليس بكا ولا با رجل صالح وسينقذني!!.. بل سيتخذني حوارا له،
أيها الشيخ.. أيها الشيخ!!
وكمن يؤذن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ واجد نفسي في أمان الله وحفظه علي سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!!
الحياة مدرسة ولكن لا يدخلها الا الحمقي، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرت في هذا الحين بالذات أدجار ألان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت.. ماذا.. جيفا في ديو مور جبو.. كنت أمشي واذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، أعجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، انه لامجال لذلك لانه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان، وبمجرد ان خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جارياً: يجب علي ان لا أؤكل سهلاً يجب ألا استسلم للموت، ومرت بذهنه معارك خاضها: جثث تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود هكذا مات أصدقاؤه أيضا، مات جنود كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتي أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأ لها.. ولكن لن يموت هكذا رخيصاً وبارداً. وهكذا الرجل التقي العنيد لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء.. لا شفقة!! ليتني ؟! ولكن هل تنفع ليت!!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط. والأسوأ احساسه بأنه خدع، والاحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره "لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا" ولانه كفر به عرفه أكثر وأوضح عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الايمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشر ليلاً بالضبط هكذا كانت تشير ساعته سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!!
وعندما ثبت قدمه علي الأرض أحس بشئ يرفعها، لم يسمع دوياً كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس علي أثره علي الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحرس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كاف من الراحة، لم يسمع دوياً ولكنه رأى ضوءا قوياً كثيفاً يعم المكان كله.. ثم لم يعد يشعر بشئ سوى ظلام قاتم.
يناير 2000م
الحكاية الكاملة
لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
قال له الملحق الثقافي ذو التغضينات الجميلة على وجهه الثري الناعم الملآن، قال له وهو يقلب شهاداته بكفه البيضاء ذات الأصابع النظيفة الشهية، قال وبشفته ابتسامة مراوغة، ظنها الأستاذ صابر في بادئ الأمر نوعا من مظاهر الثراء التي تعم المكان كله، ولكنه اكتشف بينه وبين نفسه، فيما بعد أنها ليست سوى مسحة حزن كان لا بد منها لخلق جو ملائم لما سيقال، قال له:
بصراحة يا أستاذ شهاداتك الجامعية كلها ممتازة ومدارسنا في حاجة ماسة لشخص مثلك يمتلك المؤهل،
ثم صمت قليلاً قبل أن يضيف بصوت خفيض عميق وكأنه يحدث نفسه:
ماجستير في التربية، ليسانس لغة عربية بدرجة الامتياز، دبلوم كمبيوتر مع خبرة في التدريس لمدة عشرين عاما؟ هذا نادر الحدوث..
ثم أضاف وبصوت عال ولهجة حادة بعض الشيء:
ولكن لا رجعة فيما قلته لك!!.. لقد انتهى التقديم! كم هو مؤسف..
ثم صمت ولم يكمل وكأنه يريد من الأستاذ صابر أن يقاطعه، ولكن الأستاذ صابر والذي يعرف أن السكوت من ذهب، كان يحب أن يحتفظ بذهبه، في الحق ما كان لديه ما يود قوله فقد قال كل شئ للملحق الثقافي والذي استجوبه فيما يقارب نصف الساعة، لم يترك شاردة أو واردة إلا اشبعها سؤالاً. بدءاً من عمره وانتهاءً بصحة زوجته. لذا عندما لم يكمل الملحق الثقافي جملته نهض واستأذن أن ينصرف ولكن الملحق ذو الأصابع البيضاء الشهية أشار إليه بالبقاء.
بعد أن أجرى عدة مكالمات. ابتسم وجهه السمين الثري مظهراً أسناناً منتظمة عليها صفرة فاقعة وقال:
أنت رجل محظوظ، ورد للملحقية عقد قبل خمسة دقائق، أي أثناء وجودك هنا، علي هذا المقعد. و طلبت الموثق أن يحضر الآن ويحاورك في شأنه،
قبل أن يجد الأستاذ صابر وقتاً لكي يبتسم، إذ بالموثق يدخل وفي يده حقيبة..
الموثق أبا يزيد الدينوري
الأستاذ صابر الدقيس
لأبي يزيد الدينوري أيضاً أنامل بيضاء شهية يجيد التحدث مستخدماً أصابعه السمينة والتي كثيرا ما ساهمت، فيما بعد، في إقناع الأستاذ صابر الدقيس، قال أبو يزيد بعد أن جعل وجهه النظيف يبتسم:
إنه ليس عقد تدريس كما كنت ترجو وكما مؤهل له، ولكنه أكثر فائدة ودخله ألف مرة ضعف دخل مدرس مؤهل مثلك أو يزيد، ولكن به إشكالية واحدة هي أنه مستعجل جداً وسري، ويجب تنفيذه خلال ساعتين فقط من وصوله القنصلية.
في الحق مل سريعاً الأستاذ صابر حديث أبا يزيد الدينوري حول العقد دون النفاذ إلى نقطة إجرائية سريعة ومفيدة، ولكن بطبع الأستاذ صابر أنه لا يتعجل الأمور ولا يحب مقاطعة المتحدث مهما أمله حديثه، وأخيراً قال أبو يزيد وهو يعتدل في جلسته السمينة الهادئة والتي ما كانت في حاجة لأي استعدال:
إنه عقد سجين.
صاح الأستاذ صابر الدقيس بصوت أحس فيما بعد أنه كان عالياً بعض الشئ ولا يناسب الجو الدبلوماسي الذي هو في قلبه:
عقد سجين ؟
قال أبو يزيد بثقة وعلى فمه ابتسامة ثقيلة باردة:
نعم.. عقد سجين.
ثم واصل بثقة مفرطة وآلية:
ستبقي في السجن نيابة عن أمير وسيدفع لك مقابل ذلك بسخاء منقطع النظير..
قال الأستاذ صابر وقد بدأ منفعلاً قليلاً:
أنا حياتي كلها لم أدخل الحبس ولا مرة، بل لم أقف أمام قاض أو شرطي.. فكيف لي أن أدخل السجن ؟!
قال أبو يزيد وقد بدأ طيباً ومتسامحاً وخيراً في ذات اللحظة بل ومبشراً عن جنة غامضة، في برود معلوماتي كبرود الكمبيوتر:
يا أخي يا أخي هون علي نفسك.. السجن عندنا في بلدنا ليس كالسجن عندكم هنا في دولة فقيرة تعاني من عسر خدماتي عام مزمن، أضف الي ذلك أنك ستسجن باسم أحد الأمراء المرموقين، أي أنك ستكون في محل أمير، ممثلاً له متمثلاً فيه، أي أنت الأمير ذاته في السجن، فتخيل كيف يكون سجنك!! أنت فيما يشبه جناح بقصر أميري، حجرات متسعة مكيفة صيفاً وشتاءً وعندك أحدث ما أنتج العقل الياباني من تلفاز ذو شاشة سحرية به الصورة ذات أبعاد ثلاثية وألف قناة عالمية في اشتراك دائم بالقمر الصناعي العربي أراب سات رهن لمسك جهاز الرموت كنترول، جهاز فيديو وكمبيوتر متصلاً بشبكة الانترنيت يقوم بتسليتك وتزويدك بما تشاء من معلومات وبإمكانك أن تستثمر سنوات سجنك الأربع، في التحضير للدكتوراه، فيما تشاء من جامعات العالم، وكل جامعات العالم رهن مكالمة تلفونية منك لأميرك.. لا أكثر. لديك مطبخ مهيأ به كل ما سمعت من أدوات، وما لم تسمع به، وستدهش لرؤيته، بأم عينيك، بين يديك، ولن أسمي لك شيئاً، لكني سأترك لعنصر المفاجأة مجالاً.
الطعام وما أدراك ما الطعام ؟! قبل كل وجبة بساعة يأتيك طباخ السجن بقائمة تحتوي على مائة صنف من الأطعمة، ومائتين من المشروبات، وورقة فارغة لكي تكتب فيها ما تريد أكله، وهو لا يوجد ضمن المائة صنف. تفاحك من لبنان وحيفا، وعنبك من عرائس كروم قبرص، وإذا شئت أن تطعم مما تطبخ زوجك يومياً، لكان لك ذلك.. يا أخي.. بالسجن عالم من المفاجآت والدهشة، وكيف لا وأنت أمير.
الرياضة ؟! القراءة؟! الجري ؟! تنس الطاولة، ما هي مواهبك؟.. بل ما هي أحلامك؟ ماذا تريد في هذه الدنيا؟ ما هواياتك ؟.. شطرنج.. هل تلعب الشطرنج بالكمبيوتر، لك طبيب خاص، ولك ممرضتين تجدهما قربك وقتما شئت، وبإمكانك اختيارهما من بين أجمل الفتيات المستوردات من شرق آسيا، وأخيراً أخذت السجون في بلادنا تستورد فتيات من روسيا، بعد انهيار الشيوعيين هنالك.. بالسجن يا أخي، بالسجن يا أخي..
كان يحكي في برود معلوماتي قاس، أما الأستاذ صابر الدقيس، فقد ذهب بفكره وقلبه بعيداً.. بعيداً.. في مجاهل الحلم الواقع، الغد البؤس، الأصدقاء..
وداعاً أيها المعلمون، أيها البائسون، حشرات العدس والفول والشاي الماسخ، ديدان الطباشير المنقرضون، يا أحبائي المساكين،
هتفوا بصوت واحد أجوف:
فور وصولك أرسل إلينا عقود مساجين، ألف عقد وعقد، أطلب منهم أن يفتحوا سجوناً جديدة، وقل لهم هناك مساجين في انتظار السجن! فمدوا إليهم يد العون والمساعدة، يمد الله في أعماركم مدا.
السجن يا أخي في بلادنا، جنة.. جنة.. جنة علي الأرض، يا أخي، وما نقدمه إليك مقابل ذلك، مال سخي يدهشك. فحين توقيع العقد، نسلمك شيكاً بمبلغ أربعة مليون دولار، يمكنك إيداعه بالبنك، باسم زوجتك أو أحد أطفالك، شهرياً سيضاف لرصيدك، بإشارة بنكية، مبلغ ألف دولار. هذا فضلاً عن نثرياتك ومصروفك الشخصي، أضف إلى ذلك المعاش الوراثي، لحياة آخر فرد من أسرتك، يا أخي، هذه هي فرصة العمر، والعمر فرصة واحدة لا غير، وان أميرك هذا، رجل كريم شهم، وما ألصقت به من تهمة إلا مؤامرة خبيثة، دافعها الحسد والغيرة، والذين يعرفونه عن قرب، الملوك والأمراء، يشهدون أنه ليس باستطاعته إيذاء نملة، دعك من ارتكاب جريمة! وكان بإمكانه ألا يمثل أمام القضاء، ولا يرضخ لحكمهم، ولكنه يريد للعدالة أن تأخذ مجراها، فنحن، ومهما يقول الغرب عنا، إلا أننا ديمقراطيون في عمق أخلاقنا وثقافتنا..
يا أبي.. بابا صابر.. قل لهم يوفرون لنا حجرتين ملآنتين باللعب والبسكويت..
وأنا أريد كوكاكولا أيضاً..
قل لهم يا أبي.. أنهم لا يرفضون طلبك.. وإلا بلغت الأمير ليقوم باللازم..
هل يسمح لي بزيارتك ؟ أنا لا أستطيع البقاء من دونك.. ولا أتحمل مسؤولية التربية.. فأنت تعرف أن الأطفال يفسدون دون رعاية والدهم ؟!
ليس بإمكان أحد زيارتك، وأنت في السجن، لأنك مخفي تحت اسم ولباس أمير، ووجهك سيظل مغطى بحجاب دائم، مثلك مثل كل السجناء، الذين ينحدرون من أصول عريقة، وأسر لها مكانة اجتماعية أو سياسية كبيرة، فهم لا يحبون أن يميزهم أحد.. وماذا تريد من زوجتك. هل ستحتاج إلى زوجتك؟
هل قالوا لك أربع سنوات ؟
ألا تشتاق للمشي في الشوارع المشمسة، وأكل التسالي، تحت أشجار المهوقني.. قرب المدرسة؟ ألا تشتاق للصلاة بالزاوية مع الأحباء ؟ ألا تشتاق لقهوة الظهر.. ونسة العشاء.. ألا تشتاق لأطفالك وهم يتواثبون علي حجرك، وبأيديهم بقايا حلوى وطبيخ، بصدورهم شئ من الرّيالْ، فيلوثون ثيابك، ولا تستطيع أن تنهرهم إلا مبتسماً.. ألا تشتاق...
لا يهم.. لا يهم.. عندما تعود ستعوض كل ذلك وأكثر.. ستعود لأطفالك بالمال الوفير.. وحينها: سحقاً للملاريا.. سحقاً لسوء التغذية.. سحقاً للرمد.. سحقاً
لا تكن عاطفياً أكثر من اللازم. السجن يا أخي بالنسبة لك طوق نجاة، وأعرف أنك ستفتقده يوم خروجك منه.
ومن يعلم، فقد يصدر عفو ملكي عام، ويشمل أول ما يشمل أنت، وتكون قد أفدت من العقد كما لو أنك قضيت السنوات الأربع.
سافر.. سافر.. سافر.. أنت الآن في سجن كبير، فما يهم أن تدخل حجرة منه، هي.. جنة حقه.
أمامك ساعتان للتفكير، أجلس في المكتب المجاور، واستشر نفسك، ولا تشغل نفسك بإجراءات السفر.. جوازك.. الكشف الطبي.. إيصال مصروف أبناءك.. أو حضورهم لوداعك، فكر يا أخي ؟
أنت ترفض نعمة الله، سجن.. أهذا سجن، الذي أنت فيه الآن، ألست أنا مدير المدرسة، وأنني وريث لمال تعلم أنت قدره، إذا وجدت فرصتك هذه فأنني لن أتردد لحظة واحدة في الموافقة.. هذا رزق ساقه الله إليك.
أقول بصراحة، أنا متشككة في هذا الموضوع ؟ هل هناك أمير يسجن ؟ انهم ربما يودون سجنك بدلاً عن تاجر مخدرات ثري.. أو أي شخص.. المهم الأمر برمته ليس مفهوم لدي..
دعيني أقول لك، بصراحة أيضاً، انك امرأة أحادية النظرة دائما تنظرين إلى الأمور من زاوية الظل.. الزاوية العمياء، تفاءلي لمرة واحدة في حياتك ؟
موافق.. موافق.. متي السفر.. أريد أن أسافر الآن.
أقرأ العقد أولا.
في يوم الثلاثاء الموافق الأول من مايو 1997م، وعند العاشرة صباحاً وبينما كانت زوجته، المعلمة بمرحلة الأساس، تستلم حوالة بنكية بمبلغ أربعة مليون دولار، ولولا أنها كانت مشغولة البال بأسئلة ملحة في رأسها:
لماذا لا يخبرني ؟ هل كان يظنني سأقف دون سفره؟ هل سأحرمه وأحرم أبنائي كل هذه الثروات؟ لماذا يسافر هكذا فجأة ودون علم أحد؟ وأيضاً، لولا أنها كانت مأخوذة ببريق الدولارات الخضراء، ذلك البريق الفسفوري الآخذ بالألباب، لسمعت صوت المذيع الرخيم يعلن إعدام الأمير حران بن البحر المجيعد، بعد محاكمة سريعة وسرية، اثر قتله لوالده الشيخ المجيعد، وقد تم إعدامه صبيحة الأمس بالكرسي الكهربائي، ووريت جثته الثرى، بصمت تام.
2000
صاحبة المنزل
هو شخص عادي، عادي مثلك، يعشق السلام ويحب أن يكون آمناً محبوباً، فهو مثلك يحب أن يكون محاطاً بالنساء الجميلات ولكن المرأة الجميلة عنده هي ليست مارلين مونرو أو صوفيا لورين ولا حتى ملكة جمال ملكات جمال العالم.
المرأة الجميلة عنده هي المرأة التي تقبل أن تذهب معه إلى مسكنه، أو وجره كما يسميه، حجرته الطينية الغبشاء وتجلس على عنقريبه المتهالك العجوز ذي اللحاف المتسخ ببقايا الصاعوط وكأسات العرق الأخيرة والتي قد يضطر على شرابها وقد بلغ السكر أشده فتندفق علي اللحاف مذيبة بقايا الصاعوط فيشكل المزيج خرائطاً بائسة، فهي اذاً امرأة بالغة الجمال إذا شربت من جركانة الماء المملوءة منذ يومين، التي بني الطحلب علي جوانبها – اخضر لزجا وماسخا – مستعمراته، اذاً هي أجمل من هيلين طراودة اذا تمطت علي عنقريبه ثم... نامت. هو شخص عادي وبسيط مثلك، فلماذا لا يهيم بالصبية الرد فاء التي تبيع السمسمية عند الحنية الصغيرة قرب بيته، الصبية التي عرف إنها جميلة منذ أول جملة قالتها له عندما استدان منها ولأول مرة قطعة سمسمية كبيرة.
أأنت الذي يسكن ذلك المنزل ؟
مشيرة بإبهامها الرقيق – رغم سمنته – نحو وجره.
(2)
صاحبة المنزل، صاحبة الحجرة الطينية الغبشاء، والتي يتخذها وجرا لنسائه الجميلات وقلعة تحميه إلحاح الدائنين ولجب عسكر الخدمة الإلزامية.
قد تبدو هذه المرأة بمقياسك للجمال، هي أجمل سيدة تقع عليها عين في مثل تلك الحارة ولن أصفها لك، ولكني أهمس في أذنك بأن تنظر الي التلفزيون الآن وإذا بدأت أمامك مذيعة لا يهم من تكون تمعن في وجهها فهي تشبه صاحبة المنزل كثيرا عندما تعمل فمها في اللغة، لأن المذيعات كما تعرف – عندما يلوين شفاههن وهن يحاولن إخراج الكلمات من بين أحمر الشفاه والأسنان المطلية بماء الفضة، فهن يتشابهن كثيراً في تلك اللحظة يشبهنها وهن يدللن اللغة فيخرجنها مخنثة أو دائخة من عطر الفم الكيميائي المخلوط بروح الأناناس أو الليمون، ويمكن أن نضيف إلى هذا الجمال الواضح البين كرمها، فهي تهبه يومياً وجبه كاملة وحتى صبيحة الأمسية المشئومة والتي ضبطته فيها يراقد الصبية الرد فاء بائعة السمسمية والتي كانت في تلك الأمسية أجمل امرأة في العالم، حتى بعد هذا الحدث الرهيب لم تكف عنه يد العطاء ولم تسأله عن أيجار الأشهر الثمانية المنصرمة، بالرغم من أنها انهالت عليه ضرباً مبرحاً بعصا مصنوعة من أحطاب الكتر، ضرباً لا رحمة فيه ولا مخافة من عذابات يوم الحساب، وعندما سقط مغشياً عليه أخذت تركله في بطنه وصدره ثم أهالت عليه التراب ثم صبت عليه ماء الجركانه المطحلب البارد، بصقت عليه مراراً ولو، لم يمنعها بعض الحياء النسائي والذي عادة ما يصطحب جمال المذيعات لتبولت عليه ثم تبولت عليه.
كانت قاسية وعنيفة بشكل مفاجئ ومباغت مباغتة شلته تماماً عن التفكير، بل ذهبت بوعيه وشتتت فتاة المتعة الإنسانية العميقة والتي كان يقتاتها بكل سلام وبراءة من بين ردفي أجمل امرأة في العالم، صبية السمسمية، تلك القسوة التي عجز عن وصفها لصديقيه بابكر المسكين، ومايكل أكول عندما زاراه في وجره صبيحة الليلة المشئومة، فقط اكتفى بأن خلع ملابسه واراهما ظهره ثم أعطاهما رأسه الذى ما زال متروباً ومطيوناً بماء الجركانة مطحلباً... ثم أراهما أذنيه المعضوضتين ثم ساقيه المكلومتين ثم سألهما عن آمنة.. عن عينيها الحلوتين البريئتين وعن ضرسها المسوس وهل ما يزال يؤلمها ؟! ثم أكد لهما بأن اللكمات التي تلقاها من هذه المرأة، كفيلة بقتل ديناصور وليس بني أدم مسالم وطيب مثله.
ولو أن الموقف كان في قمة المأساة إلا انهما انفجرا بالضحك وضحك هو أيضا، بالرغم من الوخزات التي كان يحدثها الضحك في ظهره ورئتيه وعندما سأله مايكل أكول عن مصير الردفاء، قال:
لا أعرف عنها شيئاً، لقد كنت في شبه غيبوبة.. فقط أعرف أنها اختفت عارية لان ما تجلسان عليه الآن هي أثوابها..
سألهما عن آمنة وعن كشه، الخدمة الوطنية الإلزامية، قال: له بابكر أن فوال المحطة الوسطى دايم السؤال عنه، كم طلباً من الفول أكلت منه بالدين؟ ّ ثم أضاف وهو يحملق في جرح بساق صديقه المغضوب عليه:
لقد أصابتك لعنات ام بخوت صاحبة الشاي، وصاروخ الكيف ولعنات كل فوالي العاصمة حتى بائعات التسالي وفارشي الكتب على الرصيف وبائعات عرق البلح والداعرات..
فرد مايكل أكول مبتسماً
أيهما أهون عند الله الموت جوعاً أم الأكل بالدين..؟
قال بابكر وهو يبصق سفة صاعوط
ولكن السكر بالدين.. والمزة بالدين..وحتى النساء بالدين ؟!
ألم يكن هذا ما يسميه خطباء الجمعة بالإثم المركب ؟!
ضحكا، فسي فسوتين متتاليتين، سأل عن آمنة أحس براحة نفسية عابرة سأل عن الكشة ونتيجة المعاينة الأخيرة، سأل عن آمنة وما إذا كانت ما تزال تتردد على المركز الثقافي الفرنسي باحثة عن عمل او تسهيلات لتأشيرة دخول لفرنسا، بعد أن خاب أملها في اصطياد ضربة حظ اللوتري الامريكي. طلب سفه صاعوط.
(3)
بصق سفة السعوط، قال أنه لم يقابل آمنة منذ أكثر من أسبوع فقد بقي بحجرته سجين الدائنين وعسكر الخدمة الإلزامية، الآن حبيس المرض.. طلب سفة صعوط أخرى، فقدم إليه مايكل أكول سيجارة كان يحتفظ بها في جيبه بعد أن دخن نصفها مناصفة وبابكر المسكين في الطريق، سأل عن آمنة وهل وافق الطبيب علي خلع ضرسها.
(4)
علي المنضدة الصغيرة المصنوعة من الفلنكة كان وعاء الطعام، أرسلته صاحبة المنزل في الصباح الباكر مع طفل صغير كالعادة، بالرغم مما حدث بالأمس... وكأنه لم يحدث شئ بل وكأن ما حدث لم يكن سوي مواجدة تزيد من التقارب الإنساني وتقوي العلائق الاجتماعية، فكان الإفطار دسماً وشهياً جعل ثلاثتهم يتذكر الوجبة الملائكية – كما تسمونها – والتي تطفلوا عليها بقاعة الصداقة وهي عبارة عن مأدبة عظيمة أقامتها أسرتان ثريتان احتفاء بنكاح وقع ببينهما.. فدخلوا كالمدعوين ثقة وادعاء للغني – ولو كان ذلك علي مستوي السلوك فحسب لان مظهرهما الخارجي كان يدل علي البؤس والعطالة – فإذا رآهم أهل العروس ظنوهم من أصدقاء أهل العريس وإذا رآهم أهل العريس ظنوهم من أصدقاء أهل العروس ولم يكتشف آخرهم إلا بعد أن شبعوا واتخموا بالمحشيات والمشويات والمقليات والسلاطة وحينما تذكروا آمنة وإنها الآن ربما تتلوى جوعاً.. فهل نبخل عليها بفرخة سمينة مطبوخة بالبهار والسمن البلدي محشوة بالزبيب والزيتون وما لا يعلمون ؟!
وأمام دهشة مئات المدعوين الأثرياء، تلك الدهشة المنعمة السمينة المشحونة بالازدراء وعفن الدونية. حمل بابكر المسكين الفرخة عارية تقطر سمنا بلديا وتفوح منها رائحة البهار الهندي، وخرجوا من مطعم القاعة مسرورين يغنون بصوت واحد نغما شائعاً رخيصاً يناسب ثراء المكان وعقد المناكحة المحتفى به، سادتي: أنا وصديقاي نحي فيكم روح الثراء، ونبارككم أبداً ما تناكحتم وشم بعضكم فيخ بعض.
(5)
سأل عن أمل، قالا له: إنها أنجبت ولداً واحداً فقط على الرغم من ضخامة فخذيها وسمن زوجها والذي في الغالب يزن اكولين ونصف بابكر، أي ثلاثة أكول إلا ربع الأكول، قالا انها ما تزال غنية وكلما قصدا منزلها أنقدتهما مالا لا يستهان به يمكنهما من شراء الصاعوط وركوب المواصلات وقد يتبقى لهما ما يساوي نصف زجاجة العرق ومزة رخيصة قد تتعدى الزيتون الأسود أو الفول المدمس.
قال إنه طوال هذه الأيام المقضية في حبسه كان يكتفي بوجبة واحدة صباحية يتيمة والتي تهبه اياها صاحبة المنزل مجاناً ولله وحده، ويقضي يومه في قراءة وول سونكا استعداداً لدراسته أكاديمياً في إطار إعداد بحث عن الصورة الشعرية في الأدب الأفريقي الحديث.
وأحياناً وفي بعض المساءات تشاء سيدة ما تكون أجمل امرأة في العالم وغالباً تقوم بهذا الدور الصبية الردفاء بائعة السمسمية، فتتسلل الي حجرته حاملة معها بعض السمسمية وتحكي - بينما يلتهم هو السمسية التهاماً- عن صديقتها الوحيدة والتي تبيع التسالي و حلاوة فوفل عند بوابة السينماء الوطنية، التي بإمكانها حفظ أي أغنية هندية بسماعها مرتين فقط وهي أيضاً تشبه الهنود في طباعها وأيضاً ملامح وجهها، فلها وجه مدور كالقمر ذو بشرة ناعمة شفافة يمكن من خلالها رؤية شرايين دمها.. شرياناً شريان. وبين حاجبيها لها شامة ربانية والذي جعلها هندية أكثر وأكثر هو أنها تستخدم كريم ديانا مخلوطاً بمعلقة من اللوكسيدآر وملعقتين من الكلي وقليل من الكبريت الأصفر مما جعل وجهها أبيض كالقمر المكتمل وأظهر شامتها الربانية السوداء بين حاجبيها الكثيفين.. آه.. يا ليتك رأيتها، حمداً لله.. لأنك إذا رأيتها ما كنت تهتم بواحدة مثلي لا تستخدم سوى صابون سبتو.. لا.. لا تظن إنني استخدم سبتو لأنني فقيرة..؟ لا.. ولكن لأن الديانا واللوكسيدآر.. والكلي وحتي الكليرتون والامبي تسبب لي حساسية.. ألا تري هذه البقع السوداء بوجهي.. إنها ليست خلقة ربانية!! ولكنها رغم جمال صديقاتها وتهندها، إلا أنها تعيب عليها قلة أدبها – فقلبها فندق.. وحبها وغرامها البوليس والجيش وأظنها تحاكي بذلك سيتا حبيبة كومار ابشلخة الخائن، فأنا عكسها، تماماً لا أذهب إطلاقا لبيوت العزابة ولا ميس الضباط وأكره ما أكره العسكر والبوليس. وأفضل عليهم بمليون مرة الطلاب وكانت تحكي له بينما يلتهم هو السمسمية التهاماً، وعندما يفرغ من التهام السمسمية يلتهمها هي، يلتهمها بحرفية وأستاذية تثير إعجاب صديقتها خدوج الهندية به، وحسدها عندما تقص عليها أثر كل مغامرة تقاصيل شبقة وحبه لها.
أخرج بابكر كيس تمباكه،ضغط على الكيس في عدة اتجاهات مختلفة بأنامله مكونا كرة صغيرة من الساعوط، أخرجها بميكانيكية، رفع شفته العليا فبدأ كحمار يتشمم بول أنثاه ثم وضع كرة الصعوط بكل أناة ودقة ما بين شفته العليا ولثته، ثم بصق على الارض حبيبات صغيرة من التمباك وكح. سأل عن آمنة، عن الإمساك المزمن والذي تعاني منه منذ شهرين ؟! كان سيسأل عن آمنة أيضاً وعن خديها اللذين يصيران شديدي الاحمرار عندما تجوع أو تقابل –صدفة- أحد دائنيها. أو عندما تقرأ نتيجة المعاينة والتي دخلتها مؤخراً ولم تجد اسمها بين من تم اختيارهم للخدمة، والذين تتفوق عليهم أكاديمياً، كان سيسأل.. لولا أن صوتاً نسائياً أخذ يصيح في الخارج منادياً باسمه صوت سيدة يعرفه تماماً ويخافه، فبغير ما شعور منه صاح مرعوباً.
- هي.. هي.. هي..!!
قالها كما لو أن جندياً ينبه رفيقه على الا يطأ اللغم والذي علي بعد نصف خطوة من رجله. هذا الأسلوب هو الذي أرعب بابكر المسكين ومايكل أكول وشل تفكيرهما فوقفا علي رجليهما في لحظة واحدة هي اللحظة ذاتها التي ولجت فيها هي الحجرة. لم يبد عليها إنها قد فوجئت بوجود مايكل وبابكر معه بالحجرة ولكنها تفحصت مايكل أكول بعين نافذة.
كانت سيدة جميلة بغير مقياسه بمقياسك أنت صغيرة، تلبس في احتشام تام وعلي رأسها خمار ثم فوق الخمار يلتف ثوبها المتواضع بأنامل كفتيها، تلتف خواتم من الذهب عليها فواريز بألوان شتي كما أنه لم يكن بمقدور احتشامها اخفاء فتنة جسدية جامحة تخصها، كان صوتها رقيقا وناعماً الشيء الذي جعله يعيد النظر في حقيقة أن هذا الملاك المائل أمامه هو شيطان الأمس ذو القبضة الحديدية والعصي الكتر والذي كاد أن يقتله ضرباً..
صافحتنا واحداً، واحداً، واضعة أناملها الرقيقة في اكفنا العجفاء ولكنه استطاع استشعار قوة رهيبة تكمن وراء تلك الأنامل الناعمة كالزيت، قالت برقة متناهية كأنها تخاطب عصفوراً أثيريا، إنني آسفة لقد كنت متوترة بالأمس وقالت إنها إذا أثيرت: اذا استغضبت تتملكني روح شيطان ولا أستطيع أن أتمالك نفسي وبإمكاني تحطيم كل ما يقع عليه بصري حتى ولو كان من الحديد الصلب، واكدت - وبعينيها دميعات رقيقات صافيات كالبلور ود بابكر المسكين في غرارة شبق روحه لو أتيح له لحسها- ان الله وحده هو الذي نجاه من موت محقق ثم اجهشت بالبكاء وهي تجلس علي منضدة صغيرة من الفلنكة وهي الأثاث الوحيد بالحجرة بالإضافة إلى العنقريب العجوز القصير ذو الحبال المزيفة، ببكائها أحس ثلاثتهم بطمأنينة بالغة وهم يراقبون اسحاح الدميعات الصافيات كأنها قطرات ندى علي بتيلات غاردنيا.
أخذ هو الآخر يعتذر عما بدر منه من سلوك أدى إلى استغضابك أيتها الجميلة، هذه الردفاء التي لا احبها واكره سمسميتها، ووجهها السبتوي، وتحدث بابكر المسكين عن القيم والاخلاق السامية والتي لا تمس، وهو منتعظ المفعال، في ذات اللحظة متخيلا وجهها الصغير المدمع في عطش كوني لا رواء له.
فتململ مايكل أكول في مجلسه وهو يسمع كلمات الخوف تخرج من بين فكي بابكر المسكين المرتجفين وتحت عينيه الزائغتين، غير ان هذا لم يمنعه من الادلاء بدلوه متحدثا عن بنيات الزمن الشريرات مشيراً بوضوح خبيث للصبية الردفاء وبطريقة ميتافيزيقية كان يشير إليها هي في ذاتها.
بصق بابكر المسكين سفة الصعوط في الخارج قرب باب الحجرة ونهض خلفه مايكل اكول استئذنا الانصراف ولكن سيدة المنزل والتي اجلستهما قبل دقائق علي العنقريب قربه أصرت علي أن يحضرا الغداء معهما، وهو الآن معد وسأحضره حالا، فأبقيا، خوفا من استثارة غضبها ولأننا -نعلم- لن نجد غداء في أي مكان آخر في الدنيا: أيتها السيدة المعطاءة ملكة بطوننا يا ربة البيت ذات الادمع البلورية نحن نحبك ونخاف منك.
رقد ثلاثتهم علي العنقريب العجوز واخرج مايكل اكول من حقيبته مختارات من شعر هنري ميشو وعندما هم بقراءة قصيدة ريشه تحدث عن الشاعر مارول مارول ثم طلب من بابكر المسكين قراءة قصيدة The Foe بصوته الحلو ولكن بابكر تحدث عن انتحالات ادونيس أو ما اسماه سرقاته من الاصمعي والنفري، ثم أخذ ثلاثتهم يغنون لمريم ماكبا ثم تعاطوا التمباك مرة أخري سأل عن آمنة وعن الكشة والمعاينات للخدمة العامة في جملة واحدة، قال انه لا يرغب في شئ في هذه الدنيا غير أن يقبّل آمنة قبلة واحدة في شفتيها، ثم يقول لها باللغة الفرنسية أحبك! ولكنه لا يعرف اللغة الفرنسية وهو أيضاً لا يستطيع أن يقبّلها،
إذا ما جدوى أن نغني يا آمنة ما جدوى هذا الخريف، بينما هم يحكون عن آمنة وسارة وماريانا إذا بصوت سيدة يأتي من خارج الحجرة الطينية الغبشاء فهتف مذعورا.
انها.. انها.. انها..
الردفاء بنت السمسمية.. انها دائماً تختار الزمن الخطأ..
قال مايكل اكول وكان بصوته رجفة خفيفة حاول اخفائها عن صاحبيه فخرج صوتا مخنوقاً بائساً مشحوناً بالجبن وأكثر ارتجافاً.
ما العمل ؟
ولكنها لم تدع لنا وقتاً للتفكير بل اندفعت داخله الحجرة فوقف ثلاثتهم دفعة في استقبالها مصافحين اياها واحداً واحداً كانت اردافها الكبيرة، كبيرة، جلست علي المنضدة المصنوعة من الفلنكة، المنضدة الصغيرة والتي لم تسع ردفيها مما جعلهما يبرزان على جانبي المنضدة متدليين كقربتين كبيرتين مملوئتين بالزيت، أحس بابكر المسكين إحساسا مزدوجا في ذات نفسه، إحساسا عميقا بالامتلاء وأحس في ذات الان إحساسا عميقا بالجوع، كانت اردافها الكبيرة كبيرة، وهي تعتذر لائمة نفسها علي انها تسببت في ضربة فما كان عليها ان تزوره في مثل هذا المكان وهي تعلم ان صاحبة المنزل هي اشرس امرأة في الدنيا لأنّ بها روح شيطان تتلبسها عندما تغضب، وقالت انها قلقة لحاله ولم تنم ليلة البارحة ولم تهتم ابداً بمأساتها هي الشخصية حيث انها هربت عارية كما ولدتها امها جارية عبر الأزقة الضيقة المظلمة الي بيت أسرتها ولولا ان ستر الله لرآني والدي لولا انه كان بالجامع في صلاة العشاء.
وقالت: إنها تعرف ان صاحبة المنزل الان توجد بالسوق الكبير حيث لديها مكان للشواء مشهور ولا تعود إلا بعد المغرب وكان بإمكانه ان يسر بهذه المعلومة الدافئة وان يفرح بها ايضاً صديقاه الا ان علمهم بأن السيدة توجد الآن بالمنزل وانها ستأتي بعد قليل وستجد الردفاء و س.. ت.. غ.. ض.. ب!
قال لها هامساً، في الحق كانت تخنقه عبرة مرة وهو يقول للردفاء:
انها بالمنزل الأن.. وكانت هنا قبل قليل وستعود الآن بالغداء!!
فنهضت الصبية الردفاء مذعورة وأرادت الانصراف في ذات اللحظة التي سمع فيها الجميع وقع أقدام سيدة المنزل، وهي تترنم بأغنية شائعة في سعادة بالغة ومتعة دافقة، كنا نبحلق في جنون نحو باب الحجرة نحو بعضنا البعض نحو الصبية الردفاء والتي لولا الخطر الحادق والرعب الذي نتوقع مواجهته بعد لحظات.. لضحكنا عليها.. لضحكنا حتي الموت ولكن لا بأس سيضحكون كثيرا اذا خرجوا من هذه المعركة سالمين وسيحكون لأمل وزوجها السمين والذي سيضحك الي ان تنفجر كرشه الكبيرة مصدرة دويا مرعباً، وسيحكون لآمنه وستضحك هي الأخرى إلى أن يحمر خدها وسيحكون لعبدالله ومحمد وتأبان وكوة تيه، فقط لو خرجوا أحياء من هذا المأزق سيستأنسون بذكراه وهم يعانقون الجوع والعطالة والهرب علي شاطئ النيل او عند ام بخوت بائعة الشاي.
كانت الصبية الردفاء تحاول الاختباء تحت العنقريب العجوز الصغير ولكن ردفيها.. فحاولت القفز عبر النافذة الصغيرة المواجهة للحائط الخلفي حيث يصبح بالإمكان الهرب بسلام، ولكن ردفيها.. وعندما عجزت عن أية فعل منقذ غطت وجهها بكفتيها وأغمضت عينيها بشدة وأخذت ترتجف كما لو أنها صعقت بتيار كهربائي منتظرة مصيرها المحتوم، وذلك المصير المشئوم والذي استطاعت الهرب منه ليلة البارحة بأعجوبة الأعاجيب، كانت الأغنية الجميلة توافي مسامعنا مرعبة كأنها عواء الذئاب وكلما اقتربت من باب الحجرة وأصبحت أكثر وضوحا كلما كانت أكثر رعبا، فصاحت بأن يأتي من يساعدها علي حمل الطعام،أين أنت ؟
ولكن لم يحرك أحد ساكنا لقد شل تفكيرهم جميعا فدخلت الحجرة ووضعت حملها علي المنضدة ودون ان تنتبه الي الردفاء قالت بصوتها نغمة ملائكية حلوة:
فليذهب أحدكم لإحضار الماء البارد من..
فجأة توقفت عن الحديث وهي تبحلق في وجه الردفاء المغطي بكفيها، قالت بهدوء مشحون بالتوتر والشيطانية الباردة.
- أهلا..أهلا.. تفضلي.. أنت دائما هنا.. البيت بيتكم، أرقدي على العنقريب واخلعي ملابسك، لا تخافي مني، فأنا ذاهبة سأتركك مع الثلاثة، جميعهم، أيتها الداعرة الإبليسية بنت الشوارع، لماذا تنظرون إلى هكذا؟ لن أفعل لها شيئا، سأكون معها هادئة، اذهبوا انتم لاحضار الماء واتركونا، أنا وهي، وحدنا بهذه الحجرة، لن أهشم عظامها، لن أحطم رأسها ولن أمزق أردافها الكبيرة التي تشبه الإخراج، أخرجوا، وأنت.. أنت.. هل تحبها، أيها الفأر الأكول اذا اتركوه لي.. اخرجوا جميعاً.. حتى أنت أيتها السمينة.. اخرجوا.. اتركوه لي وحدي.. فأنا هادئة، وسأظل هادئة لم تنظروا، هل أنا مجنونة، أن صمتكم هذا يثير أعصابي.
ثم أخذت ترتجف بصورة مثيرة للشفقة حينما خرجنا وتركناه بالداخل أما الردفاء فمنذ أن سمحت لها صاحبة المنزل بالخروج انطلقت كالسهم وتلاشت في خبايا الأمكنة، بقي مايكل اكول وبابكر المسكين خارج الحجرة قرب الباب بعيدين عن ناظر صاحبة المنزل والتي يبدو انها في طريقها لكي تستغضب، أو انها استغضبت بالفعل، كأنا على أهبة لانقاذ صديقهما ولو بمناداة الجيران أو الشرطة.. كانا قلقين كفأرين علي كف قط: سيدتي الجميلة المرعبة، أي نسمة شيطانية ستعصف بنا؟ أي إعصار لذيذ؟!
ولكن بعد لحظات قلائل من وقوفهما خارج الحجرة سمعا نعم. سمعا صوتا نسائياً ناعماً رقيقا يبكي.. يبكي في بؤس مثير للشفقة.
فقال مايكل اكول لبابكر المسكين والذي جحظت عيناه دهشة وانفعالا وأسئلة عصية..
اذا فلنعد لداخل الحجرة، فلنلتهم الغداء قبل أن يبرد.. فأنا لا أحب الطعام البارد..! فرد بابكر المسكين وبين فكيه ابتسامة خبيثة.
حسنا، وأنا كذلك!! فأنت تعرف عني ذلك جيّداً..!
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
سألت الطفلة أمها قائلة:
هل سيطلقون الرصاص مرة أخرى؟
قالت الأم:
لا...
ولكنك قلت لي انهم سكارى يا أمي.
قالت الأم:
إن الخمرة ذاتها التي جعلتهم يطلقون الرصاص هي نفسها التي ستنيمهم فيكفون عن إطلاق الرصاص.
ولو أن الطفلة لم تقنع برد والدتها إلا أنها نامت وظلت الأم مستيقظة تتوقع بين الحين والآخر أن يطلق أحد الجنود السكارى النار عشوائياً فتصيب طفلتها النائمة أو تصيبها هي.
لا أحد يستطيع أن يمنع الجنود السكارى من إطلاق النار طالما لا أحد يستطيع أن يمنعهم تناول الخمر، حتى السلطات نفسها لا تفعل شيئا.
يؤكد زوجها: إذا غضب الجندي المسلح وهو سكران قتل نديمه أو صاحبة المنزل وكلاهما خارجان عن القانون، وقد يصيبك أنت وانتصار، وموتكما أو إصابتكما بأذى لا تؤثر علي أحد له سلطة أو تُخل بالأمن القومي، وكالعادة كان يسخر من نفسه ومن زوجته وابنته الوحيدة، كان بعيداً جداً في هذه الليلة في مأمورية للعاصمة حيث يعمل سائقاً بإحدى الشركات الخاصة، سوف يطلقون النار مرة أخري، هي متأكدة من ذلك، في الغد سأرحل عن هذا المكان إلى حيث يقيم والدي وعندما يأتي صابر من مأموريته سأقول له بالحرف الواحد: يا أنا.. يا هذا المكان اللعين.
وكرر الطارق الطرق، بحركة لا إرادية أطفأت النور الرئيسي أبقت علي سراج صغير ضمت ابنتها إلى صدرها، أغمضت عينيها ولكن أذنها كانت تتصيد الأصوات في الخارج، زوجها لا يطرق الباب لديه مفتاحه الخاص ولا تعرف هي أحداً يزورهم ليلاً، يصر الطارق علي الطرق، تغمض عينيها أكثر، أكثر، أكثر: غداً سترحل عن هذا المكان اللعين يزداد الطرق علي باب الشارع، تستيقظ الطفلة.
لماذا لم تنمِ إلى الآن يا أمي.. هل سيطلقون الرصاص مرة أخري؟
يسمون أنفسهم "البوم" لأن الناس يتشاءمون بصوتهم، ولأن المواطنين يعتقدون أن من دخل البوم بيته لا بد أن يخرج من البيت أحدهم ميتاً، ومن رأى البوم نهاراً لا بد أن يفقد نظره، ومن رآه ليلاً لا بد أن يفقد ذكورته وإذا كانت امرأة لا بد أنها ستعقر، ويسميهم أبي (شياطين الليل) وأمي تسميهم الجماعة، أما السلطة تسميهم (الجنود الأشاوس الذين يحاربون قوى البغي والكفر والعدوان)، كانت البنت الصغيرة تموت من النعاس فهي تسميهم (ناس الحرب).
يزداد الطرق أكثر، أكثر، تغمض الطفلة عينيها الكبيرتين، تغمض الأم عينيها الكبيرتين.
قد يكون أبي ؟
أبوك عنده مفتاح.
قد يكون خالي آتياً من السفر؟
خالك لا يأتي هذه الأيام...
إذا دعيني يا أمي أهاجمهم، انهم الأعداء.
نامي يا بنتي، الباب مغلق جيداً ولا أحد يستطيع الدخول ولسنا في حاجة لمهاجمة أحد. وضعت البنت الصغيرة يدها المبتورة علي فمها. انتصار تحب اللعب مع ابن الجيران مصطفي، مصطفي يحب أن يلعب جيش جيش، هي تلعب جيش جيش واشتركا معاً في الهجوم الكبير ضد ثوار الخور، هي المعركة ذاتها التي فقدت فيها يدها اليمني وأدت بحياة صالح وصديق وفقدت فيها البطلة أسماء عينها، كان ذلك قبل عام بالتمام والكمال.
لست سكران، لست لصاً قالت الطفلة:
هل هو عدو يا أمي ؟
نامي.. نامي.
هل تطفئين السراج يا أمي؟
دعيها.. لا تشغلين نفسك بشيء، نامي فعليك أن تستيقظي عداً مبكرة للذهاب إلى المدرسة.
هل يحملون قنابل أيضاً، مثل التي وجدناها في الخور الكبير؟
انهم سكارى، ولا يحملون شيئاً سوي بعض الأسلحة الخفيفة!
إذا كان مصطفي صاحياً فانه لن يتركهم يفعلون ما يفعلونه الآن، ابتسمت أمها في غيظ، ذكري بتر اليد، ذكري مؤلمة، لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا من أجل الأطفال، الأسلحة في كل مكان: في النهر، الخور، المزارع المجاورة، في الغابة، تحت جدران المنازل: قنابل، الغام، قرنوف، ذخائر...
يبدو أن بعض الجيران قد تجمعوا حول الطارق وبدأوا يستجوبونه، كثير من الجيران، ثم أخذ الجيران أنفسهم يطرقون الباب، باستطاعتها أن تسمع صوت الخالة نفيسة تقول:
ما حدث لآمنة وابنتها؟
انه صوت الخالة نفيسة.. هل هي انضمت إلى الأعداء كذلك ؟
لن ينفتح الباب لأي كان.
وعندما عاودوا إطلاق الرصاص، بكثافة هذه المرة، ربما استخدم سلاح ثقيل أيضاً، صمت الطارقون، ربما انبطحوا علي الأرض محتمين بسواتر طبيعية،في تلك الليلة المقمرة، إلا أن لا أحد بإمكانه رؤيتهم، كانوا يشربون الخمر في مكان ما، قريب جداً، أنهم لا يبالون بشيء ولا يحترمون أحداً ولا يخافون من أحد: يسمون أنفسهم "البوم".
أعرف أن أمي خائفة من الموت لأنها لم تدخل معارك بعد، لم تشترك في الهجوم الكبير علي ثوار الخور، لم تتدرب علي يد مصطفي، تكتفي بأن تغمض عينيها. أطلقوا الرصاص مرة أخري: طلقات متباعدة،ذهبت ابنتي إلى المرحاض وهو عبارة عن بناية صغيرة غير مسقوفة تقع في الجهة الخلفية للمنزل، جهة آمنة تلاصق حائط الجيران، ذهبتُ خلفها لأنها عندما تفرغ من قضاء حاجتها تحتاج إليّ لكي أساعدها في تنظيف نفسها، حيث أن يدها واحدة، لكنها لم تخرج من المرحاض، تأخرت كثيراً، في اللحظة التي ناديتها سمعت صوتها يأتيني من باب الشارع صارخة.
يجب ألا يتحرك أحد، وإلا أطلقت الرصاص.
خشم القربة
1/4/2000م
ضلالات
1/ فراش
تقلبت قليلاً في فراشها الرطب، قبل أن تنهض و تضع ثوبها علي أطفالها الثلاثة، فالبطانية العسكرية القديمة المزيقة فقدت دفئِها علي مر الأعوام، بطانية الصوف الخضراء، ابنتها الوحيدة آممنة ستبلغ السابعة عشرة بعد شهور قليلة و لكنها تعاني من التبول الليلي علي الفراش، علي الأقل مرة في الأسبوع و الذى أصيت به منذ اليوم الذى تلقت فيه خبر مقتل والدها في كبويتا الصيف الماضي علي يد الثوار.
2/ مشهد
آمنة " ترقد علي عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مفترشة علي الأرض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش" زهرة تربت علي قدم ابنتها المتغطية بملاءة "" مالك ؟! "" ترفع الغطاء يظهر و جهها المحكوك بكيمياء الكريمات الرخيصة شاحبا"
زهرة: يا بت ما ماشة المدرسة و لا شنو؟!
تنهض آمنة في تثاقل ترمي بالملاءة بعيدا عن جسدها تشمم المكان علها بالت عليه ام لا، عندما لا تجد " أثراً للتبول تنهض واقفة، تستعدل قميص نومها، ترتدى سفنجتها، تجمع جوالات و تخرج بها من القطية، تذهب نحو الحمام تجرجر جسدها الثقيل و أردافها الكبيرة"
أبو ذر و معاوية: " يصطفون خلف القطية يتبولون في نعاس و لذّة"
3/ مشهد
" خارج القطية يجلس الأطفال الثلاثة علي عنقريب قديم يحتسون الشاى، آمنة تسرح شعرها و هي تترنم بأغنية غير واضحة الكلمات و اللحن و في وجهها طلاء أبيض، زهرة تأتي من راكوبة المطبخ، تقف أمام أطفالها، تصرخ "
زهرة:........ من بكرة الفطور في البيت.
آمنة: " تلوى شفتيها في إمتعاض "... كل يوم فلم جديد.
أبو ذر: أنا ما عايز فطور في البيت... عايز افطر في المدرسة.
معاوية: نجي من المدرسة لحدى البيت في الحي الجنوبي و تاني نرجع المدرسة حنلقي الجرس دقا و الأستاذ حيدقنا...و لكن مات في مشكلة...انا حاجي افطر في البيت.....يا أمي...بأى شىء....
زهرة: إخوانك ديل ما عارفين حاجة.... ببكوا و ما عارفين الميت منو..." بصوتٍ عال" القروش كملت... آخر ألفين حأعمل ليكم بيهم الغداء الليلة...بكرة و بعد بكرة و بعده حتاكلوا لقمة بزيت لمن تكملوا شوال الدقيق و شوية الزيت الجابوهم الجماعة ديل، و بعد داك حتموتوا من الجوع أو تاكلوني أنا ذاتي..." تأخذ وعاء قربها و ترميه علي الأرض بشدة " في حركة غير متوقعة.
آمنة: متجاهلة انفعال أمها، أنا ذاتي المدرسة ما نافعة معاى " تنتهي من تمشيط ضفيرة بحركة قلقة سريعة"... انا عايزة ابيع شاى في السوق الكبير أو الموقف أو كبرى ستة أو حتي في سوق النوبة... زى البنات...آها...كلمتك يا أمي، علي الأقل أساعدك في رسوم المدرسة و اشترى ريحة كزيسة و كريمات و اشوف الدنيا دى فيها شنو... أنا كرهت الفقر و الجوع.
معاوية: أنا عايز اشتغل في كارو...الم قروش الفطور و الرسوم بعد داك ارجع المدرسة أجمد سنة و اقرا سنة لحد ما اكمل المدرسة و اتخرج.
أبو ذر: أنا عايز اشتغل عسكرى في الجيش بس...
زهرة: " مغتاظة " عشان تموت زى أبوك و تريحنا.
ابو ذر: عشان اجيب قرنيت و أقتل بيهو آمنة (ال...)1 دى " يأخذ من وراء ظهره قرنيت يفك التيلة و يقذفه بإتجاه آمنة بحركة عسكرية رشيقة".
آمنة: " تنهض و تهرب بعيدا، يسقط القرانيت قرب رجلها و ينفجر مبعثراً قطع الطين و الزبالة و الحصي التي يتكون منها في الساحات شاسعة " يا وسخ...دا شنو؟
أبو ذر: عشان تاني ما تبارى الرجال...حأكتلك.
آمنة: أنا...
أبو ذر: ايوا..إنتي.. الأولاد كلهم قاعدين يقولوا كدا....
آمنة: أنا... يا وسخ... انا قاعدة ابارى الرجال ؟!
" يصمت الجميع، رتدون ملابسهم، يخرجون الي المدرسة تبقي الأم وحدها".
4/ ضلالات مشهد
تعرف الأم كل شىء عن البنت، ضلالاتها الصغيرة و الكبيرة، مراقدها و مقاماتها كل عشاقها الكثيرين، و يعرف الأطفال، و تعرف هي أنهم يعرفون و الأم تعزى إنحراف ابنتها الي سببن: غياب اسماعين و الفقر. كان سيكمل عامه السادس بالجنوب و بذلك تتاح له العودة الى خشم القربة، في الحقيقة لم تكن علاقتها بزوجها بتلك القوة التي دائماً ما يقتضيها الزواج، و لكن كانت ظروف معايشة و تربية أطفال لا أكثر، و لو ان اسماعين ما كان عنفياً غليظ القلب فظا مثل كثيرا من ازواج صديقاتها، و لكن كان الشهيد كسولاً غير مبالِ و بخيلا، لا يخرج الألف من كفه إلا بعد لأى و مجاهدة، و لكنه فوق ذلك كان يحب أطفاله و يشترى لهم رؤوس النيفة في كل نهاية و منتصف الشهر طوال فترة تواجده بخشم القربة.
نعم، انه يشرب البغو و العرقي، مثله مثل أزواج صديقاتها ليبدو رجلا فحلا و متكاملا، لكنه لا يضربها مثلهم و لسانه عفيف. لكن أكثر ما تعيبه في الشهيد رحمة الله عليه مغامراته النسائية و ما تزال أصداء فضيحته مع ابنة مبشر كاجيلا جمعة تملأ الحلة طنينا، رغم ذلك حزنت لموته حزناً حقيقيا، و ربما كان باطنه الخوف علي مستقبل الأطفال. زهرة لا تفهم كثيرا في الدين ، هي مسلمة حقيقية، تصلي و تصوم رمضان ولو أنها لا تحفظ من القرآن سوى سورة " الحمدلله رب العالمين " و سورة " قل هو الله احد، الله صمد " و دعاء " الذاكيات الصالحات" حفظتهم من أطفالها عندما كانوا يستذكرون دروسهم بصوتٍ عال. ظاهرها الديني هذا يضعها في الحى الذى تسكن فيه ضمن النساء المتدينات، إلا أنها ترفض فكرة ان يزف اسماعين كوكو مرفعين إلى حورية في الجنة تاركاً لها اولاده و بنته الملعونة لتربيتهم وحدها و هو لم يترك لها قرشاً واحدا.
ها هو الإحتفال يجرى الآن أمامها و في حوش البيتها تحجب سحابات غباره الرؤية و يكح لها الصغار و الحملان و الكتاكيت، و ينطط فيه العسكريون و كبار الضباط و بعض اللحى المدنية و غيرهم من الغرباء يعرضون و يبشرون لها، مشهد لن تنساه و يتكرر يوميا في صحوها و منامها. عندما ذهبوا، ذهبوا إجمالي ما تركوه كان كما يلى:
50 كيلو دقيق استرالى، جوال بلح باعته في حينه للنساء اللائي يصنعن العرقي في الجوار.
1 جركانة زيت سمسم، سعة خمسين رطلا.
10 رطلا من البن الحبشي، و كرتونة لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين، و كثير من الأغبرة و أثر العربات و بعض اطفال الحي بملابسهم الممزقة و سراويلهم المتسخة يفتشون في الأرض العملات المعدنية التي قد تسقط من جيوب جلابيب الراقصين الكبيرة، و تركوا صدى أيقاع و صوت فنان خليع يتلاشي تدريجيا في أزقة و قطاطي و رواكيب كمبو كديس ثم يموت للأبد بين أشواك المسكيت و لكن يظل الأطفال برددون اغنياته لأعوام طويلة.
لما تأكد سكان كمبو كديس من ذهاب الغرباء و تلاشت اغبرة عرباتهم الكثيرة، و صمتت مكروفوناتهم و خرس مغنيهم، جاءوا افرادا و جماعات يعزون في وفاة صديقهم الوفي ابن كمبو كديس البار اسماعين كوكو مرفعين، و في ذهن كل واحدة وواحد منهم آخر ذكريات تخصه مع اسماعين كوكو مرفعين و كل واحدة وواحد منهم كان يتحدث لمن يصادفه عن آخر مرة راى فيها المرحوم.... آخر ونسة... آخر كأس، آخر سوق، آخر حفلة و آخر كرنق، حليمة بنت الكرنقو سوف لا تغفر لنفسها أن حذلته مرتين، لكن مبشر جمعة وحده الذى يعرف أن اسماعين كوكو مرفعين لم يقتل عرضا، و لكن قتل عمدا، و هو الذى قتله، لقد ربطه بحبل بندا عند معراقي من الامبرورو يوم الجمعة الماضية و ها هي جمعته الثانية و التي ما كان عليه أن يحيا بعدها بأية حال من الاحوال... اسماعين خاين... كسر بتي كاجيلا و نكر و ابا يدفع كسر الباب... و حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو...... وجبت ليهو الجودية فوق الجودية... وهو عارف انا ما حاخليهو ساكت... حأكتلو.
كان مبشر جمعة أكثر الناس بكاءاً و اسفا علي وفاة اسماعين. كاجيلا تُحمَّل اسماعين الخطأ في كل شىء هو كسرنى مرتين... أنا سامحته في المرة الأولي ودانى الداية عدلتنى... و قلت ليهو اسماعين اختانى عليك الله... و لكنو تانى كسرنى قمت كلمت أبوى.
سمع كل سكان الأحياء المجاورة لكمبو كديس صراخ النساء صديقات أسرة اسماعين كوكو، بل سمع الصراخ بوضوح تام في قشلاق الحجر و كمبو كريجة و الإدارة المركزية و المستشفي.
زهرة كانت صامتة تعقد يديها خلف ظهرها و تمشي بين المعزين، تنظر إليهم في إستغراب.. الحاصل شنو ؟ قبل شوية مش كنتو بترقصوا و تعرضوا و تغنوا هنا... ليه هسع بتبكوا و تصرخوا!.. الحاصل شنو ؟! و فاقت زهرة عندما صفعها أبكر جنى الملايكة البلالاوى علي خدها الأيمن ثم بكفه الآخرى علي خدها الأيسر و عندما فهمت مَنْ رقص و مَنْ و مَنْ مات.
5/ مشهد
أبو ذر: " يرمي شنطة المدرسة المصنوعة من كاكى الجيش علي بنبر خارج القطية في طريقه الى داخل القطية يرفس القطة التي تتسول بقايا طعام علي الأرض، يدخل القطية، ينظر الى امه الراقدة علي العنقريب يسأل " الغداء الليلة شنو... أنا جعان....
بينما لا أحد يجيبه يسمع صوت معاوية يدندن بأغنية، يقترب من القطية، يرمي شنطته علي البنبر " و يدخل القطية، يسمع صوت آمنة من بعيد تغني أغنية هابطة، تقترب من البنبر، ترقص في إنتشاء، تهز كتفيها طربا، تلقي بشنطتها علي البنبر، تدخل القطية، ترمي بجسدها الصغير علي العنقريب.
آمنة: هييه ازيكم....
زهرة: ممتعضة وهي تنظر اليها من ركن قصي من عينها " اهلاً...
آمنة: " ترمي بطرحتها علي العنقريب الذى يخصها، تخلع قميص المدرسة دفعة واحدة و ترمي به هو ايضا علي العنقريب، ترفع ذراعها اليسار الى اعلي تتشمم رائحة إبطها " هه هه...
زهرة: " تلوى شفتيها، و تعرف ان رائحة جسد ابنتها اصبحت و منذ فترة رائحة امرأة،و تعرف أن رائحة المرأة ربنا خلقها لكي تجذب الرجال و رائحة بنتها غير عادية، أنها أكثر كثافة و قوة من رائحة كل النساء اللائي عرفتهن.... و تعرف أن زهرة تعرف. وتريد أن تبقي رائحة جسدها كما هي لذا رفضت العطر الرخيص الذى اشترته لها أمها من السوق بما اقطتعته من خبز البيت" مش أحسن تستعملي الريحة بدل من ريحة اباطك العفنة دى... الريحة ليها شهر قاعدة في الدولاب.
آمنة: " ترقد علي العنقريب بقميص النوم محاولة وضع رأسها ما بين البرش و المخدة " دى ريحة ميتين يا أمي... أنا ما بستعملها.
أبو ذر: مش أحسن من ريحة البول والصناج!
آمنة: "تنهض من رقدتها و تجلس علي العنقريب فجأة في وضع هجومي " لو ما ولدك الوسخ ده... أما حأكون ليكي... أخير يختانى.... انت عايز مني شنو ؟ عامل قدومك الطويل ده.
أبوذر: " يضحك، يخرج من القطية يمشي نحو المطبخ ، يعبث بالأواني و طبق الكسرة، فجأة ينادى بأعلى صوته " تعالوا شوفوا في شنو في المطبخ... اجروا تعالوا شوفوا البرميل في النار.
معوية: " معاوية و آمنة يجريان نحو المطبخ، يعود معاوية بسرعة الى أمه يسألها في حزن " ده شنو يا أمي ؟
زهرة: "تبقي في مكانها تحملق نحو باب القطية"... كعكة... كعكة كبيرة سويتها للملايكة.
آمنة: سجمي... أمي جنت.... " تجرى نحو أمها و التي لا تبرح مكانها مبتسمة في بلاهة، تحتضنها و تبكي بحرقة.
أبو ذر: " يجرى خارج المنزل و هو يصرخ في هستيريا " أمي... أمي.. أمي..
6/ الملائكة
الجيران والباعة بسوق النوبة،و زبائهم الكثيرون، الأطفال العائدون من المدارس، المتسكعون بالشوارع، جزارو سوق النوبة، أصحاب الكوارى، كمال زكريا، السكارى الذين كانوا بالكنابي المجاورة، و كمبو كديس، الصادق حسين باباكر في صحبته عشرين من عمال الكمائن، علي رمرم، غادة الجميلة، كلبان، الأطفال و الشباب الذين يلعبون الكرة في الخور الكبيرة. امتلأ الحوش الصغير بهم، أولاً أطفأوا النار من تحت البرميل الكبير، تولى جبرين الجزار و حمدو العسكرى و زكريا و حاج عثمان ألقاء البرميل علي الأرض و دفق محتوياته، ثُم هم المحسنون بتحرير الأشياء من العجينة الضخمة: أحذية الأطفال، البطانية القديمة العجوز، الملاءات ال، آنية الصيني و التي اشترتها بعرق دمها من سنوات مضت، حبال جوال السكر البلاستيكية، الملابس الداخلية، الكبابي، شظايا زجاج دولاب العفش القديم و الذى كانت دائما ما تفتخر به، كراسات المدارس القديمة، ما تبقي من معاش اسماعين ألفان من الجنيهات وجدا معا وسط الكعكة العظيمة، جرادل المياه، آنية رمضان و مسبحتها، صابون الغسيل، عطر آمنة الذى رفضته، توب الجيران، قفة الكجور، و طواطم الاسبار.
كانت كعكة، لم يرِ احد أكبر منها في حياته، تعوم في الزيت السمسم و يفوح منها عطر السيد علي بطعم السكر و ما تبقي من ملح و كول و لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين.
بينما كان الناس مشغولون بتفكيك الكعكة... طفلاها و ابنتها يصرخون، كانت هي ساكنة و علي شفتيها ابتسامة رضا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة أحتفاءاً بعرس الشهيدة: التي كانت هي نفسها.
أسنان لا تُغَنِّي
تعادلنا ثلاث مرات على طاولة التنس، هي سريعة الحركة، لها طاقة لا تحد، ماهرة كالشيطان، ذات حرفية مدهشة في تحويل كل كرات الرد إلى كرات زوايا بعيدة، يصعب التعامل معها، وعندما انتهت اللعبة، مسحت العرق عن وجهها ببطن كفها، أطلقت شعرها الأشقر على ظهرها وكتفيها، ثم استدارت، استدارة سريعة لتقف قربي، مادة إليّ كفاً بيضاء معروقة، تبدو الدماء الساخنة القرمزية منفعلة تحت بشرتها الناعمة، الندية بفعل العرق.
استطاعت أن تتعادل معي!
قلت لها وأنا أقبض على كفها البيضاء الناعمة، بكف سوداء قوية بها جفاف متوارث من جدود عديدين.
طالما كنت ألعب مع الشيطان، فكيف أكسب؟!
ضحكت إلى أن احمر وجهها الشاحب، ثم هزت رأسها مثل مهرة تحتفي بجموح يخصها استشعرته فجأة، قالت:
دعنا نتمشى قليلاًً على الجسر...
عندما خرجت من حجرة الملابس، رأيتها تقف على الجانب الآخر من الطريق، تلبس كالعادة بنطلون الجينز المحزّق اللاصق على فخذيها وكأنه جزء منها، قالت إنها تستمتع برياضة المشي وخاصة عبر الجسر، ثم سردت ليّ تأريخ بُناة الجسر، بينما كنا نهرول عبره، ثم، فجأة سألتني:
يقولون إنك من السودان!
نعم.
يعني ذلك أنك عربي.
في الحقيقة أنا سوداني، ومسألة عربي وغير عربي عندنا في السودان مسألة شائكة وتحتاج إلى تنظير لا أطيقه. قالت في (إلحاح):
ألا ينتمي السودان للجامعة العربية؟!
قلت متضايقاً:
نعم.
وهو أيضاً ضمن الدول الإسلامية..
أنا عادة لا أحب الخوض في مثل هذا الحوار مع غير السودانيين، لأن ثقافاتهم ضحلة فيما يخص السودان ومرجعياتهم إن وُجدت غير دقيقة.. ولكن يبدو أن المرأة تعرف شيئاً.. قلت:
السودان دولة عربية إسلامية كما هو معلن.. ولم ُيستشار أحدٌ في ذلك، المهم، المواطنون فيهم العربي وفيهم المسلم، وفيهم غير العربي وغير المسلم..
ماذا عن نفسك أنت..
أنا.. لست عربياً، ولكنني لست شيئاً آخر غير عربي، ولست مسلماً.. ولكنني لست شيئاً آخر غير مسلم، والأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير.. فدائماً ما أكتفي بأنني سوداني وحسب.
ضحكت، ربتت على كتفي، أشارت نحو الأفق، أبراج وطائرات، قطارات، سيارات، دخان عوادم، ضباب، نجوم، بشر، ألعاب نارية، وطاويط،، كباري طائرة، قالت
نحن هنا أيضاً أمريكيون فقط..
سكتت قليلاً، قالت:
أنظر.. هنالك.. نحو برج Leadsman العملاق، هنالك يوجد نادي ليلي.. غنيت فيه قرابة العامين،
هل أنت مغنية..
الآن لا.. ولكنني كنت مغنية. كنت أشهر مغنية في هذا النادي.. بل كنت معروفة في أمريكا كلها.. وغنيت خارج أمريكا أيضاً..
لماذا تركت الغناء..
بدأت متأثرة وهي تقول:
حدث لي حادث وبعده أصبح من المستحيل أن أغنى..
حملقت في وجهها، في هيئتها، علني أجد أثراً لهذا الحادث، لكن بدأت كاملة متكاملة، لم تبدُ على وجهها أية آثار لعملية جراحية، المهم، بيني وبين نفسي عرفت أن الحادث كان عاطفياً، نفسياً أو جنائياً، من الأحسن ألا أثير مثل هذه الشجون.. وقررت تجنب الخوض في الموضوع، كما أنّ اهتمامي بالغناء وخاصة غير السوداني، ضعيف، قالت..
أنا أجيد صنع القهوة.
فوافقتُ، ولو أنني ما كنت أظن أنّ المشوار سينتهي بشقتها، لكن لا بأس، هؤلاء الناس لا يزعجون أنفسهم في محاولة التفرقة ما بين حياتهم الخاصة والعامة، اتصلتُ بإحدى شركات التاكسي، في سبع دقائق، كنا نمر بسرعة مائتي ميلاًُ في الساعة عبر شوارع نيويورك، بعد عشرين دقيقة أخرى، كنا في لتها الرائعة، يا إلهي، المكان لا يوصف، لاحظت أنني مندهش، قالت:
بيت الأمريكي هو جنته.
أنت دائماً تتحدثين معي كأمريكية.
أنا لا اقصد شيئاً سوى العموميات.. فأنا أحب أمريكا، لكنني لا أفضلها على كل بلدان العالم.. الرجاء أن تفهم ذلك..
ماذا تقصدين بكلمة عموميات ؟
إنها لا تعني شيئا غير عموميات فحسب، ثم ابتسمت.
كانت داني جميلة ولبقة ومباشرة، لها عينان عميقتان تشعان رغبة وغموضاً وغنجاً، جلست على كنبة مريحة، أشعل كل واحد منا سيجارة، من جهاز الكمبيوتر الشخصي انطلقت موسيقى جاز كلاسيكية صاخبة، قالت
إنه لويس آرمسترونغ،تركتني في محاولة التكيف مع المكان وآرمسترونق وعطر My Home، أحضرت لنا القهوة، جلست قربي، قالت:
هل تسمح؟
وقبل أن أقول شيئاً، أخذت تمشط شعري بأظافرها الشاحبة غير المطلية، شعر رأسي الخشن المنكمش على نفسه في دوائر شبيهة بمنظومة من السلك، كنت في حاجة ماسة لمن يداعب أسلاكي تلك والعبث بها، تماماَ كما تفعل داني الآن.
شعرك مدهش.. ثم أضافت بسرعة..
هل أنت متزوج..
نعم.
أين زوجتك؟
في السودان.
هل لديك أطفال..؟
طفلة واحدة اسمها سارة..
كم عمرها الآن..؟
في الحقيقة ما كنت أعرف كم عمرها الآن، عندما جئت إلى أمريكا تركتها تمشي خطواتها الأولى، لا.. بل كانت تجري وتلعب، لأنني أذكر أنها جرت خلفي إلى الباب.. نعم، كانت تتكلم، سارة الآن قد تقارب الثامنة عشر، أهذا صحيح؟.. أين هما الآن بل أين هم: أمي، سارة، أمل، لقد قفلت هذه النافذة منذ زمن بعيد، ربما تزوجت أمل، ربما ما تزال في عصمتي.. الأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير، فعندما غادرت السودان.. غادرت كل شيء ويجب أن أعي حقيقة ذلك.. قلت لها..
داني..
نعم.
أنا لا أحب فتح هذه السيرة.
حسناً، كل إنسان في هذه الحياة لديه غرفة مظلمة مخيفة ممتلئة بالثعابين، لا يحب الولوج إليها ولا يرغب أن يدخلها أحد، أو يطرق بابها.. مجرد طارق.
كنت دائماً ما أستطيع تمييز أصول الأمريكيات، الأسبانية، الإنجليزية، الآسيوية، الفرنسية، الإيطالية، العربية، الكاريبية أو الزنجية، باللون أو الاسم أو اللكنة أو حتى مجرد مكان الإقامة، داني من أصل ايرلندي، وهي جميلة وبدينة بعض الشيء، كانت تتجلى في حجرة نومها، كربة صغيرة من البلور، مدللة. عندما عدتُ من دورة المياه وجدتها هنالك، جلست قربها، قبلتها، قالت ليّ وهي تدلك فروة رأسي:
أريد أن استريح.
وماذا يمنع؟
قالت وهي ما تزال تدلك فروة رأسي، ويبدو أنها أثيرت بصورة أو بأخرى.
حرّكْ تلك المنضدة قريباً من هنا.
جذبت المنضدة ذات العجلات قريباً، كانت الإضاءة خافته ولكن الرؤية واضحة وجيدة، على المنضدة قفازان ناعمان ارتدتهما، عملت أناملها في عينيها، فأخرجت عدستين لاصقتين وضعتهما على صحن صغير أعد لذلك، عملت أناملها في فمها، فانتزعت صفين من أسنانها البيضاء الجميلة والتي كانت تشع مستجيبة لغزل الضوء الخافت، طالما أعجبت بهما في صمت، وضعتهما في صحن أعد لذلك. قالت بفم خالٍ من الأسنان وقد بدأ غريباً:
أترى، أن أسناني مستعارة.
وابتسمتْ ابتسامة في شكل فراغ كبير مظلم، ولكنها لم تثر اشمئزازي فالمرأة كما يقولون في الظلام: جسد ودفء. وأنا بالفعل استجبت لأناملها في فروة رأسي، أكثر من أي شيء آخر.
قالت وهي تميل بكامل جسدها نحوي، حيث ملأ عطرها انفي تماماً..
ساعدني في إخراج البنطلون.. أرجوك.
وكنت أظن أنني سأقوم بسحبه بالقوة، وقد بدأت في ذلك، إلا أنها أوقفتني قائلة..
فقط حرر زرارين في الخلف.
ثم بسهولة سقط البنطلون على فخذيها، ثم جذبته بأناملها الرقيقة الشاحبة وتحررت منه تماماً، ولدهشتي، عندما وضعت البنطلون جانباً، كان ثقيلاً، وعندما انتبهت، وجدت داني بغير ساقيها، قالت في برود ورباطة جأش،
أترى أن ساقيّ.. هه..
وقبل أن أسأل أو أكمل دهشتي، تحدثت داني،
هي حكاية عادية، كنت أغني للجنود الأمريكان شمال العراق جنوب السليمانية في عاصفة الصحراء، طبعاً لرفع الروح المعنوية للجنود حتى يتمكنوا من تحرير الكويت وهي بلدة عربية أحتلها صدام، كنا وسط أصدقائنا من الأكراد والأتراك وبعض فعاليات المعارضة العراقية، ورغم ذلك، كنا حذرين من المفاجئات، ولكن لسوء تقديرنا أن جندياً من المعارضة العراقية، هو الذي نصب لنا لغما،ً أودى بحياة ثلاثة جنود، وفعل بيّ ما فعل.. هي الحرب، أنا لست غاضبة من أحد، النار لا تفرق بين جندي أو مغنية بوب.
انتزعت قميصها بنفسها، وكنت انتظر مفاجأة أخرى، ولكن صدرها كان فتياً ونهداها معبئان جيداً، ولا توجد تشوهات في صدرها وبطنها وظهرها، بأناملها المحمومة أخذت تفك زرار ملابسي، وأنا لا أدري فيما أفكر، ولكني كنت أرغب بشدة في الانفكاك من هذا المكان ومن هذه المرأة الصلدة، التي رغم كل ما رأيت من مآسيها، تتعامل وكأنها تضع العالم كله في جيبها، قلت لها:
أريد أن أذهب.
قالت بثقة.
سوف لا تذهب.. ستبقى معي للغد.
ابتسمت، بدا فمها هوة عميقة غامضة، ثم أخذت تدلك فروة رأسي بأناملها في صمت، وعن طريق نهايات أظافرها الحادة، كانت تمشط شعري الخشن، أستطيع أن أسمع خشيش احتكاك الأظافر بمنابت شعري، عالياً مثل طرق صفيح فارغ.
أكتوبر200
الأخدود
سألني السائق سؤالاً أخيراً
عندك جد فى العرديباب ؟
قلت له مؤكداً وبشكل حاسم
نعم عندى جد واسمه الحاج عندلة.
ثم سألني وكأنه يريد أن يؤكد شيئاً
هل هو موجود حالياً... فى الأيام دى بالذات.
لا أدرى لماذا يتدخل السائقون الثرثارون فيما لا يعنيهم،أنا ذاهب الي العرديباب، وعليه أن يكبح فرامل عربته فى العرديباب، وينزلني وينطلق فى شأنه نحو أعالي النهر، عند الحدود الأثيوبية، ما يهمك أنه موجود حالياً أم غير موجود، ما شأنك، أنا لا احب التحشر فى شئون الآخرين وبالتالي على كل شخص أن يلزم حدوده.
ما عارف.
قلتها جافة وعدائية و حاسمة كبصقة فى وجهه. وبعدما قفزت العربة على خورين معشوشبين مشجورين شجراً كثيفا، توقفت، قاصدا طريقاً للمشاة تعبر الغابة نحو الغرب، قال لى:
أنزل الشارع ده يوصلك للعرديبات، والله يكون فى عونك.
ولو أن،والله يكون فى عونك، أغاظتني للغموض الذى يكتنف مدلول مايريد قوله، إلا أنها كانت ستصبح مفتاح كل شئ إذا كنت قد صبرت عليها بعض الشيء وسألته: تقصد شنو.. ؟
ولكن كبرياء أولاد المدينة،ولابسى مناطلين الجينـز والتى شيرتات ذات الألوان الباهية، يسيطر علىّ، وحقيبتى على كتفى توهمنى بأن بها كل ما أريد ولا احتاج لأحد، حتى إذا لم أجد جدى، أنا اعرف كيف أتصرف، نعم أنا لا أعرف جغرافيا المكان بالقدر المطلوب، ولكننى لست فى سيبيريا أو غابات الأمازون، أنا فى السودان وفى الشرق نحو الجنوب قليل، حقيقةً أن بهذه المنطقة دارت حروب طاحنة، لفترة طويلة من الزمان إلا أنها مفتوحة ومعروفة لدى الجميع، ولا يوجد شئ غامض فى هذا البلد، ولا أراضى لم تطأها قدم إنسان ولا ثعابين تطير ولا … ولا، لكن يقصد شنو بالله يكون فى عونك. سلكت طريق المشاة عبر غابة النبق والدوم، وكنت أصادف بين حين وآخر بعض نباتات القنا العملاقة، رأيت قرداً صغيراًً، رأيت قردين، رأيت أرنباً كبيراً رأيت قطين متوحشين، ورأيت ثعباناً صغيراً، رأيت طائر هدهد كبير يحفر الأرض بمنقاره ويصطاد الدود، رأيت قرداً كبيراً على شجرة دوم، رأيت فأرين، فهى مشاهدات عادية فى مثل هذه الأمكنة، وأنا أيضاً مشاهدة عادية بالنسبة لها، فلم تخف منى الأشياء ولم أخف منها، ولو أننى فزعت عندما رأيت القرد الكبير أمامى فجأة على شجرة الدوم، ثم عندما ابتعدت عنه، عدة خطوات ورمانى بدومة، ثم رمانى بدومتين ثم استطاع أن يصيب رأسي بدومة تؤام كبيرة الحجم، هرولت قليلاً، وبعد عدة متعرجات شوكية أصعدنى الطريق ربوةً عالية، عن طريقها استطعت أن أرى قطاطى القرية والتى تبعد ما لا يقل عن خمس كيلومترات، صعدت على هيكل دبابة قديمة محطمة وأخذت أنظر الى اتجاهات الدنيا الكثيرة، بدأ واضحاً لدىّ أن هذا المكان هو الذى شهد المعركة الحاسمة بين الجيش والمليشيات، وهى المعركة الوحيدة فى التاريخ التى انتهت بهزيمة الجيشين فى آن واحد، أسماها الجيش معركة الفتح المبين، و أسمتها المليشيات، نصر الله، فالمليشيات كانت تريد أن تسيطر على الكبرى الذى يعبر النهر، أو إذا لم تستطع الاحتفاظ به فى إدارتها العسكرية،عليها تدميره، لكى لا يستخدمه الجيش فى أغراض عسكرية، والجيش أيضا كان له نفس الهدف: تدمير الكبرى أو السيطرة عليه، أما الكبرى نفسه فقد بناه سكان القرية الذين يعملون فى الصيد غير الشرعى للحيوانات البرية من الغابة المقفولة، والتى تقع فى الجزء الشرقى من النهر، بنوه مستخدمين سيقان المهوقنى والتِك العملاقة، وهو كبرى عائم يرتفع مع ارتفاع النهر وينخفض مع انخفاض منسوب النهر، مربوطاً من نهايات أركانه الأربع، بنوع من الحبل الذى لا يمكن أن ينقطع نتيجة لأي قوة شد، وهو مصنوع من جلد فرس البحر المعالج بالقطران وألياف الرافيا والسعف ولحاء بعض الأشجار الأخرى، مشدوداً على شجيرات عرديب ثلاثة بالشاطئ الشرقى، وأربعة بالشاطئ الغربى للنهر يستطيع هذا الكبرى أن يمرر دبابة ضخمة من طراز 55 الروسية ذات البرج العالي المجنزرة والتى تزن خمسين طناً من الحديد الصلب والذخائر والجنود المدججين بالموت والذكريات، أما ناقلات الجنود الأمريكية الرشيقة والتى تخص المليشيات فأنها تنـزلق على الكبرى مثل لُعب الأطفال، دعنا من الجيش والحروب، قلت لنفسي، ولو أن ذكرى الجيوش والمعارك تثيرها مشاهدات المقذوفات الفارغة وخوذات العسكر والآليات المحترقة التي ترمي هنا وهناك بين المقابر الجماعية، على أفرع الأشجار، أو مدفونة في الأرض.
بعد مغيب الشمس بقليل كنت عند مطلع القرية، وبدأ صوتها واضحاً، نباح الكلاب، نهيق الحمير نداء الأمهات لأطفالهن، بين وقت وآخر يعلو صوت رجل راطناً أو مغنياً أو لاعناً أو مجيباً لنداء، تذكرت أن أحد الذين قابلوني فى الطريق قال لي: منزل جدك هذا قرب النهر، لكي أذهب الي النهر لابد من عبور الحلة كلها، وحَلَّ الظلام الان، تراكمت بعض السحب الداكنة سريعاً فى شرق السماء،عندما ناديت أهل أول بيت من خلف زريبة شوكهم.
يا ناس البيت سلام.
رد عليّ صوتُ امرأة شابة
أهلاً وسهلاً،إتفضل،منو...
كان الظلام دامسا، لا أرى ولا أُرى ولكن الصوت الحنين الدافئ القادم من الداخل، بلهجته الصعيدية الحميمة، أصابنى بالطمأنينة، وربما لما يحمله من أنوثة ملحوظة، وأنا شخص طالما وصفني أصحابي بأنني أميز هذه الأشياء، وقطع سلسال تفكيرى صوتها سائلاً:
منو........ ؟
أنا ضيف... ؟
وأنضم للصوت الأول حمحمة امرأة عجوز ويبدو أنها الأم:
إتفضل قدّام.
وجاءتا ببطارية لترشداني الي المدخل والذى يقع علي الجانب المقابل لموقفي، فمشيت نصف الدائرة شمالاً إلى أن وجدتهما واقفتين، أُجلست على راكوبة صغيرة تفوح من جوانبها رائحة الروب والسمن والشرموط، ايضاً السمك المجفف، يبدو أن خلف الراكوبة يوجد حمار أو حماران، فصوت زفير منخر ضخم كان يصلنى من هنالك، وشخير عميق يأتي لسمعى من عمق ظلام القطية، قدمتا لي ماءً من زير قريب بارد، سألتني الأم والتي مازلت لا أستطيع أن أتبين ملامح وجهها،
من وين جيت... ؟
من القضارف.
أنت ود منو.......؟
أنا ود الحاج عندله..
وهنا فجأة سمعت صوتاً يأتي من داخل ظلامات القطية قوياً وحاداً....
دا منو الضيف القال هو ولد الحاج عندله دا...؟ تعال لي جُوا هنا. تعال جوا هنا..
وتبع ذلك جلبة شئ يصطدم بشئ، وشئ يقع علي شئ، شيئان يسقطان علي الأرض، يصدران رنيناً يطول، ثم حشرجة حنجرة يابسة قديمة صدئة ثم شحذ سكين علي خشب جاف، وأصوات أخرى.
تعال جوا هنا...
وفي ذات اللحظة التي نهضت فيها للذهاب إلي الداخل، أمسكت الفتاة بيدي وجذبتني إلي خارج الراكوبة، قالت جملة واحدة قوية.
أهرب... اقطع البحر، ولو ما قطعت البحر: حتموت.
ولا أدرى كيف قفزت علي الشوك الذى ما كنت أراه، ودرت دورتين حول نفسى، كنت خلالهما أبحث عن الاتجاه الذى يجب علىَّ أن أجرى نحوه، تجاه النهر، ولكن حينما صاح الصوت مصدراً عواءً وكأنه ذئب جائع منذ ألف عام، جريت دون أن أفكر، ثم سمعت عواءً مشابهاً من جهات أخرى، ثم عواءً مشابهاً ثم عواءً آخر: خمس أصوات ذئبية تنطلق من خمس بقع فى الظلام، ثم نبحت كلاب الحلة مذعورة ثم أخذ ضوء البطاريات ينطلق من هنا وهنالك، شارخاً الظلام، صراخ نسوة، صياح أطفال صحوا مذعورين على العواء المرعب، صوت أقدام مهرولة، بل دوى طلق نارى شاقاً الفضاء، مما شلّ ما تبقى لدىَّ من تفكير، وجدت نفسى الآن على حافة النهر، ويقترب العواء منى أكثر، حيث تجمع - على ما أظن – الخمسة وأصبحوا مجموعة واحدة منطلقة خلفى، لم أفهم شيئاً إلى تلك اللحظة، لا أعرف غير أنه يجب علىَّ أن اهرب، وأعبر النهر حتى لا أموت، سقطت على مياه النهر مباشـرة،ً وكنت ممسـكاً بحقيبتى بشكل جيد وتام، وعنـدما انتبهت لخطأ المغامرة، خرجت من الماء، نزعت نعلىّ وأودعتهما حقيبتى، كذلك منطلون الجينـز والقميص، وأصبحت عارياً إلا من لباس داخلى قصير، ثم وضعت حقيبتى الصغيرة على ظهرى، وحمالتيها تدوران حول إبطى، وسبحت، كان ماء النهر بارداً وثقيلاً. وعندما كنت على الشط الآخر، وصلوا الشط الأول، أضاءوا نحوى بطارياتهم، ثم صاح واحد منهم بصوت أجش حامض، وكأنه نهيق حمار،هناك حتاكلك كلاب السِمِعْ، أخير تعال هنا نأكلك نحنا.
ثم علا ضحكهم ثم رطنوا، ثم ضحكوا مرة أخرى، ثم قال لي آخر منادياً، بينما كنت أنا اهرب مختفياً فى الغابة الكثيفة، بكرة نعرف خبرك... دخلت الغابة الملعونة براك، برجليك. ضحكوا،عووا، صاحوا في رعُب ضحكوا، ثم أكدوا بصوت واحد، أنني لن أنجو من كلاب السمع. و اختفوا تماماً وتلاشت أصواتهم تدريجياً.
لم أتوغل في الغابة لأنهم قالوا إنها الغابة الملعونة، و ورد ذكر كلاب السمع الشرسة، والتي اعرفها و أخاف منها بشكل جيِّد، وهى لا تستغرق عندها وليمة من ثور الجاموس غير خمس دقائق، يختفي عن الوجود، ولن تبقى من دمائه ولا قطرة واحدة، فقط هيكله العظمى كشاهد على الوليمة، صعدت شجرة وجلست على فرع منها، لا يبتعد عن الأرض كثيراً، سوف لا أنام وعندما تشرق الشمس غداً، ربنا كريم، يبدو أنني نعست لأنني أخذت أسمع صوتها يناديني، عميقاً دافئاً قروياً حنيناً ولا مبالٍ، وسمعت خطوات تتعثر ولكنها تقترب في ثبات
ولد الحاج عندله.. ولد الحاج عندله.. ولد الحا..
نعم هى ذاتها، والغريب فى الأمر أننى لم أخف منها، بل صحت مباشرةً بأننى هنا على فرع الشجرة، وأقتربت، لم أستطع أن أتبين ملامح وجهها ولكنها بلا شك كانت جميلة، إن الصوت دائماً كما يقول صديقى – أبو ذر– دالة فى الوجه، كانت تحمل بخسة من لبن البقر مخلوطاً بالسمن، وأنا أحب اللبن وأحب السمن أيضاً وأحب البنات، طبعاً أكثر: أن أنجو.
طلبت منى أولاً أن نغادر هذه الغابة الملعونة، والتى هي أخطر من الرجال الذئاب، فهى مسكونة بالشياطين وكلاب السمع ولا يجرؤ أحد من القرية دخولها ليلاً، وأنها لولاى لما فعلت، فحملت حاجياتى،عبرنا النهر، عبر بقايا الكبرى المتهالك ومشينا قليلاً على ضفة النهر الغربية ثم، أشارت الىّ إلى طريق أضاءت جزء منها بالبطارية، وقالت لى إنها تقودنى إلى قرية آمنة.
جلسنا تحت شجرة، أخذتُ من بين كفيها قرعة اللبن الدافئ المسمن، وفى شفطتين طويلتين أتيت على كل محتويات الماعون، وأخذت أتنفس بصورة متسارعة وألحس شاربى بلسانى، متصيداً بقايا اللبن عليه، مستفيداً من أنها لا تستطيع أن ترى ذلك فى الظلام، كنت جائعاً جداً، ثم أخذت أرتجف بصورة مرعبة، لا أدرى لماذا أرتجف، خوفاً، شبعاً،أم باللبن شيئ ما سوف يفقدنى الوعى وأصبح فريسة ساهلة لهولاء المتوحشين... لا... لا... أنا أثق فى المرأة، لأننى أحب النساء وكنت أعرف بينى وبين نفسى أنه يستحيل أن تلحق امرأة بى ضرراً ولو يسير، لأن لدى النساء مِسبار سرى مسحور يعرفن به من هو عدوهن ومن هو العاشق، كما أننى استبعدت فكرة أن تتآمر هذه البنت علىّ، لأنها هى التى انقذتنى، قلت لها بصوت مرتجف:
أنا أشعر بالبرد... أشعر بالبرد والحمى.
فتحسست معصمى، ثم وضعت كفاً على خدى، كما لو أنها تقيس درجة حرارته، ثم قالت:
أنت بردان لأنك عمت فى البحر، أنت ما عارف الكبرى الجينا بيهو قبل شوية..
والله ماكنت عارفو.. فقط سمعت به مجرد سمع.
قالت ببساطة وبكل براءة تعال!
ثم نزعت ثوباً كانت تلتف به، نزعت جلبابها و أخذتنى الى صدرها..
حسِّى حَتحِسْ بالدفُو.
وعندما ضمتنى إليها بشدة، تأكد لى صحة جملتها الأخيرة، كانت طويلة، أطول منى، ذات جسد ممتلئ كالتيتل، ضمتنى إليها مسقطة صدرى بين نهديها الكبيرين، كانت تفوح منهما رائحة الكسرة الساخنة، كنت مندهشاً جداً لدرجة أننى ما كنت أفكر فى شئ، ولا الحمى ذاتها، كانت مثل أم أسطورية نزلت من الجنة الآن وهنا، ومن أجلى بالذات، قلت فى ذاتى...
سبحان الله، اليجيب قتالك يجيب حجازك، وعندما ضمتنى إليها بشدة، أحسست بأن رجليَّ ما عادتا تحملاني، بل لا وجود لهما، وكلما كنت احس به، من أعضائى، صدرى، الذى فى وسط بطنها الدافئ ورأسى التى بين طرقتى كسرة شهيتين، وكنت قد طوقت بذراعى وسطها، فى محاولة منى المشاركة فى هذا الاحتفاء الإنساني البديع... هذا المهرجان الجسدى الحار... قلت لها:
فلنرقد على الأرض، فأنا لا أستطيع الوقوف.
أحسن... قالت أحسن، نرقد فى الواطا... هل اتحسنت ولا لِسّع خايف؟!
وكنت سأجيبها إذا كنت أعرف، اتحسنت أم لا، ولكننى كنت – بالتأكيد – أحسن حالاً، فلقد أصبحت متماسكاً و اختفت ما تشبه الحمى من جسدى ولكن، أصبت بحالة من مالا يسعفنى قاموسى اللغوى البسيط على تسميته، بالتأكيد إن لحالتى اسما، وكنت ببساطة.. دعونى أقول لكم،أرقدتنى على صدرها وطوقت خاصرتى بذراعيها الطويلين كأذرع الغوريلا، كانت شفتاى فى نهاية حلمتى ثدييها اللتان من شعور غامض عرفت انهما لابد أن تكونا كبيرتين، ودون أن أفكر حركت رأسى قليلاً ناحية هرم ثديها، حيث واجهت شفتاى الحلمة الكبيرة الدافئة، أغرتنى رائحة الكسرة الساخنة، ودونما تفكير أخذت أرضع كالطفل.. تحركت قليلاً، وأظنها كانت تبتسم مشفقة وهى تقول لى فى حنان دافق:
أنت جيعان لِسّع... مسكين لو عارفة كنت جبت معاى لبن أكتر..
ثم أضافت فى براءة ..
ما حتلقى لبن فيهم لأننى لم ألد، زوجى توفى منذ أعوام كثيرة وأنا عروس، ما حتلقى فيهم أى شئ.
قلت لها..
أنا ما عايز لبن.
عايز شنو.. ؟!
قلت وأنا دائماً جرئ مع النساء ولا أخشى ردود أفعالهن، لاننى أعتبر نفسى صديقاً لكل بنات الدنيا وأنهن يوقعن فعلى وقولى الموقع الحسن،عايز أرضع وبس.
قالت وهى تضحك حقيقة فى هذه المرة، لأننى سمعت ضحكتها بأذىَّ.
أرضع.
ودفعت بصدرها نحوى بغنج انثوى دافئ.
وهى تسحب القطعة الوحيدة التى كنت أحتفظ بها من ملابسى، وبحركة رياضية بارعة أسقطت جزئى الأسفل ما بين نهريها، وفجأة وجدت نفسى منبلعاً كُلى فى المرأة، كما لو كانت شقاً على الأرض انفتح فجأة ابتلعنى ثم انسدت، مرة أخرى، أنا دائماً ما أقول إن المرأة هى أصل كل شئ، وكل شئ يعود الى المرأة وأتفه العائدين إليها وأولهم هو الرجل، وهى أيضاً الحقيقة الوحيدة، وهى الدفء الوحيد فى العالم بعد أن تغيب الشمس، وهى الأم التى باستطاعتها أن تلدنا فى كل لحظة، ولم يقطع حبل امتداحي للمرأة سوى صرختها عندما بلغت قمة نشوتها،
يايوووووما...
خرجت الصرخة من عمق سحيق وكأنها آتية من خلف قرن من الزمان، جلسنا نحكى لبعضنا عن بعضنا والأشياء، وقلت لها عندما قالت لىّ أهرب، كنت أظن أن جدى الحاج عندله قتل شخصاً ما أو أنه مطلوب فى ثأر، وأننى إذا لم أهرب لثأروا منى، سخرت منى ضاحكة فى غنج جميل قائلة وكنت أرى قربتى لبنها تهتزان فى الظلام،
نحنا هنا ما عندنا تار..
ثم حكت لى كيف توحش نفر من رجال القرية، وأصبحوا من أكلة البشر، بالرغم من أنهم كانوا من خيرة سكان القرية.
جاءت مفرزة من جيش الحكومة واختارتهم للتدريب، و اختفوا لما يقارب الثلاثة أعوام، وعندما عادوا، جاؤا وهم كلما جنّ الليل عووا، إلا أنهم حتى الآن لم يأكلوا أحداً، فى القرية ولو أنهم قتلوا رجلاً غريباً قبل شهر إلا أن ناس القرية حالو بينهم وبين أكله، حيث حفرت له مقبرة ودفن فيها.. ولم نستطع أن نبلغ الحكومة، فنحن أسرة واحدة، وهم من كل بيت، وإذا عرفت الحكومة ستقوم بإعدامهم، والناس يسعون لعلاجهم، فالآن بالخلوة يجلس عشرة من رجال القرآن والفقهاء وهم يصلون الليل بالنهار، إن شاء الله سيشفون عما قريب، هنا الناس لا يثقون فى الحكومة ويظنون أنها لا تعرف كيف تتعامل مع المشاكل، وأنهم سيعالجون اشكالاتهم بأنفسهم وطرقهم الخاصة.
شئ غريب.. يكون حصل ليهم شنو ياربى ..!!
الناس قاعدين يقولوا أنهم انقطعوا فى منطقة مستنقعات، سنة كاملة، لا زول جاهم ولا أرسلوا ليهم أكل ولا جاهم جيش لينقذهم، كانت المليشيات محاصراهم من كل الجهات حتى السماء ذاتو، يسوا شنو..
حدثتنى بأنهم، أكلوا القش والطين، أكلوا ثعابين الماء، الجرذان، أكلوا الصراصير والعنكبوت، أكلوا الذباب والباعوض، أكلوا الهواء والدود الأسود اللزج، ثم أكلوا بعضهم البعض، قالت..
الأقوياء أكلوا الضعفاء، و أنحنا ناسنا لأنهم من بلد واحدة اتحالفوا مع بعضهم وأكلوا البقية... المهم كلها قوالات ومافى زول يعرف الحصل ليهم شنو.. والغريب فى الموضوع أنهم اكتشفوا بعد سنة كاملة من الخوف والجوع وأكل لحوم الزملاء إنو المحاصرنهم ما كانوا المليشيات..لأ.. كان جيشهم نفسه، زملائهم ذاتم لأنهم قايلنهم مليشيات.. شوف كل زول خايف من التانى وقايلو العدو، سنة كاملة أتخيل.. سنة كاملة، الحرب دى بلوة من الله وابتلانا بها وبدون شعور قلت:
ما تبلغوا الحكومة.
قالت منفعلة
حكومة شنو وهى ذاتها الحكومة وين.
وأكدت لى أنهم لا يرون الحكومة إلا فى الطيارات التى تعبر فى السماء فوقهم، أو عندما جاؤا وأخذوا فتيان القرية للحرب أو عندما جاؤا هم وجاءت المليشيات وتحاربوا هناك عند الربوة العالية وغابة النبق، أسبوعاً كاملاً، فتطاعنوا،هشموا عظام بعضهم البعض، دفقوا دمائهم وصنعوا منها أنهراً، أنهراً حمراء، ثقبوا صدور بعضهم البعض بالرصاص الحار، هشموا رؤوس، قطعوا آذان، مثلوا، عقروا، سلموا، بالوا، عذبوا، قبضوا أرواح بعضهم البعض وأرسلوها إلى الله ولم يبق سوى جندى واحد هزيل جريح، بعين واحدة، من الجيش، ولم يبق سوى جندى واحد هزيل جريح برجل واحدة من المليشيات.
فدقّ أهل القرية النقارة، رقصوا على التل، على جثث الجند، وآلاتهم الحربية، ضحكوا على الجميع، أشعلوا النار على الأجساد المتقيحة المتحللة العفنة البائسة، ثم أتو بالجريحين، أرقدوهما على الأرض جنب جنب، ثم جاؤا بالعصى الكبيرة المصنوعة من القنا، وانهالوا عليهما ضرباً حتى الموت، ثم قاموا بدفنهما فى قبر واحدٍ ضيق، وهم ينشدون إنشاداً مرتجلاً أُلف فى وقته، فى ذات موقع التل، شربوا ما بقى من مريسة، وعادوا إلى منازلهم، لقد انتهت الحرب، ولم نر منذ ذلك اليوم احداً من المليشيات أو الجيش، نحن هنا عايشين على الصيد والزراعة، ونحل مشاكلنا بطريقتنا الخاصة ولسنا فى حاجة للحكومة، ثم سألتني ببراءة:
أنت من الحكومة ؟!
قلت نافياً بشدة، أننى لست من الحكومة وأننى جئت أبحث عن أخ تاه فى هذه الأماكن منذ شهور مضت، كان يعمل بتهريب جلود الحيوانات البرية بعد أن يشتريها من الصيادين، وقلت لها بصراحة أيضاً ويهرب: البنقو.
فقالت لى وكأنها لم تسمع ما قلت:
أنت تاجر بنقو مش كدة ؟
قلت لك أخى.. أخى يتاجر فى جلود الحيوانات البرية النادرة والبنقو،
قالت دون مقدمة..
عايزة أشوف وشك،
ودون أن تنتظر إجابتي، أضاءت البطارية فى وجهى مباشرة، تجولت بالضوء حول أذنى وشعرى وعنقى وأيضاً صدرى، مسحت بكفها على حواجبى قالت لى:
أفتح خشمك.
قذفت بحزمة ضوء فى فمى، كانت أسنانى بيضاء ومنتظمة وجميلة وستشع نوراً نتيجة لسقوط الضوء عليها وستعجبها أكثر من أنفى القبيح والذى أعرف أنه قبيح جداً، ولو أن أذنىّ جميلين قالت لى بصوت حالم.
أنت حلو..
أخذت منها البطارية وأضأتها فى وجهها، فصعقنى الوجه برغبة واحدة جامحة، قلت لها.
عايزك تانى.. حسِّ..
قالت لى بشكل نهائى وحازم وكانها كانت تعد لاجابتها من زمان بعيد،
لا، عشان تجى تانى،
وين ؟
حلتنا
حلتكم دى ؟!
لا، أنهم لليوم داك حيتعالجوا لا تخاف، كل الناس تعرف.. أنهم حيكونوا كويسين ذيّهم ذى كل زول، أنا متأكدة.. هو مرض وسيزول..
خلى داك للظروف أنا عايزك حسا،
لا.. عشان تجى.. ما تحاول لأنى ما حأقدر، و أنا ما عملت معاك العملتو إلا عشان انت كنت بردان و بس.
وشبقت بها فعلاً... شبقت بها بشدة.. بحرارة.. بجنون .. شبقت بها بصورة لا تغتفر..، شبقت بها بالسماء كلها.. والأرض وأمى وأبى وأخى وأخواتى الثلاث، شبقت بها بالليل والانتعاظ ورقصة الجسد الأبدية، بكثرة، بيايُمَّا، بيا العالم كله وأصدقائى البائسين، شبقت بها بحنق، بعنف بخوف، ببطء، بصبر، بسرعة رهيبة، بالأرض كلها تدور،ماء، بالموت والميلاد والبعث والضياء باللبن، بثدييها المشهيين الشهيين، بحق الماء الذى أودعته فخذيها، بحق اللذة التى وهبتها إياها، بحق الصرخة البائسة، شبقت بها بحق اللبن المسمون الذى شربت، بحق أن أنقذتنى، بحق أكلة البشر، بحق كل شئ عزيز وكل شئ تافه، شبقت بها.. والليل والطين والنهر والنساء والصديقات الجميلات الرائعات النائمات الآن الحالمات، الميتات، شبقت بها ورغبت فيها بشكل نهائى وسأموت فى الحال إذا لم أنم معها أو سأندم حياتى كلها أو سأكسر عنقى أو سأقتلها،شبقت، رغبت، كنت منتعظاً بألم خرافى، أنا أريدها: و الآن..
ففى المرة الأولى حدثت الأشياء دون رغبة منى ودون حتى توقع، بل أتستطيع أن أقول دون لذة فعلية من جانبى، ولو أنها أمتعتنى بصرختها تلك، إلا أننى لم أر حتى وجهها ومعروف أن الوجه نصف اللذة، إذاً كنت مدفوعاً، أما الآن أحتاجها بإرادتى أنا وبرغبتى أنا وبشهوتى أنا وبشبقى الكونى اللانهائى... أنا.. أنا أريدها امرأة، أريدها بلا مساومة: الآن وسأنام معها.
كانت تمانع بإصرار تام واقتناع لا حدود له، وهى تمسك بيدىَّ بعيداً عن جسدها وكأنها ما صرخت شبقاً من فعلى قبل ساعة لا أكثر، وكأنها لا تعرفنى من قبل، بل وكأنها ملاك وأنا إبليس بعينه، كأنها ليست امرأة ولستُ رجلاً.. وكأنها ..
لا عشان تجى تانى..لو عايزني،
مش حا أجى تانى إطلاقاً...
ومشيت، بل هرولت قاصداُ الطريق التى وصفتها لى، والتى كما قالت ستقودنى إلى قرية صغيرة آمنة، ويمكننى أن أبيت فى بيت من بيوتها، وعندما تشرق، أستطيع أن أتصيد اللوارى الذاهبة للقضارف، فهى تسلك طريقاً من القرية على بعد ميل أو ميل ونصف الميل،
كنت غاضباً غضباً حقيقيا، وشبقاً شبقاً حقيقياً، وفوق كل ذلك لا مبالياً بشئ، وعندما بعدت منها مسيرة دقيقتين أو ثلاث سمعت صوتها تصرغ قائلة، ما تزعل منى سامع، ماتزعل منى،أنا برضو عايزاك،ولكن.
قلت بصوتٍ عالٍ وقحٍ شاتماً إياها...
يالبوة يا قذرة.. تفو..
لم ترد، ولكنى وأنا ا سمع نُباح أول كلب من القرية، سمعت صوتها يأتى من بعيد... من عمق سحيق من الظلام،منادياً فى وهن، أنا برضو عايزاك ولكن عشان نتلاقى تانى.
وقفت أنظر نحوها... لم أر شيئاً، كان الظلام دامسا، حملقت فى الظلام، فجأة برق ضؤ بطارية واهن من بعيد... بعيد جداً،إنها هى بالتأكيد، كانت تضئ وتطفىء،هى تريد أن تقول شيئاً أو تريدنى أن أعود إليها، لقد تفهمت وجهة نظرى، أو ربما أنها تودعنى، لكنى لم أفكر فى الرجوع إليها على الأقل الآن، لقد كانت كريمة معى، كانت وقحة وعنيفة، إنها بنت قوية أقوى منى،لأول مرة تهزمنى، امرأة... أول مرة فى حياتي أرغب امرأة بهذه القوة وهى معى، ولا أتستطيع أن أنال منها... مستحيل... مستحيل..ربما قد تعجلت الانسحاب، كان علىّ أن أحاورها أكثر علىّ أن أرجوها، علىّ أن أداعبها فالمداعبة تلين النساء، وتفقدهن السيطرة على أنفسهن، علىّ أن أكون طويل النفس، كنت أحمقا وقصير النفس ومغروراً وأنانياً، ولم أتح لنفسى تفهم وجهة نظرها، فكرت فى نفسى وفى حاجتى الآنية، ولا أدرى هل هى بريئة أم أنها مغرورة أيضاً ولكنها كانت كريمة معى، كانت أماً فعلية، لا.. رحماً عميقاً دافئاً، كنت سأمتدحها أكثر، لو لا أن هرتنى كلاب شرسة وحاصرتنى حصاراً تاماً وكشفتنى وجهرت عينىَّ بطاريات كثيرة، وصياح، مُنو، مُنو، وكدتُ أن أقول ضيف، وكدت أن أقول ابن الحاج عندلة، ولكنى آثرت الصمت، الصمت التام.
ديسمبر 2001
في ذكرى مرور اعوام كثيرة،
علي مغادرة بوذا لمدينة أسيوط،
بغم أسيوط،
أسيوط في أسيوط، أما الصادق حسين عند دوران روكسي يرقب المارة، في شارع النميس، ثلاث فتيات، ولد واحد، جلال الجميل، النفق الصغير، شارع الجامعة، عند كلية التجاره تقف عربة التاكسي، تنزل فتاة واحده تمضي العربة بالبنتين، كلما في جيب محمد الناصر ثمن سيجاره واحده، سوف يستخدم علبة الكبريت الفارغة كراسة لكتابة ملاحظاته عن محاضره الدمشاوي الاخيره، يغني الدمشاوي لسيد درويش، ثم، يموت.
انا لا احب الفلافل، ولكن الجوع الكافر هو الذي جعل الفتاتين توقفان سائق التاكسي وتطلبان منه ان يشتري لهما جريدة المساء، ستقرءان لأول مرة لعاطف خيري وحسين تيه باجور وشكيري توتو كوه ووداد مرجان والشاعر الرقيق حمدي عابدين، هل نذهب الي قصر الثقافة، اليوم هو الثلاثاء، البنت الكبيره حميده والبنت الصغري فوزيه ابو النجا، سمر هي ايضا طفلة جميلة ستصير اكبر من المروحة واكبر من حديقة الفردوس، انا أعرف ذلك وايضا سعد عبد الرحمن، تتحرك عربة التاكسي نحو الفرح والجوع والامال العريضة، دار الاتحاد، أمين حمد ناالله، جفون، امل الخاتم، بهاء غير موجود الليلة يسهر مع اسامة الكاشف في الاسنكدرية، فالموسم مطير، اشجار المسكيت تنمو فى كل مكان مجانا، لاثمن لشئ، تفف عربة التاكسى عند مدخل بيت الطالبات، درويش الاسيوطى، محمد درويش، ابليس الشعراء احمد الجعفرى يغنى هو وجمال عبدالناصر على ترعة الابراهيمية، يدخل، كانت بذاكرتى تعبث الجرذان، ذاكرة جرذ كبير، كبيرة ذاكرة الجرذ الكبير، بوذا يعشق الليل والنهار والسفر وكتب عم سيد الشهية المتبلة والدوريات الكويتية، عالم المسرح واقلام صدام حسين، العالم هنالك اقرب، اقرب اكثر من السماء، السماء هنالك تمطر قططا وكلاب، بوذا يرضع اغنام المهاتما غاندى ويهرب نحو قمةلاسا، معاويةالزاكى، انتصار دبى ، انتصار الفاشر، انتصارالشايقى، انتصارالاخرى، ابوذر وداليا وامال فى جمالها المرعب، جمال كبير البصاصين، تنزل بنت جميلة ولكنها تقول لجلال الجميل،
- نتلاقي في جامعة بحر الغزال.
عاطف خيري، أخرج، أخرج، عاطف خيري، عاطف الحاج عاطف الفوكس، عاطف البحر، عاطف، نادر، عبدو، سوسن، سوسن عبد العزيز، عبدو نادر، أخرج ياعاطف، انت لست في المنزل، لست في الحسبان،
معروف عني،
أنك فيّ كأني،
معروف عنك،
أني منك اليك،
أحبك شئت،
أبيت،
بكيت،
ضحكت،أرضت
سموت،
لأنك أني،
وأني،
ذاتك أنت،
معروف عني، انك في كأني، معروف عنك، أني منك اليك، احبك شئت ابيت، ضحكت بكيت، أرضت، سموت، لأنك أني، واني ذاتك أنت، سلام لطيف لا يوق، سلام لاشجار دفلي، سلام لسياب روحي، سلام لأسيوط قلبي، سلامي لقلبي، صديقي محمد فتحي، ذكريا عبد الغني، صديقتي البتزا بنادي الحقوقين، صديقتي جداً اليوم يمضي، والتكاسي تلفظ البنات في الشوارع الجانبية، بوذا وحيدا يواجه بوذا، والناس مشغولون عنه بالناس، والقصص القصيرة والاشعاروالروايات تنتظر في دواته، أكره هذا العالم الجميل، احبه أكثر، مابين 1963 يوم الثلاثاء وبين 1993، ثلاثون عاما في الحمراء، عزبة السجن، محمد عيسي، عادل خليل شايب، عبدالله ابراهيم عبدالله، عبد الله المبصر، نحن العميان، رياض تبن، مني، نازك، الحاج حمد الحاج، جوهر، نادر، هجو، هجو اللعين، هجو اللعين جدا، هجو، عصمت، معاوية الاخر، معاويةالاول، أدخل مجهرا اخرج من اخر، الولد الكبير يغني،
بلادي وان حنت علي كريهة، قومي وان حتموا علي لئام، بوذا يتبول عند حائط المبكي فيلعن، اولئك اصحابي فجئني بمثلهم، كتاب، لسان سليط، مناهل سعيد، زينب، لاأعرف بحرا للمحس غير النيل، زينب حلمى،اطول عنق، عنق النخلة، واجمل عنق، عنق النهر، وبوذا يستفرغ ذاكرته فى قاع النهر، بوذا يحلم، تنزل حبيبة من عربة التاكسى، تصعد حبيبتان، جلال الجميل، يتأمل وجه ياسر، ينقسم وجه ياسر لوجهين، وجه يخشي الاسفلت، ووجه يشع كالنجم، يذهب الوجهان، لحضورالبروفة النهائية، لفرقة ساورا، الزين بحارى، امل الخاتم،ابتهاج، موناز، السمانىلوال، الصادق الرضى، اخيرا يفشل فىصنع فتاة من دمه، ولكن ينجح فىان يسميها نضال، من ينتصر علىمن، كلتوم فضل الله، الدارصباحى،012233305،الطريق الي الله، يبدأ من الله، فى سنة1992،
احبك حبا شديدا،
فيروز، شادى، اللوسينا، حبيبة الصادق، اطيار الكلج كلج، قطيةالروح، سلام بلادى في عيد السمك، خشم القربة، بنت النوبة، احمد سعودية، حماد، كفاح، حسن علي، كوثرحسين، سيحزن الليل انه وحيد، يريد ليلا يؤانسه، في شارع روكسى، عندالدوران يقف الصادق حسين،لا ينتظر احدا، ولكنه ايضا لا يريدالذهاب، لان كل الاتوبيسات، والميني بص وعربات التاكسي والمترو والقطارات السريعة، لايمكنها ان توصله الي كمبو كديس، ولا خميسه ولا عايدة ولانعمة ولا علوية ولا احد باستطاعته ان يأخذه الي ديوانه بالحي الجنوبي، قرب الزاوية شمال الغسال تسفاى، الصادق يحملق في المارة، الصادق حسين، في جيبه علبة كليوباترا، ومئة دولار ارسلها له اخوه داؤد من الولايات المتحدة، له حذاء جديد، وهو لا يهتم بالموضة، يكتفي بالجينز، في جميع الفصول، تماما كما كان يفعل في خشم القربة وفي اسمرا أيضا، الآن لاينتمي الي اي حزب كان، فقط، حزب المغربين والمبعدين عن كمبو كديس، والذين ليس بامكانهم حضور يوم السمك في،
18/ 8/ 2003، كل سنة وانت بخير، أحمد زكي، كمبو أحمد زكي، معروف عني، انك في كأني، كتبت حبيبة ذات يوم لحبيبها واسمه السمندل، أمه سوزان وأبوه المتنبي، قالت له،
- عد،
قال،
-من أين،
قالت،
-عد وحينها أنتظر خلفك لتعرف أين كنت،
وكانت البلاد شاسعة، والنيل يمتد الي مالانهاية،السمندل لا يعرف أحدا في استراليا ولم ير حبوباته من قبل،لا يعرف وجه صالحة، فات منها فوت، و الصبر و الكدح أبدا لا يعيدان غريبا لوطنه، عبثا، الصادق حسين يقف عند الدوران، تقف عربة التاكسي تنزل صبية، تلقي التحية كيفما اتفق، ثم تنتبه لوجود شخص تعرفه يقف عند الدوار، وجلال الجميل لايعرف أحدا أنه يحب الجميع، قالت
- الصادق،
قال انه سوف لايذهب لاي مكان كان وبأي طريق كانت طالما لم تقده هذه الليلة الي كمبو كديس،
قال لها: لا يوجد، يا أختي ملجأ أفضل من الوطن،
( قلنا لن يوصلك البحر..)
قلنا،
لن،
يوصلك، البحر.
عاد أبكر آدم أسماعيل، وفرحت امه بعودته وزغردت، ولكنه نسي في المهجر كراسة اشعاره الاخيره، عاد مرة اخرى، سوف لايشتاق إليه احد،
( لسنا في البيت
لسنا في الحسبان)
نعم، سوف لايشتاق إليه أحد، قلنا لن نشتاق لأحد، نحن هنا في البيت لانضع احداً في الحسبان، لن نشتاق الي أحد، منذ ان غادر احباؤنا البيت لم يعد البيت للبيت، والبنيات الصغيرات
أطلقن ضفائرهن للريح،
اعدنا نحن الضفائر للنهر،
اطلقن ضفائرهن مرة اخرى للمطر،
اعدنا نحن الضفائرللرمل،
اطلقنها للنخيل،
اعدنا نحن الضفائر للودع،
اطلقنها للسوميت،
اعدنا نحن الضفائر للبنات،
فنعسنا ونمنا علي أكفنا وكنا ــ كما تركتمونا- أمينين علي الصبيات، فتغازلنا الليل كله ثم، عندما اشرقت الشمس حملن اطفالنا وذهبن لأبائهن بالبشارة، بوذا يرسم في كهف العذراء مريم ليل دير المحرق، الأب ناشد بشاره، البابا كرلس، لا احد في المغارة، لاوجه يبكي، حبيبتي تقلم اظافرها عند المزلقان، تنبهها خديجة لامر أهم، كريمة ثابت، آمنة الصعيدية الشاعرة، دكتور مصطفي، عم سعيد صاحب الكتب الشهية، نادي الادب، الريح تأخذ حبيبتك للريح، والله يأخذ الريح بالريح، لابأس، سلام من اجل وردة الطين، سلام من اجل كتاب لم نقرأه، سلام لاطفال الشوارع، أولاد الحرام، الذين ليست لهم ريح يستحمون بشظاياها، وانت بارد كجرادة تبيض، بوذا، سوف يغادر الان اسيوط، نعم سوف يغادر اسيوط الي محاسن، رحلة لم تنته وسيظل طبق الكسرة علي عطر الطايوق ودخان الكتر، كان بول كلب طريد، اغسلته محاسن، مازالت رائحة شوائه تزكم انوفنا، عاد بوذا يحمل اسفاره الخمس: كتاب اللبن، كتاب السماء، كتاب الصبيان وكتاب كمبو كديس، انت لاتسوي شيئاً في المنفى، حسن البكرى، هنا سوف يراك الناس عندما تستحم في الخور، سوف يراك الجميع ويصفقون ويرميك الاصدقاء بالسفاريك والدراب كما رمي الشنقر والرضي، كما رمي شكيري توتو كوة، يرمونك بالكلج كلج وأم بقبق وصلاح احمد ابراهيم، بصديق الحلو، سيرمونك بي، وبك وقبلة سريعة من صبية تشهيتها كثيرا وطويلا وقصيرا ـــ ومثل عبدالله زيدان ــ عندما انفردت بها في زقاف ضيق وهي عائدة من الدكان، ضممتها لصدرك بشدة وقلت في ذات روحك،
- ديني انا.
الصبية الآن في البيت، ولكنها لاتنتظر أحدا، لاتشتاق الي احد، لستم في البيت، لستم في الحسبان، عند المساء، عندما يتهيأ لنا ان العسس في سنة عنا، آخذ صديقي، الصادق وبابكر الوسيلة، عبدالله زيدان يقف عند الماسورة يشّيل نسوان الكرنقو باقات المياه، وبين مسكيتتين كبيرتين ندخل الي خميسة، تغمرنا رائحة البيت العطره، رائحة البلح المعتق، تحتفي بنا تدير موجة الراديو الي ام درمان وياسعادتها اذا صادفت اغنية، كأنما هيأت ذلك هي بنفسها شخصيا،
ـــ ديل ا نتو،
يا بنت... يا بنت اديهم البنابر،
وتأتي سلوي بالبنابر، ومنذ ان فعل عبدالله زيدان فعلته، تعاهدنا بأن سلوى زيها زي انتصار، زيها زي صباح، زيها زي عزيزة، جلسنا، لم نتذكر احدا، لم نشتاق الي احد، ولوان خيال الذي يصحي التمرة نصف الليل لم يبرحنا، إلا ان بابكر دفق كأسا مليئة في وجهه قائلا له،
- لست في البيت،
اسيوط روحي، البيه مهران، حمدي عابدين: لسنا دائما علي مايرام،
في العراق، عند الباب الشرقي، صنع السودانيون المغربون تمثالا لابادماك من التمباك، واحتج نفر من الساسة، اعجب بذلك نفر من الساسة، تخاصم عليه نفر من الساسه، انشقوا علي انفسهم عندما باعه احدهم وقبض الثمن، حدث ذلك في العتبة وفي ركن السودان بأسيوط، لكن، من يوصل الصادق حسين الي كمبو كديس، انه مازال عند دوران روكسي، يرقب المارة، السنوات الاخيرة، هكذا نغني، السنوات الاخيره، كتب بوذا في سفراللبن، عندما عدت من لاسا، عدت الي نفسي، كنت موزعا بين الصخور، اللالوبات، المسكيتات، الدراب، الخيار، ازهار الليمون، خجل الصبيات، العاب الاطفال وشليل، بنات بنات، كنت الدكتور في لعبة المستشفي، اللص في الحراميه والشرطة والكديس في من نطاك، الرمة في الحراس، التمساح في لعبة النهر، كنت الطيش في الفصل، الغياب والمشاغب، كنت ود امه وصديق ابيه وحبيب امل، صديق عبد الرحمن، الولد العضاه الكلب، القطع البحر، الجرى من الثور، الرفسه الحمار، الشرب المريسة، السأل الاستاذ سؤالاً عوقب عليه الفصل كله، كنت موزعا في المكان، لذا لم اجدني في لاسا، لا في اعلي قمم التبت لاعند معبد القرده او في شوارع روكسي، كان قلبي في صدر هاشيما بنت الكرنفو، ورأسي عند الشنخابي صاحب صاروخ الكيف، يداي في جيب صديريتي، ووجهي في راكوبة مريم يتستنشق عطر البن المقلي، لاأتذكراحدا، لاأشتاق الي احد، في الانتنيه جلس شيخان، كانا يتوكآن علي عصي واحدة، شيخان طويلان لهما وجهان جميلان، لكن لم يتعرف عليهما احد، كانا يعرفان المكان، تحدثا لبعضهما: إن في المكان لحمة تخصنا،
لم يتعرف عليهما اجمل الجالسين عندما يدخن سيجارة برنجي، ماو، لم يتعرف عليهما، شخص ليس في المكان من هو ابرع منه في اختراع الشجار الممتع واروع الالفاظ السوقية ذات العفن البهيج العفن الشهي، وليد اسماعين حسن، لم يتعرف عليهما المراسي محمد اسماعيل في عنقريبه، المقدود وقربة قرعة البقو تحفل في حضرتها الذبابات الكبيرات الخضراوات والتي يجيد رسمها صلاح ابراهيم، كان الشيخان، شيخان، يتوكآن علي عصي واحدة ولهما وجهان جميلان.
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملة قصصية:
ـاناادجار ألان بو.
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملةشعرية:
ـ انا اوفيد..
ولكنا قتلنا العمر خارج البيت، فلم نكن في الحسبان، الان ليست سوى عصى واحدة نتوكأ عليها و نهش بها علي الكلمات، وجهان جميلان، لدينا ظل لا يقي يوم لا ظل إلا ظل الله، بكت الصبيتان قبل ان تمضيا مع محمد خلف الى مكان قريب، يصنع الأمدرمانيون دائماً نصوصهم في مكان قريب، الصادق حسين يلتفت يميناً، يساراً، لا بص، لا حافلة، لا قاطرة، لا نفق، لا تاكس،لا قدمان، لا حمار أو ناقة، تستطيع أن تلقيه في خور قريب من كمبو كديس، أو عند مشرع السقايين، حيث أعتاد في الماضي الالتقاء بالصبيات علي الرمل بعيداً عن القيل والقال، لا عند الصفصافات، آسف أنت لا تعرف الصفصافات، لقد نمت بعد رحيلك تأكيداً علي غيابك و نكاية بك، نبتت غابة الصفصاف العشوائية على شاطيء النهر، شرق معسكر اللاجئين، عند الشلال، لا نجوى، لا زهور، لا نعمة، لا نزهة، لا جهاد، حماد، لا الحلب المزعجين، لا شجارهم في المغرب، سوف لن تحضر زواج موسى السمح، لن تشاهد صراع النوبة غرب مكتب الأمن، أمام الستشفى، في 18/8/2003 يوم دق السمك السنوي،012205926، 23/2/2003 حفلة ختان ولد نعمة أختك أعرف أنك نسيت أسمه، لذا لن أخبرك باسمه، 16/3/2003 عرس سعاد، نعم للمرة الثالثة، سيتزوجها صلاح، وهو ضابط إداري جديد، أنت لا تعرفه، لكنه سمع عنك، سعاد أخبرته عن كثير من عشاقها، تشاجر معي، تعرفني جيداً أنا لا إفتعل حرباً في النساء، لكنه دفعني علي ذلك دفعاً، فهو شخص جديد في النساء، سوف يتزوجها علي أساس أنها عذراء، مازلنا نذهب لكبري ستة لتناول الافطار في مطعم حسين، كل يوم جمعة علي عربة أبراهيم الديدي، في صحبة عتوت أو خروف أو ما تيسر من خيرات الله، نذهب للرميلة، يغني الدرديري لأبي داؤد، الكاشف، أغنيات الحقيبة التي تعجبك كثيراً، لا أحد يتذكرك، لا يشتاق إليك أحد، نغني، نسكر، نرقص نهيص ونبيص، تحت أشجار السنط، علي رمل الشاطيء، عمر، التاج، حماده، مساعد الديدي، عادل موسي، جني، عصام،الإعراب، الأسماك، الحدأة، ياسر، و أنا.
نسيك الجميع و الأنكأ والأمر أننا تقاسمنا حبيباتك جميعهن، غازلناهن، قبلناهن، ثم، بذرنا في أرحامهن أطفالاً، أسمينا الأطفال، بأسماء نعرف أنك تكرهها، مثل عايده،غايده، رايده، مثل الكاسح و الماحق و البلى المتلاحق، اسمينا كبيرهم باسم قاتل محمود محمد طه، منذ ان قتل محمود لم يسم أحد طفله بذلك الأسم البغيض، نكاية بك أسمينا أول الأطفال بإسم القاتل، لا احد يتذكرك، لست في البيت ـكما يؤكد عاطف خيرى ـ لست في الحسبان، هنا انا في البيت انا وحدى في الحسبان، بوذا يرسم خارطة لمن يريد العودة للبيت،
1 - للذين في السعودية،
تمشوا في الشوراع بحرية، غنوا للكاشف ومحمود عبد العزيز، هي اقرب الطرق الي البيت.
2 - للمغربين في مصر،
اضربوا بعصيكم البحر
3- للذين في بلاد الفرنجة،
حطموا سور الملجأ الذي فيكم، ثم الذي يحيط بكم، والعنوا اليورو والدولار، و كل العملات التي يستحيل الإحتفاظ بها في الجيب، قولوا لبعضكم البعض: لا يجد منفي أحلى من الوطن،
دكتور السماني في ماليزيا،
لا احدسوف يتصل بك، نسي الجميع رقم هاتفك الجوال وعنوانك وصورتك الشخصية، وحبيتك سوف تتزوج من صديقك في 2003/3/30،
5- عاطف خيري،
من يوقظ التمرة،
جلس شيخان في مقعد واحد، كانا يتوكأن علي عصي واحدة ولهما ثلاث ارجل، قال الشيخ للشيخ،
ـ ما اسم هذا المكان الفسيح،
قال الشيخ،
ـ اظنها روما،
بوذا عاد، عندما عاد من اسيوط، عرف الفرق ما بين روما وكمبو احمد ذكي، ما بين روما وكمبو الليمون وعرف الفرق مابين السمؤال محمد الحسن ورجل تبول علي واجهه المحال التجارية في التحرير، شوقا لشوق ونادية،
سلام مصر روحي، سلام منفاي الجميل، سلام بنت جوعي، سلام لطائر الكلج كلج علي شجرة اللوسينا، لحدأتين علي قمة قطيتي، لعبد الله زيدان وهو يحملق بعينين خبيثتين تافهتين في حشو شجرة طندب تسكنها بومة، سيدة الشاي، متلة بنات الجامعات الصغيرات يبحثن عن معرفة لا تفيد، كلام قاله الجامعه في الكتاب المقدس، يكرره عبد الله في جمال هذا المساء،لا يتذكر احدّا، ولا يشتاق الي احد ودكتور علي شرفي، يزداد طولا وبؤسا، ويزداد بيته صغرا وضيقا ولا يمتد ناصر، ولكنه هنا اكثر جمالا، الصادق حسين،
ام صلمبويتي،
ولا،
كدقاية زول،
لا تعد، ابق في دوران روكسي، هنالك النساء في الميني جيب والميني ميني جيب، الرجال علي عجل، الدراجات للسباق والفيلم الهندى، تحياتى لمكتبة مدبولي، اسيوط في اسيوط وبوذا يحي ذكري سنوات كثيرة مرت منذ ان ودع درويش الاسيوطي يوم السبت في نادى الادب، استفرغ الذاكرة،
ارمي بكم بعيدا عني، اخرجوا مني كي اراكم اكثر حلكة، كي ادفق عليكم ماء النسيان لكي احبكم اكثر ألعنكم، عوض شكسبير في صلعته الجميلة، عبيد، انس الشرير، اخرجوا، اخرجوا، تدور عربة التاكسي دورتين سريعتين ليضغط السائق علي زرار المنبه، يفتح الحارس الباب، تدخل السيارة حرم الجامعة، في كلية البيطرة تنزل بنت جميلة اسمها ياسمين، تعود سيارة التاكسي فارغة لتختفي في شوراع الوليدية الضيقة تزحف بين عربات الكارووالباعة المتجولين، من علي البلكونة يطل وجه عبد الرحمن جربو، ثم يختفي مرة اخرى، باتريشيا الآن وحيدة، كتنق، تمتطي طول قامتها، ترسل اظافرها في الهواءالندى، هواءالصباحات القادمة، سوف يحاول الاطفال تأجيل عيد الفصح من اجل باتريشيا فالحائك لم يجد منديلا بطول باتريشيا، ولا نخلة يطيل صبرها بها ولم يجد مرسي لسفن الباشوات والقرصان، حتي يستريح عندها العبيد، والرحلة طويلة سواء اكانت الي مصر او جورجيا،
الرحلة طويلة،
والاغلال تحز معصمي وتأكل ساقي وكلما ادمي لي جرح بصقت عليه، وكلما رآني السيد افعل، مشقني بالسوط علي ظهري وسبّ أمي وأبي والمستنقع الذى خلقني منه الله،
ـ انتم وصمة العار الوحيدة في جبين الانسانية،
قالت لي، كتنق، بلغتنا،
ـ انه كلب حقير،
كدت ابتسم لولا الحزن الذي يغمر قلبي، لا لا لن ابتسم للسيد، ولكن من اجل كتنق وحدها، الصادق حسين تؤلمه الجغرافيا وبذاكرته مجزرة تعمي دمائها المسفوكة قلبه، لا احد، لا درب، لا شجرة، لا سنبرية، لا بنت لا ولد يقوده اليوم الي كمبو كديس،
كل البدائل ظلام، والنجم،
اين النجم،
هنا في الحي الجنوبي، تحت ظل النجم جلسنا، الطيب، ابراهيم، التاج، سليمان والسلطان، حولنا اشجار المسكيت والتي سوف نستخدمها سواترا طبيعية، اذا هاجم العسكر الكمبو، سلوي تغني بلغة الباريا، انا بصوتي الاشتر اغني خلف سليمان،
ساقني بعجلة وداني كمبو،
وين يا ناس،
ساكن جنبو،
عندما يؤذن للصلاة، يوم العيد، نرتدي ما تيسر ونصلي مع المصلين في ميدان المدراس،
من يجرؤ علي سرقة عتوت سيدة، غير كبسون نفسه، من يجرؤ علي شيه كاملاً غير منقوص، تحت السنطات الشاهدات علي المسرقة، غير ابليس ذاته.
بغم الأسماء
عبد الله الحارث، صلاح، حلفا الجديدة، علي الكوتش، محمد،الاستاذ محمد، عبد المعطي حجازي، ابو حديدة، سيرة العرق والطين، عرق الحصي، حبيته الجميلة، طلال، ظلال، دلدوم، حسن كوكو، عبد العزيز كافي، الشريف موسي، مملكة سنار، الطواوشة، التنابلة، الماسليت، الصابونابي، حكومه، جيرمني، سيدة وعائشة وموريس، حي صدام، حلة عم محمد زين صاحب النيفة، حسن مرسال، حسن الكونج، حسن حسن حسن، علي جعفر، ابتهاج، فرحة، زهورعبد الله، عبد الله، صورة، عصافير، ود ابرق، عشوشاي، سمرعبدالله، لتجاني عثمان حسين الحاج، شيخ السمانية الصالح العاقل الكريم، طائران، شجرة واحدة، قال ابليس،
(ان دخلت الدئرة الاولي، ابتليت بالثانية،
وان حصلت في الثانية، ابتليت بالثالثة،
وان منعت من الثلاثة، ابتليت بالرابعة،
قال ابليس،
لو علمت ان السجود لآدم ينجيني، لسجدت ولكن قد علمت ان وراء تلك الدائرة، دوائر فقلت في حالي، هب اني نجوت من هذه الدائرة، كيف انجو من الثانية والثالثة والرابعة)1
فدخل الصادق الدائرة الاولي، وهي السفر، هب انه نجي من هذه الدائرة فمن ينجيك من الغربة،
من ينجيك من الامريكيين والكنديين والاشتراكيين وشامل كامل اوربا، من ينجيك من روكسي وعاطف خيري، من ينجيك من انهيارالاتحاد السوفيتي ومجازر القاعدة، انهم في كل مكان، الذين صنعوا القاعدة، هم ذاتهم الذين صنعوا إنهيار الاتحاد السوفيتي، وهم الذين جندوا شيكيرى توتو كوة في الحزب الشيوعي، جنبا لجنب مع روزا لكسمبورغ 1918 بالمانيا،.وهم الذين اوحوا لابليس الا يسجد لادم ولا لمخلوق بعده، ربابة، ايقاعات كنيسة مجاورة تتسلل الي حوش بيتنا، افراح الحي الجنوبي بعيد السمك لا تحدها كراهية الطارقيلة للقرقور أو البلطي، الدنيا بخير ولكنها بشر اجمل، والشر جميل وبهيج ورائع، الخير بارد ماسخ ولا طعم له، ان الدم الذي يلوّن الشر هو الذي اعطاه حرارة الوردة وازلية التراب، أنظر جمال وليد اسماعيل حسن، انظر لروعة بابايات استيلا قيتانو، اميمة حسب الرسول، صلاح ابراهيم، بابا بلوم، واشتياق، من الذي أكد جمال هؤلاء من الذي شق نهر عطبرة علي صخرتين كبيرتين وانشأ علي شطه كمبو كديس، الانادى، والرميلة، يد خبيثة، يد خيرة، الجامع الكبير، زاوية محمدعثمان، العرديبات، بنات البني عامر، والباريا والعنسبة، البجوك، فلاتيات الشوارع الغربية، مسكيت مدرسة البنات، يد شريرة هي اليد الخيرة ذاتها، دم الحلاج أضاءه أكثر، قتلة محمود محمد طه، طبخة دمه، الذين صنعوا البهار، الذين ولغوا الدم، الذين رقصوا علي القبر، الذين عندما سمعوا نشيده تبولوا في أرديتهم، هم الان الحجر الذي يدل علي الرمس، كلما عرقوا، تفصدت مسامهم دماً نعرفه، دم يدل عليهم، دم ناره هنا لا تنطفيء، علي إيقاع الصيد و مراكب الكرنقو، علي طس الأسماء، علي بغم الكلام، علي ناصية روكسي تسأل روحه روحه، الصادق،
كلما ولج دائرة طائعا اولج مليون دائرة قسرا، طالما كفر بابليس، دعه، فالله يؤجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات،
بغم الخطيئة
أعطيناك كلما تقوى علي أخذه، أعطيناك شوارع الطين والاطفال المشردين وبقايا احشاء الذبائح بسوق النوبة، أعطيناك بنياتنا السوداوات الجميلات، وهبنا لك عطر إبطهن الممهور بالمكافحة والمنافحة والسعي اليومي وراء الخبز، أعطيناك أزقتنا وقطاطينا وأزيار المياه والطحلب الذي في باطنها وخارجها، أقسمنا علي رأس حرابنا والتراب، علي ان نعطيك الخوف، بذا تكون قد سلبتنا الحياة، ابقيتنا عراة يضحك علينا الرهو والسمبر وطيور الكلج كلج الساخرة، وسوف لانري عري بعضنا البعض، فالعري ياحبيبنا حجاب وحجاب العاري بصيرته، بغم الخطيئة، بغم كلامي اليك، بغم الغياب الطويل، أعطيناك كلما تقوى على اخذه، صلاتنا، صيامنا، قيام الليل، عهر العاهرات، مياه الواردين، بلح الفقراء لالوب الناسكين، لعب اطفالنا، بول البائلين، السلام الودع، السفر، موت الاصدقاء، قبر الذي لاقبر له الا في احشاء قاتليه، كلما تقدر علي حمله، حملناكه، سوسن الجميلة، حفرة يقف عندها عبدو ويعتذر علي مواصلة السير، طلقتان منتصف الليل، جندي يسأل عن الطريق الي الحامية، الحامية، وهبناك السكة والتكة والفكة والكحة والحكة وقول القائلين وقلناك، في الشعر ومقام الشعر وخالد بخيت وكل ورقة شجره وكتب الجغرافيا وتأريخ الوردة،
أعطيناك أشعار بابكر الوسيلة وبنته والجبال التي في بيته وقلبه كله، كله، كله، ثم لم نقصر، أعطنا فقط، أعطنا الرجوع،
بغم ويلتاه
أزهرت برتقالتا حبيبتي ورك عليهما الطير، الطنان الصغير يمتص رحيق الوردة الصغيرة، يسكن في التويج، يطرق رجل الباب المرحوق، تنق ضفدعة، تبوم بومة عجوز، علي شجرة تمر هندي جوار البرتقالتين، تستيقظ البنت، تفتح وردتيها في كسل، وردتا غاردينا بيضاوتان، يسمع نوسهما الطنان، يطرق علي تويج الزهرة، تعرف الوردة الطنان وتراه عندما يراها وعندما يغفل عنها أيضا، وعندما يقبل وردة مجاورة، تنهض الصبية، تقف علي غصنيها، ثعبان يلتف باحدى الغصنين، يصعد نحو الوردة، يدب حزينا حذراسوف لايزعج الطنان، يريد ان يقتنصه وهو في مزاج رايق، تتمطي الصبية، تمد افرعها في جهات الله الكثيرة، يرك سرب من عصافير الجنة جنة، ينشد السرب اناشيد الصباح البهيج، يبتسم الثعبان وهو يرتقي الغصن، عصفور الجنة جنة ألحم من الطنان، سوف إصطاد عصفور جنة جنة، تتثائب الصبية، يصعد بخار الماء الي السماء تمتص وريقاتها الضوء والاوكسجين، الجذورالبعيدة المتوغلة بين الطين والرمل والحصي، تشرب شاى الصباح، امها سيدة جميلة يعرفها الناس، ويعرفها كلبها وقطتها العجوز هنا في الهامش لااحد يري جمالك، يرون عوزك وفقرك ويديك الممدودتين، ترك عليهما حدأتان حرتان تطيران عندما تحاول قفل اصابعك علي مخالبهن، تشرق هذه الشمس علينا جميعا ويخصنا الله معا بالصحيان،الذين في البيت والذين خارجه عندما تلبس البنت طرحتها، كل شيء يكون قد تمّ، اتمه الله بقدرته، نحن يا حبيبتي الصغيرة لانستطيع ان نعيق الحياة مهما تجملنا بالشر والقبح وعفونة الريح وتغربنا،
بغم الشجرة
يقف الان الاحباء والاصدقاء والاعداء علي حافة المقام، ويسع المقام الشعر وبسم الله الرحمن الرحيم، يكفيك من القول القائل من المطر العشب، ومن الرمل البيت، يكفيك من الثمر الشجرة، تمد يدك، ان مددتها مهبطا للنسور، ويدك هشة وقلبك كسير دربك معوج وبصرك اليوم حديد، ماذا تفيد الرؤية والقلب محجوب.
ويلك..
اذا عرفت كل لغات البشر وعجزت عن مخاطبة شجرة.
24/1/2003
خشم القربة
عاشق
أستاذي العزيز جلال الجميل
أولا اسمح لي أن ابدأ خطابي هذا بقول – تعلم – انه مأسور عندي (قال سيدنا معاوية الي ابنه يزيد، يا بني من حاول خداعك فأنخدعت له، فقد خدعته ) أستاذي، لقد انشغلت كثيرا عنك ولكن تعذرني دائما لعلمك بمشاغل الجندية وغلبتها الكثيرة، ولكني سأواصل ما بدأته في رسائلي السابقة واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فأنت فوق كل ذلك أستاذي ولكني ارفض بشدة بل أقولها لك صراحة أنني لا أتسامح في أن تنظر إلى تركي للمدرسة وانخراطي في صفوف الكلية الحربية مرحلة جديدة في تطور شبق القتل عندي. وكما عبرت عن ذلك في رسالتك الأخيرة بالقول ( حيث تتاح لك بشكل منظم قتل شخص ادمي بدمه و بلحمه، بدلا من قتل الكلاب والقطط والأشجار والتي كنت تسلخها من قشرتها وتدعها تموت تدريجيا في ألم تستمتع به دائما). هذا يا أستاذي يجانب الحقيقة، بل هو محض افتراء فدخولي للكلية الحربية كان دافعة وطني من الدرجة الأولي فأنت تذكر – بل شرحت لنا ذلك عدت مرات في الفصل – حوادث ديسمبر 1959م والذي أسمته الصحافة بديسمبر المشئوم كما قلت لنا بفمك، حيث أحاط الأعداء بالبلاد، من أمريكيين وإسرائيليين من جانب وما يدعمان به المعارضة الليبية بقيادة الخائن معاوية الدكين، وكوبيين وسوفييت من جانب آخر وهما كما يعرف الجميع يقفان بكل وقاحة مع الحزب البائد أو ما يسمي بحزب العمال بقيادة ذلك الكافر أبو روف سليمان. ولا أحد ينسي ما تقدمه العراق وسوريا والقاهرة لليسار ماديا ومعنويا واستخباراتيا وتذكر كيف انحاز الشارع كله – بما فيه أنت – في لحظة واحدة، لحظة صدق وطنية غالية الي الحكومة الوطنية متمثلة في شخص الرئيس مؤيدة له كحاكم أوحد للبلاد وقائد نهائي أبدي للجماهير، ولست وحدي من ترك المدرسة وانضم للجيش، آلاف مؤلفة من الشباب والعمال وكبار الموظفين وأساتذة الجامعات المنعمين تركوا مكاتبهم المكيفة والوجبات الساخنة واتجهوا الي جبهات القتال في الشرق والغرب والجنوب والشمال، حيث كانت البلاد في حالة حرب مع الكثير من دول الجوار وكثير من المتمردين العملاء المحليين، إذا كان هذا هو الحال مع المواطنين – بالتأكيد كانت هناك قلة ضئيلة تمثل طابورا خامسا، فئة خائنة أتذكر – كيف تتهمني بشبق القتل لكوني وقفت مع الحق!!
حسنا كما كتبت لك سابقا، الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وسأبرر لك كل الأشياء من وجهة نظري أنا أيضا وسوف لن تظلمني، أول شخص قتلته، ولو أن كلمة قتلته بما فيها من قسوة لا تعبر عما فعلت به بالضبط، إلا أن قاموسي اللغوي – عكسك تماما- ليس به كلمات أخري أكثر تعبيرا، المهم أنا متأكد بعدما تقرأ خطابي هذا، ستجد كلمة أبلغ و أدق. كان أسيرا هزيلا، في الواقع لم نهتم باسمه فليس للأسري أسماء، قبض عليه عساكري بعد معركة حامية الوطيس، خرجنا منها منهزمين، وبينما كنا ننسحب فارين – وأنا أكتب بالصراحة التي علمتني اياها أي اكتب الأشياء كما هي – إذا بنا تعثر علي هذا الأسير مختبئا في خندق صغير وقد فوجئ بنا، رفع يديه مستسلما مستأمنا علي حياته، طبعا مقابل التخلي عن حريته، فأمرت بتقييد يديه وحراسته وأخذه معنا أسيرا، ولكن كنا مرهقين ومنهكين من الجري فوق الصخور والأعشاب الشوكية، وصندوق الذخيرة الأخير والوحيد يهد أكتاف العساكر ويتعبهم، فكر رقيب عجوز – دائما ما أنسي أسمه – بأن نفك وثاق الأسير ونحمله صندوق الذخيرة ونتركه يمشي أمامنا، هكذا كان سلفه يفعلون بالأسري في الحروب، وكان دائما يقول – الأسري ديل ما ينفعوا لشيء غير استعمالهم كحمير، كانت فكرة صائبة وموضوعية اثني عليها الجميع، وأنا لست إلا واحدا من الكتيبة، فربطنا صندوق الذخيرة علي ظهره بحبل يمر تحت إبطيه، ولو أن الأسير كان هزيلا إلا أن بعظمه قوة بغل، ربما وهبها الخوف له، الخوف من الموت، لأنه إذا فشل في حمل الصندوق، يعلم تمام العلم انه ميت لامحالة، فإذا لم يصلح لشيء من الأحسن (يتفسح). في الحقيقة كان المشي علي الأشواك وبقايا الشجيرات والأعشاب الكثيفة متعبا عندما أجبرنا عدة مرات علي خوض برك الطين ومره أخري أجبرنا علي طلوع جبل صغير، وكان من حقه أن يتعب ضعف بل أضعاف تعبنا نحن، طلب أن نسمح له بأخذ بعض الراحة لأن الحبل الذي أدمي كتفه وإبطيه أصبح لا يطاق وقال....
– الحبل قاعد يضبحني ضبح.
فانتهرته بلهجة عسكرية آمرة أن يجد في السير..
وإلا.
كان يمشي كالسكران، يشوت الحجارة ببوته ويخوض الوحل يقع، يرفعه العساكر علي قدميه، يقع، يرفعوه، نهدده يقع ويقوم مثل السكران أخيرا أتكوم تحت شجرة مانجو كبيرة واخذ يشخر من التعب مثل الثور المذبوح، العرق يملا ملابسه كلها أما وجهه كأنه جمام ولكن الغريبة فمه جاف وأبيض، كان شكله مزريا وقبيحا وبدا يؤثر علي نفسيات العساكر فقلت له:
قوم ولا نملاك نار!!
وشلته جندي في بطنه لحكمة كان يعرفها العساكر بان الشلوت في البطن مفيد للرأس القوي.
ضربة عسكري همام آخر علي وجهه لحكمة أخري لا أعرفها أنا. وصرخ واحد في أذنيه لحكمة عادة لا يفصح عنه ضباط الصف. وعندما تكلم قال:
- الموت أحسن.. احسن الموت... انتو بشر ولا حيوانات!!
وهنا لابد أن أستخدم سلطتي العسكرية وإلا تعطلنا عن الإنسحاب وربما يلحق بنا العدو، فأمرت بالعد من واحد الي عشرة كفرصة أخيرة له في أن ينهض ويشيل صندوق الذخيرة وينسحب معنا الي أقرب نقطة ارتكاز وإلا أمطرته بالرصاص.
واخذ واحد من الضباط المشهود لهم بالأمانة والصدق يباشر مسألة العّد، بينما جلس البقية يستطلعون وهم يشاهدون الموقف عن كثب وأعرف أنهم خائفين، وكل واحد منهم في سره يحمد الله انه لم يكن في محل الأسير. والذي أصبحت حياته الآن بين رقم ما وعشرة. أما هو فبدا وكأنه ذهب في غيبوبة عميقة ودائرة من النعاس يصعب الإنفكاك عنه مستهينا بالتهديد.
- ثمانية، تسعة، عشرة.
فصرخت فيه منفعلا
- يا وسخ.. خذ..
طاخ، في منتصف رأسه تماما – إطلاق الرصاص في منتصف الرأس أصبح سمة مميزة لأسلوبي في الإعدام الشرعي. نعم، العبارة المناسبة أو البديلة القتل هي [الإعدام الشرعي ]، وجدتها،لقد كنت دائما تثني علي أسلوبي الأدبي في الإنشاء ولكن الجندية لم تترك شيئا في الرأس – حسنا، لدهشتي، ودهشة جميع العساكر وربما لدهشته هو نفسه أن نهض ومشي سبع خطوات عسكرية سريعة ومقنعة لحد بعيد، ثم وقف للحظة طويلة وممطوطة وقفة مرعبة وصامتة، صمت حقيقي، ثم بدا وكأنه بصدد أن يلقي تحية عسكرية للواء عظيم غير مرئي قبل أن يسقط فجأة، سقطة عسكرية بارعة علي وجهه ويموت، منهيا بذلك عرضا جنائزيا جميلا، انفجر الجميع بالضحك في لحظة واحدة، هي اللحظة ذاتها – اسمح لي أن اكتب كل شيء – التي تبلل فيها سروالي بسائل حار خرج في لذة مجنونة ورجفة لا توصف، اعترف انه موت ممتع وبهيج أيقظ في نفسي لذة قديمة منسية ولكنها ليست كشهية سلخ لحاء الأشجار ولاصب الماء الحار علي النمل أو قتل القطط حتى لا يلتبس عليك الامر.
أستاذي العزيز جلال.
في الواقع لم أحس ولو للحظة عابرة بالندم، حتى عندما عبثنا في جيوبه ووجدنا صورا لأفراد أسرته وصورة اتفق الجميع علي أنها زوجته أو خطيبته أو حبيبته أو حتى داعرة ما له علاقة حميمة بها، سيدة طويلة لها ضفائر مسدلة علي كتفيها، ترتدي فستان قصير يظهر ساقها وردفيها – ما أزال احتفظ بالصورة وعندما نلتقي اسألني أن أريك إياها.واتضح لنا انه شخص مثلنا له من ينتظره ويحبه وربما هو عائل لأسرة كبيرة،بالرغم من ذلك كنت أتمني وبكل صدق أن يحيا مرة أخرى فأقتله. إذا كان باستطاعته القيام بذلك الاستعراض الممتع مرة أخرى. أن يجعل جنازته تمشي مشيتها العسكرية الفريدة، ما الذي يجعلني اندم علي قتله!! لقد استخدمت حقا مشروعا تجاهه، فقتل الأسير أمرا مشروعا وخيارا جائزا لا اختلاف عليه، وهو نفسه اختار الموت بقوله (الموت احسن ) ولقد اساءنا واصفا ايانا بالحيوانات أيحق له أن يصف الإنسان الذي كرمه الله بالحيوان ؟ وفوق ذلك كله أعطيناه فرصة كافية للتراجع عن إصراره علي البقاء تحت شجرة المانجو وذلك بالعد من واحد الي عشرة ذلك زمنا كافيا لشخص يواجه الموت لكي يتخذ قرارا في صالح بقائه حيا!!
أستاذي العزيز،
أنا حينما أصوغ هذه المبررات أريد أن أؤكد لك شيئا واحدا وهو أن قتلي لهذا الآسي ليس أشباعا لغريزة حيوانية دنيئة أجدك تتهمني بها من وقت لآخر أن قتلي الشرعي له ليس إلا تمرينا عاديا وطبيعيا وربما – بشيء من التحفظ – عاطفيا. أضيف أيضا انه بعد موته ارتفعت الروح المعنوية للعساكر وبالرغم مما كانوا يشعرون به من أرق وعطش وجوع، حملوا صندوق الذخيرة علي أكتافهم، وكأنه علبة كبريت فارغة واخذوا ينشدون اجمل المارشات العسكرية وهم يقفزون علي برك الطين ويمشون علي نتوءات الصخر الحادة وبقايا الأشجار الشوكية المتساقطة علي الأرض مثلهم مثل الغزلان خفة ورشاقة وحيوية ؛ خذ الأمر من وجهة نظر عسكرية وجند منسحبين ليس من وجهة نظر أستاذ متقاعد يقضي وقته في حياة آمنة داخل منزله.... وقدر أيهما أفيد ؟!
هل كان علينا أن نتركه عبئا يغرق أنفسنا في طين الإحباط واليأس وربما وقعنا تحت الأسر ؟! لكسله وعدم مبالاته!!
ولو أنني بدأت أحس بالغثيان وربما نتيجة المضايقة التي سببها لي السائل – والذي أخذ يخر علي ساقي – يغمرني شعور أنه سيلان من الدم، كنت أتحسسه بين الحين والآخر بأناملي آخذا عينة منه لأتفحصها بنظرة سريعة ثم امسحها علي بنطلون الكاكي – في الحقيقة ما كنت أري ما بإصبعي – إلا انه، بعد تلك الحادثة نفذت إعداما شرعيا في سيدة وثلاثين رجلا، وكانوا يموتون بصورة لا تتعدي المضحكة العادية والمتعة الجنسية المعروفة، ما عدا رجلا واحدا اسمه تومي مر يستو.
في السابع من مايو 1985 م رقيت الي رتبة عميد وتسلمت قيادة جبهة الحرب الشرقية علي مشارف مدينة تسني الإستراتيجية يحيط بنا جيش المتمردين من جهة الشمال والأحباش من الجنوب والإرتريون من جهة الشرق، يعني كنا في وضعية ما نسميه بالكماشة، وضع مثل هذا يحتاج الي رجل حاسم وشجاع ليس لكي لا يسقط المعسكر فان المعسكر لن يسقط نحن نعرف إستراتيجية حرب العصابات، انهم يهدفون الي تكبيدنا اكبر خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد فلو أخلينا المعسكر – وهو اكبر معسكر لنا بالشرق – فانهم لن يستولوا عليه، يجب أن يبقي مصيدة، يجب أن تبقي به آليات ويبقي به عساكر و مؤن كموضوع لشغبهم ولكن علي قائد الجبهة أن يتخذ إستراتيجية دفاعية هجومية، ذات أقل خسائر ممكنة ويسميها العسكريون القدامى (سهر الدجاج ولا نومه)... فإذا هاجمنا العدو ندافع عن أنفسنا وإذا لم نهاجم رميناهم بالمدفعية الثقيلة والمقذوفات الصاروخية ونحن في موقعنا تحت دفاعاتنا، أما جواسيسنا ومصححوا نيراننا فقريبا من مواقعهم، بالتالي جواسيسهم ومصححوا نيرانهم يتسكعون بالقرب منا، لذا عندما قبضنا علي (تومي كر يستو) قرب همدائييت لم يكن سهلا أن نصدق ادعاءه بأنه رجل مريض يبحث عن أعشاب السنمكة، كانت بالفعل لا تنبت إلا علي منخفض صغير قرب المعسكر، وهذا الرجل أدخلني في تجربة غريبة وغامضة ومؤذية جدا مازلت أعاني من آثارها الي اليوم ومازالت تنط الي وعي كلما شرعت في القيام بتنفيذ عملية شرعية، ولو أنني لا أعتبرها سوي مؤامرة بذيئة قام بها الشيطان ضدي انا بالذات - وأنت تعرف مكائده – اقل منها إشارة الآهية ليست في صالحي، بالعكس أنا رجل تقي جدا و أعتبر نفسي داعية ديني أفشى المعرفة الدينية بين من أقودهم، ضف الي ذلك ميولي الإنسانية العميقة – ولقد أبديت أنت ذات مرة ملاحظة تشير الي هذا الامر – ويدل علي ذلك تبرعي السخي المتواصل للمنظمة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويدل ذلك إحساسي بالغثيان اثر تنفيذ كل عملة شرعية كما لو أنني ابتلعت ذبابة كبيرة، ويدل علي ذلك بحثي المستمر عن عقوبة اقل من الموت وبإمكانها إسكات الخصم أو تحييده للأبد، ويدل علي ذلك إكتشافي لطريقة سهلة للعملية الشرعية حيث لا يتألم المحكوم عليه كثيرا لأنها تؤدي الي الموت الفوري وهي إطلاق النار في منتصف الرأس بالضبط، وأتمني من منظمات حقوق الإنسان ومن المشرعين الأمريكيين ان يأخذوا بها كأسلوب امثل واكثر إنسانية من غيره في تنفيذ أحكام الإعدام في سجون العالم.
أستاذي جلال،
انا لا احب ان اتحدث عن نفسي كثيرا، فانا من أولئك القلة من الرجال الذين لا يجيدون ولا يحبون ان يعرفهم الناس بواسطة ألسنتهم... فلن أخوض في ذلك دعني أكتب لك عن تلك المؤامرة الشيطانية الغامضة، بقيادة ما يدعي بتومي كر يستو.
جاء حرس الدورية برجل فوق الخمسين بقليل، قالوا أنهم وجدوه يتمشي بالقرب من معسكر همدائييت، وادعي بأنه مريض الخ. وقد تعلمنا من التجربة الا نثق في كل مايقوله المعتقلون ولا حتي في القليل المنطقي منه، قام عساكر الإستخبارات في التحقيق معه مستخدمين – من اجل التوصل للحقيقة – مع العلم بأنها قد تكون في صالحه – كلما تعلموه في الدورات التدريبية وما إستحدثوه هم بأنفسهم. ولكن ظل الرجل علي إدعائه، فاعتبر جاسوس جيد التدريب، فكثير من جواسيس المتمردين يأخذون جرعات عالية ومتقدمة في الخارج ، واعتبر أيضا من ذوي الرتب العسكرية العالية، وجيء به الي كدليل علي اليأس وفقدان الأمل في التوصل علي معلومة مفيدة منه بالرغم من انهم خلعوا ثلاثة من أظافر رجله وثلاثة من أظافر يديه اليسري. وانتزعت كل رموش عينيه حتي بدا شكله مثيرا للإشفاق والضحك معا. سألته:
انت جاسوس
قال وهو يرتجف من الإعياء
لا.. انا رجل مواطن عادي، كنت أفتش سنمكة عشان أتعالج بها. وناس الحلة كلهم عارفني.. حلة ضبابين..
حلة ضبابين المحتلنها المتمردين ؟!
ايوا.. ولكن نحنا مواطنين ما عندنا أي علاقة بالمتمردين نحن همنا في عيشنا وأولادنا
كويس.. لو كنت مواطن ماعندك علاقة بالمتمردين ليه ما جيت وإنضميت لجيش الحكومة عشان تحرر بلدك منهم؟!
قال بعد ان بصق في الأرض شي لم أتبينه في حينه ولكني عرفت فيما بعد انها إحدي أسنانه..
الحرب يقوم بيها العساكر ونحنا المدنيين ما عندنا معرفة في الحرب. نحن للزراعة والحصاد..
انظر يا استاذي جلال الي الموضوعية التي إتبعتها في حواري معه وانظر الي الخبث الذي يجاوبني به، حقيقية يصعب التعامل مع الجاسوس جيد التدريب لأن له مقدرة لا تحدها حدود علي إثبات براءته، مما أغضبني، فشتمته ابشع الألفاظ، وكثيرا ما أشتم الذين بصدد الإعدام حتي اذا ردوا شتائمي، أغضبوني وجدت دافعا فوريا لقتلهم، واكثر ما يؤلم – صراحة يا استاذي – ان يظل المحكوم عليه باردا وطيبا ووديعا وطائعا الي اخر لحظة إطلاق النار عليه، مثل هذا التومبي، اما اذا كان لئيما أحمق متمردا فان قتله أريح للنفس وللضمير واكثر رفعا للروح المعنوية.
فأخذته ومعي حرسي الخاص والذين دائما قربي كظلي، إلي حفريات خارج المدينة تستخدم كدفاعات دائمة، إستخدمتها انا للتنفيذ الشرعي، طلبت منه الإعتراف كطلب أخير، ولكنه قال بفم مرتجف مملؤ بالبصاق الدامي.
- انا مريض جيت أشيل سنمكة وبس.
فعمرت مسدسي كإنذار أخير يعرفه العسكر تماما ووضعت فوهة المسدس في منتصف رأسه، وعندما اضع فوهة مسدسي علي هذا المكان يصعب علي عدم الضغط علي زر اطلاق النار لأنني حينها – وهذا سر أبوح اليك به لاول مرة – احس كما لو كنت في الثانية الأخيرة قبل الإيراق، والعاشق يعرف كما هي حرجة تلك اللحظة وحاسمة يصعب الرجوع عنها او تضييعها، قال ان لديه أطفال صغار وثلاث نساء وانه العائل الأساسي للأسرة لأن إبنه الأكبر سيتزوج قريبا ويرحل عن الأسرة وقال بإستطاعته أي يفعل أي شي أطلبه منه لإثبات برائته قال كل ذلك – علي ما أعتقد – في أقل من ثانية – قلت له ببرود أعصاب
اعترف بأنك جاسوس أو مصحح نيران.. ولازم تديني دليل قوي علي كلامك ؟! وما عايز منك أكثر من دا.
عندما فقد الأمل قال:
اذا لا تقتلني.. أعميني. أقطع يدي أو رجلي.. فالموت ما شي ساهل.. الموت ما لعب..
الآن وجدت الكلمة التي بإمكانها إشعال فتيلة الشجار بيني وبينه.
لعب.. يا وسخ.. تتجسسوا.. وتقول لعب..
وأخذت اركله بمقدمة البوت لكنه ظل باردا، فقط يحاول ان يعتذر وهو يحك مكان الشلوت.. وإفتعلت ايضا من هذه الأخيرة خصاما جديدا وانتهرته في غضب.
ايوا.. تتلوي زي الكلب.. ياجاسوس يا خائن.. خذ..
وفي اللحظة التي تحركت فيها سبابتي للضغط علي زرار إطلاق النار وجدت نفسي – وهذا ليس حلما ولا وهما ولا تخريفا – وجدت نفسي محمولا علي أسنة رماح حادة توخزني في كل ذرة في جسدي يحملني أقزام بيض لهم أعين لامعة كالمرآة كبيرة ومؤذية. كانوا يسيرون بي نحو بوابة ضخمة صفراء وهي في الحقيقة ليست سوى جمرة كبيرة تستخدم كبوابة للجحيم، وكنت أعرف هذه المعلومات دون أن يقولها لي أحد، كانت مسجلة في ذاكرتي منذ أن ولدت، وعرفت أيضا أنه سيرمي بي في الجحيم الان بعد أن يقرأ ملاك جاء للتو كتابا ضخما مكتوبا عليه بحبر أسود وهو كتاب أسود أيضا، كان يقرأ لي الأعمال الخيرة التي قمت بها قبل أن أحضر الي هذا المكان علي أسنة الرماح وعندما فرغ،كنت اتوقع قدوم ملاك أخر ليقرأ كتاب سيئاتي ولكن يبدو أن ذلك لن يحدث، مما أوهمني بأنه لا سيئات لي، ولكن حينما أغلق كتاب الحسنات وخزني في مؤخرتي ملاك أم شيطان لست أدري، وخزة مازلت أعاني منها الي اليوم – وسأريك موضع الجرح عندما نلتقي – وهي دليل واضح علي أنني لم أتوهم الأشياء. فصرخت بكل ما أوتيت من قوة مما أفزع رجلا وسيما آمنا محمولا علي فراش أخضر بهي علي غيمة صفراء وتحوم فوقه العصافير والفراشات ويتبعه رهط من الحوريات في ذات اللحظة، عدت حيثما كنت سابقا، أقف خلف الجاسوس، واضعا فوهة مسدسي في منتصف رأسه وإبهامي يتحرك نحو ضغط زرار إطلاق النار.
فابتسمت، إبتسامة علي ما أظن كانت كبيرة جدا.. وباردة فابتسمت وأنا احس بوخز الرمح في مؤخرتي ثم، ضغطت علي زرار إطلاق النار.
قل يا أستاذي – هل كان علي أن أحرمه من الجنة وأحرم نفسي!
تلميذك الزين
ملحوظة:
هذا الخطاب مثل الوثيقة الوحيدة التي قدم بواستطها العميد الزين طه للمحكة الدولية في لاهاي لمحاكمته كمجرم حرب.
الإنشا : نوع من الخمور المستوردة من أثيوبيا.
سوط العنج : هو سوط مصنوع من جلد فرس البحر يستخدم لجلد الإبل والحمير.
1 استخم كلمة بذيئة.
1 الحلاج، كتاب الطواسين.
317
التعليقات (0)