مواضيع اليوم

إمبراطورية بالأحرف الأولى!

ممدوح الشيخ

2009-10-29 12:31:20

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshih@hotmail.com


كأنها زهرة ضخمة تفتحت بألوان زاهية، تستلفت الكثيرين عملية التوسع الديبلوماسي التركي المدهشة، بخطى واسعة وعدد كبير جدا من الأوراق: اقتصادية وسياسية وثقافية، وفي معظم الملفات الإقليمية المهمة أصبحت تركيا عاملا مشتركا. فهي رعت مفاوضات سياسية سورية إسرائيلية وعندما تأزمت العلاقات بين دولتين عربيتين (عراقية وسوريا) كانت الوسيط الأسرع تحركا، بل أصبحت وسيطا مطلوبا تدخله في النزاعات المستعصية بين حكومة إقليم كركوك وبغداد!
وفي الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على المسد الأقصى أصدر حزب الله بيانا يدعو فيه تركيا للتدخل، وفي لفتة رمزية أخرى تمكنت حكومة أردوغان من توقيع اتفاق لإعادة "سكة حديد الحجاز" التي شكل تدميرها في الحرب العالمية الأولى حلقة من أكبر حلقات العزلة بين تركيا ومحيطها العربي الإسلامي.
ومن عالم الرموز إلى عالم المصالح تتقارب تركيا مع سورية بوتيرة لم تكن متوقعة بين دولتين بينهما نزاع مزمن على الحدود وسريعا تمكنت من تبديد ميراث الشك لتنتقل إلى بناء علاقة تعاون يصفها الطرفان بأنها استراتيجية. ويحفل الإعلام العربي المرئي والمقروء بكم هائل من التحليلات التي تتناول "صحوة العملاق"، فيما يتردد في الإعلام التركي تعبير يلخص الحالة بوضوح هو "القرن التركي"، حيث ومن يرددونه يرون أمام تركيا فرصة تاريخية لأن تعود مرة أخرى مركزا لتشكيل سياسي كبير يعيد صياغة الحلم العثماني قبل إن يعيد بعثه.
وخارج دائرتها التاريخية العربية الإسلامية، تتجه تركيا غربيا، وبيد واثقة تطرق تركيا أبواب الاتحاد الأوروبي، وهي دون تردد حققت اختراقا تاريخيا على جبهة العلاقات التركية الأرمنية، فضلا عن علاقتها المتميزة بالولايات المتحدة الأمريكية ونجاحها الاقتصادي الكبير – دون موارد نفطية – وعلى قمة هرم النجاح تسعى تركيا لجمع كل اللغات ذات الأصل التركي لتصبح لغة واحدة.
فتركيا التي تعيد تموضعها الإقليمي تستثمر في المقومات المعنوية والثقافية والإرث التاريخي بالضبط كما تستثمر في الموارد المادية، وفي 1993 وضعت تركيا اللبنة الأولى في بناء الإمبراطورية الجديدة عندما أسست "تركسوي" وهي منظمة دولية تضم الشعوب الناطقة بالتركية تضم إلى جانب تركيا: أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وتركمنستان، فيما يمتد الوجود الفعلي للغة التركية وما تفرع عنها من لغات إلى قلب الصين شرقا!
ومؤخرا وبعد ستة عشر عاما على إنشائها أعلن مديرها العام دوسن كاسينوف أن بناء لغة موحدة للبلدان الناطقة بالتركية يقتضي زمنا، وأنه في الوقت الحاضر هناك كثير من الدول الناطقة بالتركية حصلت على استقلالها مؤخرا ، تعمل على إعادة بناء وتطوير لغتها. والمنظمة التي بدأت لإنقاذ اللغة التركية من غزو اللغات الأخرى تحولت إلى طموح التوحيد.
ومن يتأمل السياسة الخارجية التركية منذ أن تولى عبد الله جول يضع يده على تحول رسخه تولي أحمد داوود أوغلو منصب وزير الخارجية، فالثلاثي المتناغم (جول – أردوغان – أوغلو) يدرك الواقع جيدا ويقتنص الفرص في الوقت الملائم ويزاوج بين دور الجسر ودور الشريك ويريد تطويع كل الأوراق لجعل السياسة الخارجية التركية معبرة عن السبيكة المعقدة التركيب تاريخيا وجغرافيا وثقافيا.
وإذا كان من الحقائق الراسخة أن الجغرافيا تساهم بالنصيب الأكبر في صنع التاريخ فإن تركيا – ولأول مرة منذ عقود – تتحرك بشكل متزامن نحو عالمها التركي مستثمرة رابط اللغة، ونحو العالم العربي مستفيدة من رابط الدين، وتتمسك بحلم دخول الاتحاد الأوروبي لتصبح مرشحة لأن تكون واحدة من أهم الجسور التشكيلات السياسية في العالم دون أن تتقيد بمقوم واحد من مقومات الهوية يمكن أن يحبسها في قمقم الصراع بين مكونات الهوية المتعددة.
وتركيا تتحرك بحكمة لا تخلو من شجاعة نحو الذات ودون أن تتعثر خطواتها في عقد تاريخية ساهمت – في حالات مشابهة – في تخريب مشروعات النهوض، فالجيش التركي قبل إعادة صياغته علاقته بالسلطة المدنية وانحاز إلى خيار طي صفحة الانقلابات العسكرية نهائيا لتصبح من الماضي. وفي ما يشبه الهدنة يتم الآن التمهيد لقبول التعايش بين الكمالية الغاربة التي يحميها العسكر والعثمانية البازغة التي يحمل رايتها إسلاميو تركيا. والقوميون الأتراك من جانبهم أصبحوا أقل ممانعة لقبول اعتراف واسع بالأكراد في الداخل وبوجود منطقة حكم ذاتي كردية في شمال العراق، بل إن الملف الأرمني الذي شكل لعقود سببا لصداع مؤلم لصانع القرار التركي بسبب اتهام تركيا بالقيام بإبادة جماعية للأرمن، هذا الملف سرعان ما تم طيه بجرأة في اتفاق تاريخي كان يبدو حتى وقت قريب كـ "الغول والعنقاء والخل الوفي"!
ولدى تركيا إلى جانب ما سبق ثروة كبيرة تتمثل في الخيارات التي تم ترسيخها عبر سنوات التحول الديموقراطي، فالرأسمالية محل إجماع والرهان عليها صار ملمحا مشتركا لبرامج الأحزاب السياسية المختلفة وفي ظلها تتأهب تركيا لأن تصبح واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، أما المدارس التركية التي بدأت تنتشر في عدد غير قليل من الدول فتعد – رغم رمزيتها – تأكيدا للذات وللعالم لحقيقة أن تركيا توقع بالأحرف الأولى مرسوم تحولها إلى إمبراطورية!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !