إما الجمود أو الانسلاخ.ا..
أن نعيش عصرنا بالأخذ بأسباب التقدّم العلمي والتكنولوجي والاستفادة من التقنيات الحديثة،مُقرّين بفضل الحضارة الغربية في ذلك فلا أظنّ أنّ عاقلا يُجادل في الأمر...
أقصد-مثلا- أن نركب الطائرة عوض الفرس أو الناقة لنقطع مسافات بعيدة أو أن نُرسل بإيمايل (رسالة إلكترونية) بدل أن نستعمل حمامة أو ساعي بريد أو نسكن شقة في عمارة بدل بيت من طين أو خيمة فهذا ليس تنكرا للتراث والتقاليد ولا تقليدا للآخر وإلا حكمنا على أنفسنا بالجمود والموت،ولا أخال للإفتاء دور في هذا المجال...
أما أن يلتبس الأمر علينا فنهجر تراثنا ونسلخ جلدنا لنلبس جلد الآخر وننزع عمامتنا لنستبدلها بقبّعة "الكوبوي"...فإنّ في المسألة نظر يستوجب بعد النظر.
حيثما تتجوّل في عواصم البلدان العربية ومدنها تكاد لا تعثر على ما يُحيلك إلى هويّتها،فهي بشوارعها وعمرانها لا تختلف كثيرا عن الأحياء الحديثة في المدن الغربية،ولعلّ الاختلاف تعثر عليه في الأحياء الفقيرة الطينية والقصديرية الفوضوية التي تنتصب في أطراف العديد من المدن العربية تزدري من حداثتها وتُبقي لوجه مقارنة متاح بينها وبين الأحياء الشعبية الأوروبية حتى تلك التي يسكنها المهاجرون العرب...ثمّة مجال تباين آخر وهو وجه الشمس العنيد الذي لا يزال يُصرّ على إطلالة متوهّجة في الوطن العربي،بالمقابل فإنّ وجهها أسمر قاتم في بلاد الغرب-وهي "السّمرة" التي أصبح الكثير منا لا يريدها في لون بشرته-واستطاع أن يتخلّص منها بالزواج من اللون الأشقر وبالامتناع عن تعريض بشرته لأشعّة الشمس...
لا ننكر أنّ معمارا تراثيا لا تزال بعض مدننا تكابد في المحافظة عليه نُسمّيه "المدن العتيقة"...،غالبا ما بقيت آثاره قائمة في المدن العريقة،وغالبا ما يلفّه سور أثري أو ما تبقّى منه...لكنّ هذا المعمار العتيق إن حافظ على نبض حياة فيه فبفضل ولع السياح الغربيين بزيارته والتسوّق منه والانتعاش بعبق ماضيه...وأحسب أنّ هؤلاء الأجانب لو هجروه لنسفناه بلا رحمة ولا هوادة لا لذنب اقترفه سوى أنّ غيرنا المتحضّر هجره بما يقيم الدليل -في زعمنا-على "تفاهته"..ا.
أشياء أخرى لا علاقة لها بمبرّرات الأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا انصهارا في سنّة التطوّر طالها التشويه والتغييب والتهميش و"طلّقناها" بلا موجب شرعي أو صرنا لا نستكين إليها إلا لماما...
اللباس العربي بخصوصياته الثرية والقابل للتطوير والابتكار والإبداع بما فيه المحلّي، النسائي والرجالي،هجرناه...
لأمد غير بعيد ظلّت شعوب في دول عربية(دون أن تضلّ) متشبّثة بجلابيبها إلى حدّ أنها لم تعمد إلى إضفاء مسحة حداثة وتطوير عليها،كأنّما محرّم أن تلمسها يد مبدع رفيع الذوق...أو لعلّه الوفاء للأصالة-ومن الوفاء ما قتل-...
لكن يبدو أنّ هذه الشعوب العربية "المحافظة" ملّت قيد الأصالة في اللباس وتهافتت نساؤها قبل رجالها على آخر صيحات الموضة الغربية،لا يلبسْنها،على استحياء،إلا خارج أوطانها_كما كنّ يفعلن أحيانا..._ ثمّ ما لبثنا أن صرن يتجمّلن بها في النوادي والمحافل المحلّية،ولمَ لا في بيوتهنّ لإغراء أنسب لأزواجهن الذين قد يكون عشقهم للغربيات متأتّ من اللباس والمساحيق والعطر المصنّع...
الرجال أيضا طالتهم حُمّى الموضة الغربية وتقليعات اللباس وقصّ الشعر-وما استطعنا أن نسبق الغرب حتى في موضة يُسعدنا بأخذها منا -...حتى رجال السياسة من القياديين الذين كانوا أكثر تحفّظا واستحياء في الظهور علنا بغير زيّ الوطن التقليديّ انسجموا مع شعوبهم في هجر ما كان يُعدّ رمزا للهويّة وأصبحوا يُطلّون علينا،مباشرة ومن خلال الفضائيات،باللباس الغربي وهم لا يخفون تباهيهم ولا تخذلهم الأناقة باستثناء بعضهم المنتفخة بطونهم التي كان الجلباب يتستّر عليها فلا يفضح جشعها ونهبها...
يتعلّل الكثيرون بأنّ اللباس الغربي أضحى لباسا عالميا كاللغة الإنكليزية التي نبرّر برواجها إحالة لغتنا على متاحف التراث،تماما كمعمارنا وجلبابنا وعمامتنا،وأشياء أخرى كثيرة ثمينة ضيّعناها لها علاقة بالهوية والذوق الذيْن نصرّ على إثبات أنّهما لا يتكلّمان العربية ولا صلة لهما ببيئتها...
أن نرى في الأخذ من الآخر إثراء لمعارفنا وإقبالا على مباهج الحياةمن الآخر حتى إن بلغ الأمر إلى التطعيم بذوقه ففي ذلك حصانة من التّزمّت والانغلاق والجمود،لكن أن نهمل تراثنا و نعزف عنه ولا نتعهّده ولا نثريه ولا نُروّج له،فذلك انسلاخ أخشى الانسلاخ ...والانسلاخ انبتات وضياع وتصحّر...
التعليقات (0)