فرمان بونجق :
بعد معاناة ثمانية عشر عاماً ، من الغربة والاغتراب ، اختلطت عليّ الأمور ، فلم أعد أدرك أهي سورية أمي ؟. أم أنّ مدينتي قامشلو هي أمي ؟. أم أنّ أمي هي أمي ؟. ولكنني في أشد ساعات الصفاء التي أفتقدها غالباً ، أدرك بأنهن جميعاً أمي .
بالأمس القريب ، كنتُ أعاني من وعكةٍ صحيةٍ ، ولمّـا طالت بعض الشيء ، اتصلتْ أمي ، وأنا راقد على سرير المرض ، لتطمئنّ وربما لتتأكد بأنني قد تعافيت ، وعندما تناولت هاتفي ، وهممت بالرد على المكالمة ، ومن شدة الألم تأوّهت ، لم أكن أدرك بأن هذه الآهة ستؤجج النار في الطرف الآخر ، وستسكب الكثير من الدموع على مدى ثلاثة أيام ، وربما أكثر . آه لو كنت أدرك أنها هي المتصلّة ، كنتُ تكتمت على الألم ، كنت ضغطت على الجرح ، فنحن الذين اعتدنا ضغط الجراح ، وكتم الآلام ، وما أكثرها .
طائر مهاجر آخر من طيورنا المغرّدة ، فقد والدته ثم عمته توالياً ، فكان فقْدُهما جرحان توأمان مؤلمان ، لم يستطع أن يودعهما ، ولكنه لم يصرخ من شدة الألم ، انكفأ على نفسه ، ولاذ بالفرار إلى أحزانه القديمة يستأنس بها ، فعندما تتراكم الأحزان ، يوماً بعد يوم ، وعاماً بعد عام ، لا يجد المرء في ساعات الحزن ضالته ، إلا في أحزانه الحميمة ، ليضيف لها حزناً آخر ، لأنها تشده بأساً وصلابةً وجمالاً ، فالحزن يكسبُ المرءَ الهدوء والرزانة والجمال أيضا.
أمي قامشلو وشقيقاتها ، صمتت منذ بعض الوقت ، ولبعض الوقت ، ولكنها أذرفتْ الكثير من دموع الأمهات الأخريات ، هذا شأنهنّ ، يُجدْنَ ذرف الدموع ، كلما تسنت لهنّ الفرصة المناسبة ، ولا يبخلن أبداً . كذبَ من قال : جفّتْ المآقي من الدموع .
أحمد الترك الكوردي ، انتقم لدموع أمه ، وبالكوردي ، فكان انتقاماً لدموع جميع الأمهات الكورديات ، اللواتي يذرفن دموعهن على عتبات المسافة ، التي تفصل بين السجين والسجّان ، بين الجلاد والمجلود ، وبين القاتل والمقتول ، وبين المغيِّب والمغيَّب ، وبين النور والظلمة ، وكذلك على امتداد الخيط الرفيع ، الذي يفصل بين الحرية والموت ، فطالما تخيلتُ الموت بداية الطريق المطلق إلى الحرية .
وفي خضمِّ كل ما يجري ، ومرة أخرى ، يقتحم شهر آذار هواجس الأمهات الكورديات ، فيبشرهن أن يستعددن لمزج المتناقضات ، وأن يتقبلن حقيقة تساوي الليل بالنهار ، وحقيقة تساوي الفرح والحزن ، وحقيقة ألاّ فرق بين الابتسامة والدمعة ، وحقيقة أنّ يوم الحادي والعشرين منه ، ليس عيداً للأمهات .
التعليقات (0)