إلى جنة الخلد.. يا والدي الغالي
خليل الفزيع
للفراق ألمه الذي لا يعرفه إلا من يكابده، وللحزن ناره التي لا يشعر بها ألا من يكتوي بلهيبها، ولفقد الوالد قسوته على الولد، فالإنسان لا يفقد فقط شخصا عزيزا على قلبه.. قريبا إلى فؤاده.. لصيقا بوجدانه، ولكنه يفقد أيضا ظلا يتفيأ به، وحنانا يتقي به من قسوة الحياة، وجبلا يستند إليه إن كشرت الدنيا عن أنيابها، و(عزوة ينتخي بها) عند اشتداد المجابهات، ويكفي أن يقول: (أنا ابن فلان) حتى تستيقظ في نفسه كل عوامل العزة والفخر والكرامة، وتحضر أمامه كل أسباب الجلد والتصميم والطموح، ليجابه بتلك العوامل والأسباب، أعتا المواقف وأقساها وأشدها ضراوة بعزيمة لا تلين وقلب لا يضطرب.
كما أن فقد الوالد يعني أن الولد يفقد مصدرا للإلهام ودافعا للطموح ومحرضا على ارتكاب فعل المثابرة والجلد والصمود أمام التحديات الشرسة التي قد يواجهها الإنسان في حياته، وهو - قبل ذلك وبعده - يفقد مصدرا للثواب ومنبعا للمغفرة، فقد وعد الله البارين بوالديهم بالثواب الكبير والمغفرة الواسعة، وهما غاية لا يدركها إلا أولو العزم الذين يبرون بوالديهم في حياتهم ومماتهم، ويبذلون من أجل ذلك كل ما يفرضه ذلك البر من التضحية، كسبا لمرضاة الليل وطمعا في ثوابه.
هذه الخواطر والأحاسيس والأفكار ما تزال تنتابني منذ أن فجعت في الخامس عشر من شعبان المنصرم بوفاة الوالد الراحل إبراهيم بن عبدالله الفزيع الذي وافاه الأجل المحتوم بعد معاناة طويلة مع المرض، وقد كان محبوبا من الجميع لما اتصف به من لين الجانب، والميل إلى أخذ الأمور بالحسنى والتعاطي معها بالحكمة، وكان من أشد الناس رفضا للغلو والتطرف، وما ينجم عنهما من الإرهاب الذي دفع ثمنه الإنسان والأوطان، وهو ثمن باهظ وكبير.
وكان الفقيد من أشد الناس حرصا على دينه، وما غضب لأمر إلا في أمور الدين إذا رأى تهاونا في أدائها من أحد، وقد حرص طوال حياته على جمع كلمة أبنائه وتعويدهم على التكاتف والتآزر والتعاون فيما بينهم، وكغيره من أبناء جيله كافح كثيرا في حياته وواجه تقلبات الزمن بإيمان عميق وشجاعة كبيرة، ولم يكن في يوم من الأيام بمعزل عن أحداث الوطن والأمة، بل كانت تلك الأحداث محور حديثه في أوقات كثيرة، يتألم لما يحل بالأمة من الهزائم والكوارث والنكبات، وما يعتريها من الوهن والضعف، وساعده على فهم الحياة والناس حفظه لقسم كبير من القرآن الكريم، وكان قوي الذاكرة، وحتى آخر أيامه كان يتذكر أحداثا عاشها في طفولته وشبابه، وعانى فيها قسوة الظروف في زمن الشح وقلة مصادر الرزق وقسوة ظروف العمل إذا توفر، فهو لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب.
وقد أدت المشاحنات بين والده وأعمامه إلى ضياع أرث كبير من بين أيديهم، فاضطر والده عبدالله للالتحاق بقوافل الغوص بحثا عن اللؤلؤ قبل أن تشرق شمس النفط، وهو كواحد من أبناء جيله اقترنت حياته في البداية بالتنقل بين أقطار الخليج، بحثا عن مصدر للرزق، أو العمل في الزراعة التي توفر حياة أكثر استقرارا لأبناء الخليج، لكن هذا التنقل زالت أسبابه بتوفر مصادر للرزق أكبر دخلا وأقل جهدا وذلك بالعمل في فرق التنقيب عن النفط، وقد يسرت حقول النفط وفرة اقتصادية لم تيسرها حقول الزراعة، فاتجه للعمل بشركة التنقيب منذ بداياتها الأولى، تاركا ابنه إبراهيم ليجرب حظه في أعمال أخرى استطاع من خلالها أن يبني أسرته الصغيرة ويرعاها ويحافظ على التكاتف والألفة بين أفرادها.
وإذا كان لأحد من فضل - بعد الله - لما حققته من إنجازات في حياتي، فإن هذا الفضل يعود للوالد الراحل رحمه الله، فقد كان حريصا على أن يكون لابنه شأن في مجتمعه، ولم يتأخر في يوم من الأيام عن توفير الأجواء والظروف والإمكانيات لتحقيق الأحلام الكبرى التي كان يأمل في أن ينجزها ابنه البكر، وإذا لم يتحقق شيء من تلك الأحلام فإني وحدي أتحمل وزر هذا التقصير، فمعذرة يا والدي إن عجزت الهمة وقصرت الإرادة عن بلوغ تلك الطموحات. وما لا أنساه في علاقتي بوالدي.. صداقته الحميمة إلى جانب أبوته الحانية، وما أحوج الآباء والأبناء إلى هذا النوع من الصداقة الحميمة؟!. لك الرحمة يا والدي الغالي، ولنا في فقدك الصبر والسلوان.وإنا لله وإنا إليه راجعون.
التعليقات (0)