هذا التراث القيم .. وذاك الميراث الضخم الذي توارثته جماعة الأخوان المسلمون عن مؤسسيها من الرعيل الأول بقيادة الراحل حسن البنا الذي أراها جماعة "دعوية" في المقام الأول والأخير نبراسها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى تجديد الشعور الديني وإحياء الانتماء داخل صدور المسلمين تجاه تعاليم ومبادئ الإسلام الصافية ، وتنقيح السلوكيات مما ران عليها ، ومما شابها من أدران المفاهيم الجاهلة ، ومن الأعراف الخاطئة ..
نقول هذا الميراث الضخم لدعوة كان مقدراً لها - لو أخلص حملة رايتها النية من شأن إعلائها - لكان مقدراً لها أن تسهم مساهمة قوية جداً في إيقاظ غالبيه دول العالم الإسلامي من سباتها العميق، و انتشالها من هوة التخلف والضياع التي تقبع فيها على مدار مئات السنين بفعل الغزوات الاستعمارية ، والاحتلال الأجنبي ، والأطماع السلطوية ، والاستبداد ، والديكتاتورية التي جرعت شعوب تلك الأمة أكؤس المرار والدمار والضياع ..
ونحن .. وقد رصدنا بكل سهولة ذلك الفارق الهائل والفالق الفاصل بين ميراث "الدعوة" وبين " الوارثين "لها وحملة رايتها من أصحاب مكتب الإرشاد الذين انحرفوا كل الانحراف عن آراء ومبادئ وتعاليم ومفاهيم المؤسس الأول الراحل حسن البنا ..
فقد تركوا الهدف الأسمى الذي أنشأ البنا "جماعته " التي أسماها "جماعة الأخوان المسلمون" وهو "الدعوة" والدعوة فقط .. وجعلوا من " الجماعة" ستاراً للصراع على المناصب والامتيازات ، وحصد الأموال والشهرة ، والسلطة ، والمنفعة الذاتية .. وتركوا خلف ظهرهم مبادئ وتعاليم معلمهم ورمزهم حسن البنا حبيسة داخل رسائله تنعى نفسها وتنعى الجماعة وتنعى المؤسس ..
وهاهي جماعة الأخوان المسلمون والتي تخرج من عباءتها فصائل من جماعات وتنظيمات العنف الديني والسياسي كجماعة التكفير والهجرة ، وتنظيم الناجون من النار، و من ذهب ليشارك في تأسيس تنظيم القاعدة ليتحدثوا جميعاً باسم "الإسلام" وليحصر كل منهم الوكالة عن الله وعن دين الله في نفسه ، وفي جماعته ، وفي تنظيمه ، وليحسر عن غيره رداء العقيدة وغلالة الإيمان .. حتى ولو حسن القصد ..
فإن كل ذلك كان نتيجة الخواء الفكري والجهل بالسبل الصحيحة والطرق القويمة نحو اعتناق عقيدة دينية إسلامية سمحة صافية من الشوائب خالية من الأدران تستلهم الدين الحق من نبع صاف .. ومن فكر ضاف .. ومن فهم سليم .. ومن عقل واع .. ومن مصدر موثق .. ومن اجتهاد محقق ..
انكشفت الساحة الآن عن الجيل الأخير من حملة راية "جماعة الأخوان المسلمون" الذين تاجروا بالشعار الديني .. وتنافسوا على المناصب وعلى الشهرة وعلى الدنيا ومتاعها .. وجعلوا الدين مطيتهم وألهبوا حماس البسطاء من عامة الشعب الذين تلجم أفواههم أي كلمة أو أي صرخة أو أي صيحة باسم الدين أو باسم الله أو باسم الإسلام ..
الشعب المصري متدين منذ خلقته .. منذ آلاف السنين وهو يبحث في البعث وفي الخلق وفي الحساب .. الشعب المصري ومنذ فجر التاريخ و هو في ذروة حضارته التي ساد بها على الدنيا بأسرها وقبل ظهور الإسلام بآلاف السنين كان همه الأول والأخير "الموت والبعث والحساب" ..
ولما فتح الله على مصر بالإسلام .. اهتدى شعبها إلى الدين الحق .. وعرف شعبها ربه .. وخالقه ..
وكانت مصر وشعبها وعلى مدار القرون حائط الصد الأول والأهم والأقوى عن دين الله الإسلام من هجمات الغزاة الصليبيين والتتار والفرنجة وغيرهم وغيرهم ...
لم تكن هناك جماعة ..ولم يكن هناك أخوان مسلمون .. ولم يكن هناك مكتب إرشاد ..ولم يكن هناك تكفير وهجرة ولا سلفيون وغيرهم ..
كان هناك شعب مصر المسلم ، المسالم ، السمح ، الطيب ، المهادن الذي لايريد سوى أن يعيش في سلام ، وأن يموت في هدوء ..
واليوم وقد ثار شعب مصر على آخر أنظمته الاستبدادية .. وقد لجمه الصمت إزاء تصدر" الأخوان المسلمون" المشهد وباسم جماعة ترفع راية الإسلام و"إحياء العقيدة" وتطبيق الشريعة ..
فقد أوسع لهم الشعب الساحة و منحهم المساحة والفرصة التاريخية لكي يحققوا ما ينادون به .. إلا أن أبناء "الجماعة " عاثوا في برلمان الشعب فساداً واستبداداً ، وأظهروا - منهم ومن تابعيهم - ما قد أنكره الناس عليهم واستهحنوه منهم .استدعو أدوات الكهنوت والرهبوت التي استخدمتها الكنيسة في القرون الوسطى متدرعة بنظرية الحق الإلهي وصكوك الغفران .. ليمنحوا من يرضون عنه الجنة ويقذفوا من ينتقدهم أو حتى يتشكى من ظلهم وجورهم نار السعير ..
هكذا كادت الجماعة - في ذروة نشوتها بالغالبية البرلمانية - أن تنتهج ذات النهج وذات السبيل . حتى أن أثر ذلك تجده ظاهراً وبوضوح في آراء الجهال من العامة وأنصاف المتعلمين وأرباع المثقفين .. حتى أن منهم الذين "جهروا" علانية بأن من ينتقد "الجماعة" فإنه بذلك يعادي الشريعة وبالمنطق فإنه عدو الله !!.. ياللسخرية المريرة !! ..
إن هؤلاء وأضرابهم لا يفقهون أن الجماعة نزلت إلى معترك السياسة كحزب سياسي يتنافس مع نظرائه أيهم أقدر وأيهم أجدر بكراسي السلطة وعرش الحكم .. حتى أن الجماعة حين أمسكت بأغلبية البرلمان التشريعي أساء ممثلوها استخدام أدوات وإمكانيات وتشريعات هذا المنبر الأهم .. وظهر منهم أنهم أبعد ما يكونون عن رسالة مؤسس جماعتهم .. وأنهم طلاب سلطة .. وطلاب دنيا .. وطلاب شهرة .. والأسوأ من هذا وذاك .. أنهم أبعد ما يكونوا عن الراية التي يزعمون حملها .. وعن المبادئ التي يزعمون اعتناقها .. وعن الحقوق التي يدعون طلبها .. وعن الحقيقة التي يزعمون نشدانها ..
وهكذا خسر الأخوان المسلمون فرصتهم التاريخية بعد أن استعدوا عليهم مختلف أطياف الشعب ومؤسساته من قضاء وجيش وشرطة وقوى ثورية وأحزاب وهيئات وأزهر وكنيسة ..
خسر أبناء الأخوان كل شيء .. حتى ولو نجحوا في انتخابات الرئاسة . فقد خسروا كل شيء .. لأنهم أرادوا لأنفسهم كل شيء .. لأنهم نظروا لأنفسهم .. ولذواتهم ولمصالحهم هم فقط .. بأنانية بغيضة واستبداد أحمق و جهل مروع ..
و ها قد جاء حكم المحكمة الدستورية العليا بالأمس ليقضي قضاء مبرماً على "مصداقية" شيء اسمه جماعة الأخوان المسلمون .. وليصمهم بالجهل ، والاستبداد ،وضيق الأفق ، والانتقائية ، والانتقامية ، والذبح على الهوية ..
التعليقات (0)