مواضيع اليوم

إلى أين يفضي صراع "العسكريتاريا" و"العثمانلية"؟

ممدوح الشيخ

2009-03-30 15:43:02

0

مشهد إرجينيكون المثير:
تركيا: إلى أين يفضي صراع "العسكريتاريا" و"العثمانلية"؟

بقلم/ ممدوح الشيخ

طبقات من الصراعات بعضها فوق بعض.
هذه خلاصة المشهد التركي المثير. وفي رسالة من محبسه، تهكم عبد أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الماركسي (وهو من المتهمين بالارتباط بشبكة إرجينيكون) على حقيقة أن بعض المقبوض عليهم في هذه الشبكة كانوا يتفاوضون معه باعتبار أنهم "الدولة"، لكن "الدولة الأخرى" قبضت عليهم، فأصبحنا أمام دولة تسجن دولة!
والقضية التي ما زالت منظورة أمام القضاء التركي مصحوبة باهتمام لم يسبق له مثيل في تاريخ تركيا ما زالت تكشف كل يوم عن جديد، ويمكن اعتبار ما يحدث الفصل الأخير في ظاهرة "دولة التنظيم السري" التركية، وهي الظاهرة التي صك علماء السياسة الأتراك مصطلح "Deep stste" (الدولة العميقة) لوصفها. ويمكن أيضا اعتباره "خريف العسكر".
وإذا كانت الأبعاد الجنائية للقضية ما تزال قيد التدقيق والتحقيق فإن الخلفيات السياسية والثقافية المتصلة بها ترجع إلى تأسيس الدولة التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك (توفي 1938) حيث شكلت "الأتاتوركية" أو "الكمالية" بعده ميراثا مقدسا في نظر العلمانيين المتشددين واجتهد الجيش التركي لعقود في القيام بدور الحارس للقيم الكمالية.
وهذا الجيش تدخل بشكل مباشر من خلال أربعة انقلابات عسكرية خلال أقل من 40 عاما، لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة في مقدمتها حماية النظام العلماني. كان أول هذه الانقلابات عام 1960 وآخرها عام 1997، وفيما كان الأول دمويا جاء الأخير نظريا اكتفى بالتلويح بالقوة. أول الانقلابات وأكثرها دموية جرى في 27 مايو 1960 عندما أطاح الجيش بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بالسماح للقوى الدينية بالعمل بحرية كانت الحكومات العلمانية السابقة قد منعتها تماما. ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلاميا فإن مجرد محاولته تخطي شكل العلمانية الذي "شرعه" أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه. وجاء الانقلاب الثاني في مارس 1971. وحدث الانقلاب الثالث في سبتمبر 1980 وكان لهذا الانقلاب تأثير مهم في مجمل المعطيات السياسية حيث حكم قائد الانقلاب كنعان أيفرين البلاد لمدة 7 سنوات رئيسا للجمهورية بعد أن صاغ دستورا ينص على منح قادة الانقلاب حصانة دستورية إلى الأبد. وفشل جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا البلاد بعد ذلك في تغيير هذه المواد. الانقلاب الرابع حدث في فبراير 1997 وكان انقلابا" نظريا" اكتفى فيه الجيش بإخراج الدبابات في شوارع أنقرة ليضطر رئيس الوزراء نجم الدين أربكان للاستقالة، قبل وصول الجيش لمقر رئاسة الحكومة. وبرزت في هذا الانقلاب حدة الصراع العلماني الإسلامي. لاسيما أن أربكان قام خلال العام الذي تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات لم يخف فيها رغبته في تغيير معالم أساسية في النظام العلماني التركي الذي يؤكد الجنرالات أنهم أصحابه وحماته باسم الأمة التركية وإلى الأبد.
وبقيت ظلال الجيش في السلطة حتى نهاية التسعينيات بسبب الدستور الذي صاغه الجنرال كنعان أيفرين، حتى بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي نهاية العام 1998. ففتح هذا الأمر صفحة جديدة في التاريخ السياسي التركي بعيدا عن تأثير جنرالات الجيش الذين كان عليهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية. وفي عهد حكومة أردوغان انحسرت نسبيا صلاحيات الجيش ومجلس الأمن القومي الذي تقلص فيه وجود العسكريين، وبدأت حملة الإصلاحات مستهدفة سلطات وصلاحيات الجيش في الحياة السياسية، فنجحت حكومتا أجاويد وأردوغان في تمرير الإصلاحات بفضل مرونة قائد الجيش السابق حلمي أوزكوك المعروف عنه تهربه من أي توتر أو مواجهة مع الحكومة بحجة أن ذلك ليس لخدمة المصالح الوطنية والقومية لتركيا. واستغلت حكومة أردوغان ذلك فحسمت مجمل التعديلات التي وضعت حدا نهائيا لدور العسكر في الحياة السياسية بعد أن أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومي 9 مدنيين مقابل 5 من العسكريين بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل 70 عاما تقريبا، كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت في السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لمدة 70 عاما.
كما وضعت التعديلات الدستورية الأخيرة تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفي مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسة التي تستهدف الآن الجيش في أي محاولة من الجنرالات لعرقلة المسار الديمقراطي.
وقد أصبح واضحا أن المسار الديمقراطي محمي من جانب الشارع التركي أكثر من أي وقت مضى، ولأن حزب العدالة والتنمية يحكم البلاد بمفرده دون أي ائتلاف مع أي حزب آخر. كما أن جميع استطلاعات الرأي تبين أن هذه الحكومة مازالت تحظى بدعم واسع من المواطنين الأتراك الذين لم يكن سهلا على جنرالات الجيش إقناعهم بعد الآن بأي مبرر لأي انقلاب عسكري.
وقد كانت تركيا مؤخرا على مسافة قريبة من انقلاب عسكري محتمل أعقب نزاعا قضائيا لحظر حزب العدالة والتنمية لكن تغير المناخ الدولي جعل مصدرا رفيعا بمكتب الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي يقول إن آمال أنقرة في الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي بدت أكثر بعدا، فخرج رئيس الأركان التركي ليعلن بوضوح أن عهد الانقلابات العسكرية ذهب إلى غير رجعة. وإن كان زير الخارجية الفرنسي برناركوشنر قد ثمن دور الجيش قائلا إن "الجيش لعب دورا مهما للغاية في تركيا من أجل الديمقراطية والفصل بين المسجد والدولة".
وقد خاض الجيش التركي معركته الأخيرة للاحتفاظ بموقعه الحاسم في التركيبة السياسية التركية عندما بدأ ينفذ خطة عمل في سبتمبر 2007 شملت حشد تأييد القضاء والاتصال بشكل متكرر بوسائل الإعلام وبشخصيات مؤثرة لكسب تأييد الرأي العام للعلمانية. وهي إجراءات وردت في مذكرة داخلية من 11 صفحة تخص مكتب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش اتهمت الحكومة بأنها "المسؤولة عن التحركات الدينية الرجعية". ونفى الجيش في بيان نشره بموقعه على الإنترنت وجود هذه الوثيقة!
وفجأة انفجرت قضية إرجينيكون لتحشر المؤسسة العسكرية في الزاوية الضيقة وتدفعها – للمرة الأولى – لأن تكون في وضع دفاعي. ويمكن تلخيص القضية بأنها نهاية "الحكومة الخفية" التي ظلت تتربص بالحياة السياسية منذ منتصف القرن الماضي، محركة أحداثا الكبيرة أو غامضة، ظلت تهز البلاد وتصدم الرأي العام بين الحين والآخر: انقلابات عسكرية، اغتيالات، تفجيرات، ......
لائحة الادعاء في القضية بلغت ٢٥٠٠ صفحة وعدد المتهمين تجاوز الثمانين وتتسرب معلومات من التحقيق عن صلات مع جهات أجنبية أهمها الموساد، وبلغ التصعيد قمته عندما أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه تلقى تهديدا في حال استمر نظر القضية!
ما أثار الانتباه في قائمة المتهمين أن على رأسهم جنرالات متقاعدون وبينهم عدد من رجال الجيش والشرطة وقوميون متطرفون منخرطون في منظمة "حماية الأفكار الاتاتوركية". وقدر أحد عدد الخبراء أعضائها بحوالي ٤٠ ألفا. وثمة حادث وقع في نوفمبر ١٩٩٦ يسلط الضوء على مدى قوة وانتشار تلك المجموعة الخطرة. ذلك أن سيارة مرسيدس سوداء كانت تسير مسرعة على أحد طرق غرب تركيا، فخرجت عليها سيارة شحن كبيرة صدمتها وقتلت ثلاثة من ركابها، أحدهم كان مدير الآمن السابق لمدينة استنبول والثاني أحد زعماء المافيا الخطرين المطلوبين محليا ودوليا، والثالثة ملكة جمال سابقة لتركيا كانت عشيقة الثاني. أما الرابع الذي جرح فقط فقد كان شيخ عشيرة كرديا يتمتع بالحصانة البرلمانية. وفي التحقيق تبين أن المجموعة كانت قادمة من أزمير عقب اجتماع مع وزير الداخلية في الحكومة، وأن السيارة كانت تحمل سلاحا. ثم تبين أن السيدة تانسو شيللر نائبة الوزراء آنذاك كانت على اتصال مع واحد منهم، هي وزوجها. واختفت البصمات من ملف القضية، وصدرت أحكام مخففة بحق من اتهموا فيها، وأفلتت إحدى خلايا منظمة إرجينيكون من العدالة.
لكن محاكمة إرجينيكون هذه المرة تتوفر لها ظروف داخلية ودولية مختلفة تجعلها على الأرجح بداية نهاية هيمنة الجيش التركي على المقدرات السياسية للدولة التركية.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !