أسامة بن لادن أُرغم على مغادرة الدنيا يوم أمس الإثنين مبكراً، والكثير ربما يفضلون تعبير "طُرد" من الدنيا ... ولكن إلى أين رحل؟
لاشك ستكون لدى أغلب القرّاء فكرة راسخة في أذهانهم ومشتركة بينهم، أنه قد رحل إلى عالم ماورائي. إنما سيكون بينهم في نفس الوقت إختلاف في موقع وصوله في ذلك العالم الغيبي الغامض. سوف يقول بعضكم أنه يتمرغل الآن على حرير ملايات سراير الجنة، تحفه 72 حورية كل تننتظر دورها ، وبعضكم الآخر سيقول أنه يشوى على جمر نار جهنم وهو لايزال في قبره. ويصعب على فرقة تغليط الأخرى في رأيها وترجيح رأي على رأي، لأن قناعات كل منهما مستمدة من نفس المصدر: القرآن والحديث. والإختلاف هو في كيفية قراءة نفس النص وكيفية فهمه وليس في إختلاف المصدر.
ولكن مهلاً، هذا مايبدو للوهلة الأولى، وهو أن الإختلاف في هذا الرأي والكثير مثله من الآراء الثيولوجية ينبع من كيفية قراءة وفهم النصوص، ولكن الإختلاف في هذه الآراء تغذيه في الحقيقة عوامل أكثر وأعقد مما يكشفه إشكال الترجيحات أعلاه، والذي لايغدو في جوهره عن تسطيح للمشكلة.
فالوصول إلى رأي يستند على منظومة معرفية كالنصوص الدينية، التي لايمكن إخضاعها لمقاييس ومعايير متفق عليها أو منهج بحثي تجريبي يمكن التحقق منه بموضوعية وتجرد، سوف يؤدي في الغالب إلى إختلاف في ذلك الرأي. لأن الوصول إلى آراء كهذه في غياب المعايير سوف يقع تحت تأثير عوامل خارجية شتى تتداخل وتتشابك ولاتتعلق بمحور الموضوع المطروح، إنما ستحدد بالرغم من ذلك إتجاه الرأي: الفطنة، درجة التشدد، العادات، التقاليد، الثقافة، المزاج ... إلخ، إنما لعل أشملها وأبسطها هو العامل الجغرافي، وهذا العامل واضح للغاية، ولكن إسمحوا لي أن أكرره بهذا المثال للتأكيد:
ستكون قناعة شخص ما، في العادة، أن مصير أسامة بن لادن هو الجنة ... إذا كان ذلك الشخص قد نشأ في وزيرستان لأسرة طالبانية.
وقناعة نفس الشخص، هي أن مصير أسامة سيكون في النار ... إذا كان هذا الشخص قد نشأ في عائلة في العراق مثلاً عانت من إرهابه.
نفس الشخص، سوف يتخذ موقفين متناقضين يعتمد كل منهما على موقع نشأته، بالرغم من أن تربيته في كلا الموقعين تستند في تعاليمها على نفس المصدر، وربما تستند أيضاً في مرجعيتها إلى شيوخ من نفس المرتبة الفقهية لكلتا العائلتين.
فالمعارف المبنية على مفاهيم ثيولوجية لايمكن الإعتماد عليها إذاً بأي قدر من الدقة في تقييم الأمور وترجيح إحتمال دون آخر بسبب إبهامها وتذبذبها وتناقضها وعدم وجود مقياس محدد ومشترك تستخدمه جميع الأطراف في الوصول إلى رأي موحد. فهل هناك ترجيح آخر أوضح وأثبت وأمتن؟
نعم، الترجيح المبني على مقاييس متفق عليها ... المقاييس العلمية.
معارفنا المبنية على العلوم التجريبية لاتتفق إطلاقاً مع أي من الترجيحات المبينة على المعارف الثيوليوجية، أي إنتهاء المصير إلى الجنة أو النار ... سواء لأسامة أو لغيره، بسبب عدم توافق المنهج الثيولوجي المعرفي، إن إستطعنا أن نسميه منهج، مع المنهج العلمي لتقصي الحقيقة. فالأول يعتمد على التسليم الموروث الذي لايستند إلى أي مقياس متفق عليه، والثاني كما قلنا يستند على مقاييس معروفة ومدروسة ومتفق عليها. أضف إلى ذلك غياب الدليل العلمي لوجود كائنات كالملائكة والجن أو مفاهيم كالجنة والنار.
في الواقع، معارفنا العلمية لاتشير إطلاقاً إلى وجود عالم ماورائي أصلاً. مما يرجح مصير أسامة بن لادن والبشرية جمعاء إلى نهاية غير مرغوب بها أبداً وأسوء وأرعب، برأيي، من النهاية التي يهدد النص بها كل من يعصيه.
هذا الإحتمال، أو الترجيح، الذي يشير إليه العلم، لابد أن يوضع بعين الإعتبار، مهما كانت ضئالته، في نظر المؤمن. وأن يُأخذ بمنتهى الجدية... في الواقع بجدية تفوق أي إعتبار آخر. لأنه يعني، إن صدق، ومعلوماتنا العلمية تشير إلى أنه الأصدق والأرجح كما قلت، أن رحلة مابعد الموت هي رحلة عبور للذات من عالم الوجود إلى عالم الفناء ... هي رحلة رجوع إلى الذرات والجزيئات التي منها تكوّن الإنسان في المقام الأول ... هي رحلة ضياع نفقد فيها الشعور والإحساس والعاطفة والوعي والإدراك إلى الأزل.
مما يعني، وحتى لو كان هذا الترجيح ضئيل في نظر الكثير، أن أسامة بن لادن قد تخلى عن عيشة أشبه بعيشة الملوك، ليستبدلها، وهي حياته الوحيدة، بحياة هارب متشرد بائس يتلفت ورائه خوفاً إينما ذهب. وفي الآخير ينهيها مبكراً برصاصات خصومه، ويأخذ معه زوجته وولده راحلاً، بعدما أرسل قبلهما آلاف البشر الأبرياء ... إلى العدم.
وللكاتب مقالات أخرى تجدونها على هذا الرابط: basees.blogspot.com/
التعليقات (0)