إكسيرُ الحياة
الموتُ في سبيلِ قيمةٍ عُلْيا.
قضيةٌ شغلت المفكرين والفلاسفة.
وعُلماءَ المجتمعِ، والسياسة, منذُ فجرِ الوجود.
وإلى اليوم، لم تستطع أيَّةُ منظومةٍ فكريةٍ، تبريرُ هذا السلوكُ البشري.
ومعرفةُ دوافعَهُ الحقيقيةُ تماماً.
وحدهم المشتغلون في العقائدِ و الأديان.
استطاعوا إيجادَ مَخرَجاً لهذهِ القضية.
واحتالوا عليها، عبرَ استيراد الإجابةِ من عالمِ الغيب.
عالمٌ فيهِ ما فيه، من ملائكَةٍ و شَياطين.
يتجاذبون البشرَ ما بين النعيمِ والجحيم.
وآلهةٌ تُراقبُ هذا، وتنتظر.
بعضُهم عَطَّلَ التفكيرَ فيها عبرَ فكرة الفداء.
وآخرْون، عَدَموا القضيةَ بِرْمَّتها, وقالوا، ما مات مَن ماتَ في سبيلِ اللَّه.
وعلى مِنوالِهم، نَسَجَ الجميع، وقرَّروا ما يُشبه.
فالموتُ في سبيلِ الجماعة أو القبيلة أو الوطن.
أفعالٌ حميدةٌ، يُعَظَّمُ صاحبُها بعدَ موته.
ويعاملُ معامَلةً خاصة، من طقوسٍ دينيةٍ ومزايا اجتماعية.
فهذا الكريمُ البطلُ النبيل، جادَ بنفسهِ لأجلهم.
وبما أن الأمواتَ لا يتكلمون، سادَ هذا المفهوم، وسَلَّمَ الإنسانُ به.
راضياً بالثوابِ المؤجلِ والنعيمِ الموعود.
لكن ظلَّ في هذه القضيةُ ما يُريب.
والتمعُّنُ فيها يُعيدُنا دائماً إلى الإنسانِ نفسه.
في البِدايةِ، لم يكن بوسعِ الإنسان ارتكابُ الأخطاء.
فالأرضُ متَّسِعةٌ للجميع، والطرائدُ لمن يصيدها.
والثِمارُ لمن يقطفُها، والكهوفُ متوفرةٌ لمن يريد.
الخطيئةُ الوحيدةُ الممكنةُ في ذلك الوقت، هي الاعتداءُ على الأنثى.
التي كانَ الذَكَرُ يَعتبرُها مُلْكَهُ الخاصُّ والوحيد.
هتكُ العِفَّةَ، وسَيَّلانُ الدَم، الدَمُّ الأحمرُ القاني.
هنا لا شيءٍ يمحُو هذهِ الخطيئة، إلا الدَمَّ نفسه.
خضوعاً لهذا المفهومُ الذي سادَ المجتمع وما زال.
دأبوا على تقديمِ العذارى قرابيناً إلى نوّابِ الآلهة.
عسى أن ترضى عنهم، وتغفرُ لهم خطاياهم.
حتى تَطوَّرَ العقلُ البشري، وبدأ يرفضُ هذا السلوكُ الوحشي.
و يراهُ ثمناً باهظاً، أمامَ خطاياهُ الصغيرة.
وخَوفاً من العصيان، تنازَلَ نوابُ الآلهة
ورَضُوا بالحيوانِ بدلً عن الإنسان، شرطَ أن يكون لحمهُ لذيذاً.
عِوضاً عن لَذَّةٍ أكبر، حُرِمُوا منها.
مرةً أخرى بقيَ ثمنُ الخطيئة هو نفسهُ لم يتغير، الدم.
على مَرِّ العصور، اتخذت القرابينُ أشكلاً مختلفة.
تِبعاً لتنوعِ المجتمعات، والتطورُ الفكري والتقدمُ العلمي.
وكشْفُ أسرارَ الظواهرِ الطبيعية، التي كانت تُخِيفُهم.
لكنها ظلَّت تدورُ حولَ الفكرة الأساسية، وهي الذبحُ وسيلانُ الدم.
واليوم، بَلَغَ العقلُ البشري مرحلةً متقدمةً في العلومِ كافَّة.
ونشأت مع التقدمِ العلمي والاجتماعي والتقني.
مفاهيمٌ حضاريةٌ واقعية، أدَّت لِظُهورِ رَوائزٍ معقدة متشابِكة، لم يكن لها في السابقِ أي معنى.
ولهَذا فإن تطورَ الإنسانية قامَ على حسابِ نُوّاب الآلهة.
لأنَّ تجمُّع أفرادُ المجتمع، هو فكرة.
كفكرةُ العدالةُ الاجتماعية، أو سيادةُ الوطن، أو فكرة تحضيرُ العالم.
مما جعلَ نُوّابَ الآلهة يتنازَلونَ عن فرديتِهم، ويَندمجون مع هذه الفكرة.
فَرَضوا بالنقودِ المعدنية والورقية، والهِباتُ العينية، والرَواتبُ الشهرية.
لقاءََ الدُعاء والموعظة، والنصحُ والإرشاد.
ورُغمَ أنهم تركوا الذبائحُ لأصحابها.
فقد ظَلَّ الذبحُ وفَوَرانُ الدَم، الوسيلةُ الوحيدة.
ليشعر الإنسانُ بالرضى عن نفسه، ويُسكِتُ صَوْتَ الغيب الذي يؤرقُهُ على الدوام.
الخُلاصةُ، إن الحقيقةَ الواقعة.
هي أن الإنسانَ كغيرهِ من سائرِ الأحياء.
خاضعٌ لِناموسِ الطبيعةِ المُحكَم, الذي لا خروجٌ لأحَدٍ عليه.
و الإنسانُ يعتقدُ دائماً أنَّ موتَ الآخرينَ، هو حَياةٌ لآخرينَ غَيرَهم.
وجاءَت الشرائعُ، لتضَعَ هذا المفهومُ ضِمنَ إطارٍ دينيٍّ مقدس، وتُقلِّدهُ أوسمةَ الفضيلةِ والإيمان.
وما نراهُ اليوم، من اقتتالٍ بين الأفراد و الجماعات و المجتمعات.
ومن حروبٍ مَهْما كانت أسبابُها وأهدافُها.
ماهيَ إلا دليلٌ واضح، وتعبيرٌ صارخ على عِشْقِ الإنسان لرؤيةِ الدم.
هذا العُشْقُ الذي وُلِدَ كبيراً.
مع أولِ لحظةِ لَذَّةٍ عارمةٍ, رأى معها الدَّمُ الأحمرُ القانيُ يسيل.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب 72)
التعليقات (0)