حسب أكثر من جهة فشل صندوق المقاصة في مهمته. وقد بدا هذا الفشل سافرا في السنوات الأخيرة،سيما وأن ارتفاع سعر المحروقات الأخير أنتج حلقة مفرغة من التراجعات والتقهقر في مسار تطور القدرة الشرائية وصولا إلى تدني غير مسبوق لاستهلاك الأسر. هذا ما أدى بدوره إلى تقليص الاستثمار، الطي أنتج تقهقر شروط خلق فرص الشغل وقلّص بدرجة كبيرة مصادر الدخل وخلق الثروات المضافة. وتسارعت وتيرة الحلقة المفرغة واتسع مداها بفعل انعكاسات البطالة في صفوف رجال الغد. إذ يستقبل سوق العمل كل سنة أكثر من 190 ألف باحث عن شغل في ظل تحقيق نسبة نمو مازالت ضعيفة جدا مقارنة بالمطلوب، وفي مناخ لازال مطبوعا بعدم الملاءمة بالنسبة للمقاولات.
وبالتالي من الطبيعي جدا أن تتسع دوائر الفقر ببلادنا، إأضحى يرعب إلى حد أنها باتت اليوم تهدد شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، وهنا يكمن الخطر الاقتصادي الكبير الذي أضحى يُرعب الخبراء الاقتصاديين وصناع القرار.
هذا، ولا ينبغي أن يغيب عن الأنظار أن ارتفاع السعر الداخلي للمحروقات انعكس مباشرة على تكلفة الانتاج وأسعار الاستهلاك مما تُرجم بتصاعد نسبة التضخم التي قد تفوق 4 بالمائة، ولا حل أمام القائمين على الأمور، في نظر الخبراء الماليين والاقتصاديين، إلا توسيع السوق الداخلية الذي يُعتبرالمحرك الأساسي للتنمية. علما أنه لأول مرة في المغرب، وعلى امتداد أكثر من 15 سنة، برزت ظاهرة اقتصادية خطيرة، وهي ما نعتها الاقتصاديون بــ "العجز التوأم"، أي من جهة عجز متزايد في الميزان التجاري حيث فاق نسبة 6 بالمائة سنة 2011 ولا يزال سائرا في التصاعد هذه السنة، ومن جهة أخرى عجز في ميزان الحسابات الجارية والذي تجاوزت نسبته 8 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
في واقع الأمر إن بلادنا في حاجة ماسة،أكثر من أي وقت مضى،إلى اعتماد نموذج جديد للتنمية، وإلا ظلت دار لقمان على حالها.
فكل المؤشرات كشفت بجلاء أن نماذج التنمية المعتمدة إلى حد الآن قادت إلى فشل تلوالفشل واليوم تهدد بالاقتياد إلى الإفلاس بالتقطير، قطرة قطرة، إذ أضحت منظومتنا الاقتصادية في دوامة من الصعب الخروج منها إن لم تحضر الشجاعة الأدبية والإرادة السياسية لاعتماد نموذج جديد ومغاير للتنمية.
إن نموذج التنمية المعتمد حاليا،في أحسن الظروف،لن ولم يسمح إلا بمسبة نمو لا تفوق 3 بالمائة. علما أن النسبة المتوقعة سنة 2012 لن تتجاوز 3 بالمائة، ومن المأمول تحقيق نسبة 4،1 بالمائة سنة 2013، في حين أن المغرب في حاجة ماسة إلى نسبة نمو لا تقل على 7 بالمائة ولو قيد أنملة ولمدة.
حسب الخبراء الاقتصاديين لن يكفي تغيير نموذج التنمية، وإنما وجب أيضا اعتماد سياسات اجتماعية جديدة مندمجة أكثر. وتكفي الإشارة إلى أن الدولة دأبت على استثمار ما يعادل 30 بالمائة من الناتج الداخلي الخام،لكن دون بلوغ النتائج المرجوة، وهذه مفارقة غريبة مازال فهمها مستعصيا، باعتبار أن أوسع فئات الشعب المغربي لا تشعر بهذا المجهود ولا تعاين علاماته على أرض الواقع المعيش، سيما في نطاق التصدي للبطالة وتحسين القدرة الشرائية. وهذا أمر يدعو إلى أكثر من تساؤل،علما أنه حسب الخبراء الاقتصاديين، من المفروض أن ينتج استثمار 30 بالمائة من الناتج الداخلي الخام نسبة نمو لا تقل عن 5 بالمائة، وهي النسبة التي ظلت عسيرة التحقيق منذ مدة.
وإلى حد الآن لم تكشف حكومة عبد الإله ابن كيران عن أجندة واضحة بخصوص إصلاح صندوق المقاصة، واكتفت بالتعبير على أنها تمسك بزمام الأمور و بتسيير شؤون بلاد، وأن أمر مثل هذه القضايا لا يمكن أن تتحقق بين عشية و ضحاها بل الأمر يتطلب مهلة للتفكير من اجل وضع حلول صائبة و معقولة. في حين ظلت المعارضة تشدّد على ضرورة فتح حوار وطني من أجل إصلاح صندوق المقاصة في إشارة منها إلى إشراكها في مثل هذه الاوراش السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية الهامة. ويبدو أن لا الحكومة ولا المعارضة تنتبه لما يقترحه أصحاب الاختصاص رغم الخطورة المرتبطة بهذه الإشكالية.
ففي الوقت الذي أضحى من المفروض التفكير الجدي،دون مزيد من ضياع الوقت، في مساءلة نموذج التنمية المعتمد وما راكمه من سلبيات، يبدو ان حكومتنا لازلت منغمسة في جزئية البحث عن سبل توقيف نزيف صندوق المقاصة،علما أن هذا الصندوق ما هو إلا آلية من الآليات مرتبطة برؤية وتصور ونموذج للتنمية المرغوب فيها.
لقد سبق أن أكد رئيس الحكومة، أن الهدف من الزيادة هو وقف نزيف صندوق المقاصة والذي رصد له في قانون المالية لسنة 2012، 32.5 مليار درهم مقابل 20 مليار، الذي وضعته ميزانية الحكومة السابقة، وبالتالي لم يكن هناك خيار إلا الزيادة في المحروقات لسد النقص الحاصل. آنذاك أقرّ الوزير الأول أن 80 في المائة من مرصودات صندوق المقاصة استهلكت و20 في المائة تكفي بالكاد إلى منتصف شهر يوليوز.
يبدو أن الأمر أضحى يتجاوز قضية إصلاح شامل لصندوق المقاصة في أفق تحويل أمواله إلى المواطنين مباشرة - إي إلى حوالي 3 ملايين ونصف عائلة المستهدفة مما سيمكن من التحكم في صندوق المقاصة - لأن إفلاسه أكد بما لا يدع أي مجال للشك، أن الأمر مرتبط بنموذج التنمية المعتمد وليس بميزانية هذا الصندوق مهما عظمت. كما أن الفترة يبدو مناسبة للتساؤل حول نموذج التنمية المعتمد في ظرف يعيش المغرب حراكا وإصلاحات، ولا يمكن أن تمر دون أدنى أثر، إنها فرصة جد مواتية بالنسبة للحكومة إن هي أدركت جدواها الآنية والاستراتيجية.
ومن المعلوم أن صندق المقاصة شكلت موضوعا لأكثر من دراسة وبحث. إذ سبق لدراسة للمندوبية السامية للتخطيط أن أقرّت بأن استفادة الفقراء السنوية من صندوق المقاصة تصل إلى 222 درهما، مقارنة مع 551 درهما لغير الفقراء، مضيفا أن الفرق بين استفادة الفقراء وغير الفقراء تعمق وانتقل من الضعفين سنة 2001 إلى الضعفين ونصف سنة 2007، وحسب ما جاء في بيانات حول العدالة الاجتماعية بالمغرب : حالة المقاصة والضريبة على القيمة المضافة، أن الفقراء يستفيدون من 112 درهما شهرية من الدعم الذي يقدمه صندوق المقاصة مقارنة مع 235 درهم لغير الفقراء سنة 2001، ويتضح من هذه المعطيات أن هناك فرقا بين استفادة الوسطين الحضري والقروي من هذا الصندوق، إذ إن الوسط الحضري يستفيد أكثر من الوسط القروي.
أما بخصوص دقة الاستهداف، وتوزيع الامتيازات انطلاقا من الدعم، تصل هذه النسبة إلى 96 في المائة لغير الفقراء مقارنة مع 4 في المائة للفقراء خلال سنة 2007.
وجاء في الدراسة التي قام بها خالد السودي، الخبير الإحصائي لدى المندوبية السامية للتخطيط، أن الدعم الذي يؤديه صندوق المقاصة لا يستفيد منه إلا 11.1 في المائة من ضعيفي الدخل، بينما تستفيد الفئات الميسورة منه بنسبة 33 في المائة، فمن أصل كل 100 درهم تصرفها الدولة في إطار دعم المقاصة، لا تذهب منها إلا 4.7 دراهم لتحسين معيشة الفقراء.
واكتشفت الدراسة التي استغرقت 9 أشهر واستعملت فيها آخر المناهج والإحصائيات المعتمدة في قياس مؤشرات العدالة الاجتماعية، أن سياسة الدعم عن طريق صندوق المقاصة لم تتغير بشكل ناجع على مدى السنوات السبع التي شملتها، حيث كانت نسبة استهداف الفقراء من هذا الدعم لا تتعدى10.7 في المائة سنة 2001 لتتحسن بشكل طفيف سنة 2007.
وخلصت النتائج الإحصائية إلى أن توزيع دعم صندوق المقاصة غير عادل بتاتا، ويجانب المقاصد الرئيسية من إنشائه، أي الرفع من القدرة الشرائية للفقراء ومن مستوى عيش الأسر الهشة، ومع ذلك ، تضيف الدراسة، فإنه لولا هذا الصندوق لارتفع مؤشر «جيني» الذي يقيس التفاوتات الاجتماعية من 40.6 نقطة المسجلة حاليا إلى 41.6. أي بفارق نقطة واحدة فقط. وبدون الدعم كان الفقر سيصل إلى 11.3 بالمائة بدل 8.9 بالمائة. وافترضت الدراسة أنه لو وزع الدعم الذي تصرفه الدولة على هذا الصندوق، بشكل متساو على 30 مليون مغربي لكان معدل الفقر قد نزل إلى7 في المائة بدل 8.9 في المائة.
اقترحت دراسة، أنجزها أساتذة جامعيون وباحثون مغاربة، حول إصلاح نظام المقاصة، حلولا وتدابير عملية لمجموعة من الإشكاليات في صندوق المقاصة، خصوصا في الجانب المتعلق بالحماية الاجتماعية للطبقات الوسطى والفقيرة، والتقليص من الفوارق.
وخلصت الدراسة، التي جاءت بعنوان «مشروع المغرب المتضامن»، إلى استنتاجات عدة، أبرزها، تحديد سقف الدعم في نسبة 3 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، وإحداث صندوق خاص بالاستثمار الاجتماعي، وتفعيل مبدأ التضامن الاجتماعي من خلال سن مساهمة عامة للتضامن، مع التأكيد على ضرورة إعادة هيكلة السياسة الاجتماعية، بشكل يتيح الوقاية من مظاهر الهشاشة، وزيادة الاستثمار في القطاع الاجتماعي خدمة للفئات المعوزة.
كل هذه الدراسة تفيد أن بفشل صندوق المقاصة، وإذا كانت عدة جوانب من هذا الفشل مرتبطة بالصندوق في ذاته ضمن نموذج التنمية المعتمد طبعا، فإن أهم جوانب الفشل تظل مرتبطة يفوق الصندوق بكثير، إنه مجال نموذج التنمية المعتمد، وبالتالي وجب الانتباه لعدم التركيز على الشجرة والاهتمام بالغابة.
التعليقات (0)