كمثل حائط إيلاف ما إن يكاد يستقر عليه موضوع حتى يدهمه موضوع آخر..
وما يكاد يرفع المدون يده من على زر أمر النشر حتى يرى مقالته مطوحأ بها من على حائط العرض ليقتصر عرضها على زاوية حائط مدونته ..
كذلك هي مصر ما إن تفرغ من حدث يخطف الأبصار حتى تهرع إلى حديث يشغلها ويشاغلها ..وما إن تبدأ في تناوله إلا وتصحو على حادث يهز البلاد هزاً فتضع فيه جل همها .. وقبل أن يذهب الهم بها يمطر عليها الغيب حوادث تتشتت على وقعها اهتمامات المواطنين..
فهكذا هي مصر ساخنة دائما وحبلى بما تأتي به الأيام من غرائب الأحداث..
ففي مفاجأة غير محسوبة ومدوية0 أصدرت محكمة جنايات جنوب القاهرة قرارها بإحالة أوراق رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى والضابط السابق محسن السكري إلى فضيلة المفتي للوقوف على رأيه بشأنهما من حيث الجناية المنسوبة إليهما والعثقوبة المقررة لها ..
ثم حددت المحكمة جلسة 25/6/2009 للنطق بالحكم في قضية اتهامهما بقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم والتي قتلت في نهاية شهر يوليو الماضي بمسكنها الكائن بأبراج الرمال بمنطقة السفوح بدبي إحدى الإمارات العربية ..
وهي القضية التي شغلت الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج وذلك لتعدد جنسيات أطرافها "عربيأ" ولتنوع شهرة شخصياتها ما بين الفن والتجارة والأعمال والأمن والسلطة..
وما أثارته بقوة عن نفوذ رجال الأعمال داخل دولاب وأروقة السلطة ..
وبين هذا وذاك وقف المواطن المصري ليشهد ويرقب موقف القضاء المصري من "زواج السلطة بالمال" ومدى شرعيته وتأثيره ونظرة القضاء له ..
..وعما إذا كان القضاء سوف" يلثــمه" أما سوف "يثلــمه" ..
وقبل التوغل في الموضوع نوجه عنايتكم إلى أن ما أصدرته محكمة جنايات القاهرة لم يكن حكمأ بل قرارأ تمهيديأ ..
فالنظام الجنائي المصري في حالة القضايا التي يكون الاتهام فيها ذروة عقوبته الإعدام فإنه يستوجب أولاُ أن يكون الحكم بالإعدام بإجماع آراء المحكمة التي تنظر القضية دون استثناء ..
وإذا اتجهت واتفقت عقيدة أعضاء المحكمة على القضاء بالإعدام فإن ذلك يستوجب منها أولاً وقبل إصدار الحكم بالإعدام أن تعرض أوراق القضية على فضيلة مفتي مصر للوقوف على رأيه بشأن التهمة والعقوبة المقررة من منظور الشريعة الإسلامية باعتبار أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ..
وباعتبار أن الحكم بالإعدام يعني سلب إنسان حياته وإزهاق روحه من قبل المجتمع بالقوة ..
فيجب أن يكون ذلك غير بعيد عن الإطار الديني وحتى تكتسب الأحكام شرعيتها الدينية كما اكتسبت شرعيتها القانونية ..
وبنص القانون فإن رأي المفتي رغم وجوب استطلاعه إلا أنه رأي استرشادي غير ملزم للمحكمة ..أي أن المحكمة في هذه الحالة " سيدة قرارها " لها أن تأخذ برأي المفتي أو تطرحه وتمضي في حكمها ..
ورغم أن الاتجاه العام في وسائل الإعلام والنشرات وأحاديث المواطنين تعامل وتداول على أن محكمة الجنايات أصدرت حكماً نهائيا واجب النفاذ بالإعدام وليس قرارأ تمهيديأ بإحالة الأوراق إلى المفتي تمهيدأ لإصدار الحكم النهائي المرجأ إصداره إلى 25/6/2009 أي بعد شهر تقريبأ..
إلا أنه في الفترة الفاصلة بين قرار الإحالة للمفتي الصادر أول أمس وبين اليوم المحدد لإصدار الحكم النهائي بعد شهر تقريبأ يمكن أن تجري في نهر القضية مياه كثيرة..
وربما تنقلب الأحداث رأسا على عقب إما بفعل القدر أو بفعل القدرات..
ففي الأولى ( فعل القدر) فذلك إذا حدث في هذه الفترة ما يفقد دائرة المحكمة التي تنظر هذه القضية أحد أعضائها بوفاته مثلاُ أو بمرض عضال يمنعه من الاستمرار في نظر القضية ..
ففي هذه الحالة تكون هذه المحكمة قد فقدت أهم شروط الحكم بالإعدام ألا وهو إجماع الآراء حيث أن بفقدها أحد أعضائها واستبداله بعضو جديد لم يكن قد اشترك في نظر القضية ومداولاتها فإن القضية بهذا تكون قد فقدت عنصر إجماع الآراء المتفقة على القضاء بالإعدام بما يوجب إعادة القضية للمداولة من جديد وكأنها تنظر لأول مرة ..
وفي الحالة الثانية بخلاف تدخل القدر إذا حدث تدخل "القدرات" سواء طبيعيأ أو عمديأ وذلك ربما يكون بالتأثير على أعضاء المحكمة أو أحدهم لمنعه من مباشرة القضية أو بنقله سواء بترقية أو إعاره أو بندب أو غيره مما يفقد المحكمة في النهاية عناصر إجماعها واجتماعها فينتفي بذلك الشرط الموجب للحكم بالإعدام وتعاد القضية للتداول من جديد ومن بدايتها ..
لهذا السبب سمعنا أن السلطات قد ضربت حصارأ من الحماية والرقابة المشددة على أعضاء المحكمة جميعهم حتى تاريخ النطق بالحكم في 25/6/2009 ..
وفي حال إذ لم يحدث تدخل من القدر أو القدرات أو المفتي وصدر الحكم بإعدام رجل الأعمال طلعت مصطفى وشريكه الضابط السابق محسن السكري فإن ذلك يستلزم أن يتم استبدالهما ملابسهما البيضاء بملابس الإعدام الحمراء وتضرب على كل منهما رقابة شديدة خشية الانتحار قبل تنفيذ الحكم مع معاملة خاصة لهما " متميزة في مجموعها" قررها القانون للمحكوم عليهم بالإعدام تختلف عن تلك المعاملة المقررة للمحكوم عليهم بالسجن
ولا ينفذ الحكم بالإعدام إلا بعد أن يتم نظر الطعن عليه بالنقض من قبل دفاع المتهمين كإجراء أخير للطعن على ذلك الحكم ..
ويجب أن تتخذ إجراءات الطعن بالنقض في خلال ستين يوما من تاريخ صدور الحكم بالإعدام .. ومحكمة النقض بالقاهرة التي ستنظر الطعن المقدم من المحكوم عليه بحسبانها محكمة عليا رئيسه لا فروع لها تنحصر مهمتها فقط في مراقبة مسلك محكمة الجنايات في تناولها للقضية من بداية نظرها وحتى إصدار الحكم فيها وذلك بالوقوف على ما إذا تم مراعاة القاضي ما استوجبه القانون في المحاكمة من عدمه ..
وعما إذا كان استدلاله على أن المتهم بالفعل هو مرتكب هذه الجريمة والمستحق لتلك العقوبه من عدمه وكذلك للوقوف على حيثيات " أسباب" الحكم التي بناء عليها أصدرت المحكمة حكمها بالإعدام وحسبما وقر في يقينها من ثبوت إدانة المتهم ..
وعادة ما يلجأ الدفاع عن المتهم في محاولاته المستميتة الأخيرة لاستنقاذ موكله أمام محكمة النقض باعتبارها باب الرجاء الأخير للمتهم قبل الولوج به إلى حجرة الإعدام والوقوف بين يدي " عشماوي" ليتولى إجراءات شنقه..
أقول عادة ما يلجأ الدفاع إلى محاولات تعييب الحكم الصادر بالإعدام بناء على أسباب ومطاعن حاصلها :
(1) الفساد في الاستدلال بمعنى أن المحكمة التي أصدرت الحكم بالإعدام كانت قد كونت عقيدتها بناء على قراءة خاطئة للأوراق وفهم قاصر للأحداث ونظرة معيبة للوقائع وبالمجمل خطأ في فهم القضية على وجهها الصحيح جعل فهمها واستدلالاها على أن المتهم مدان مشوب بالفساد.
(2) القصور في التسبيب وذلك بمعنى أن الحكم الصادر بالإعدام وباعتباره غاية في الشدة والجسامة في العقوبة إلا أن الأسباب التي انبنى وتأسس عليها هذا الحكم ليست أسبابأ محكمة ولا هي بالكافية للوصول إلى النتيجة التي تكونت بها عقيدة المحكمة .
(3) الخطأ في تطبيق القانون وذلك يعني أن المحكمة لم تنزل صحيح مواد القانون ولم تطبقها تطبيقأ سليمأ على وقائع تلك القضية فانحرف بذلك الحكم عن إطاره القانوني الصحيح .
وفي حال نظرت محكمة النقض الطعن فإنها تنتهي إلى أحد احتمالين :
أولهما : أنها إذا رأت سلامة الحكم وصحته وعدم وجود ما يمكن مؤاخذته عليه فإنها تقضي برفض الطعن ويصبح الأمر هنا متعلقأ فقط بانتظار اتخاذ إجراءات و ميقات تنفيذ حكم الإعدام حيث لم يعد هناك أمام المتهم من سبيل لإيقافه أو إلغائه ..
وثانيهما : وأما إذا ما رأت محكمة النقض عيبأ بالحكم أو مطعنأ فيه يوجب نقضه فإنها تحكم بإلغاء الحكم الصادر بالإعدام وتقرر إعادة القضية لنظرها من جديد ولكن هذه المر ة أمام محكمة جديدة أخرى غير تلك المحكمة التي أصدرت حكمها السابق بالإعدام .
وهنا تنظر المحكمة الجديدة القضية وكأنها لأول مرة تتداول..
وللمحكمة الجديدة أن تقضي بما تنتهي إليه عقيدتها بحكم جديد سواء بالبراءة أو بالسجن ولها أيضا أن تقضي مثل سابقتها بالإعدام شنقأ وحتى الموت وفي هذه الحالة كما سلف يتم الطعن على هذا الحكم بالنقض مرة أخرى فإذا ما وجدت محكمة النقض مطعناً أو عيبأ في الحكم الجديد يستوجب نقضه فإنها تحكم مرة أخرى بإلغائه ولكنها في هذه المرة لا تعيد القضية لمحكمة الجنايات بل تتصدى محكمة النقض بنفسها للقضية وتقضي فيها بحكم فاصل حاسم لا يقبل طعنأ فيه بأي شكل ..
هذا وقد سبق أن قضت محاكم الجنايات ضد أشخاص بأحكام الإعدام وتم إلغاؤها بعد الطعن عليها أمام محكمة النقض وقضي من جديد وبعد محاكمة جديدة ضدهم بالسجن وأحيانا البراءة..
بل إن هناك حالة قضي فيها على متهم بالإعدام مرتين وبعد الطعن عليهما صدر الحكم النهائي والأخير له بالبراءة ..
الحديث جرنا ناحية الإجراءات القانونية لحكم الإعدام الصادر ضد هشام طلعت ومحسن السكري وما كانت هذه غاية المقال لذا سوف نتبعه إن شاء الله بآخر يتناول العلاقة بين رجال المال والأعمال وبين السلطة أو ما يسمى " زواج المال بالسلطة" وما آلت إليه هذه العلاقة خاصة بعد تدخل يد القضاء لخنق هذا الزواج هذه المرة بحبل المشنقة حتى الموت ....
التعليقات (0)