لم يحب الجزائريون في حياتهم بلداً كمثل حبهم لمصر..
ولم يعشق الجزائريون في حياتهم زعيماً عربياً كمثل عشقهم الشديد للزعيم التاريخي جمال عبدالناصر ..
"كانت " مصر بالنسبة للجزائر قدوة ومثلاً وشقيقة كبرى وارتباطا وثيقاً أسال الجزائريون دماءهم على ثرى سيناء دفاعاً عنها في وجه الإجرام الصهيوني كمثل ما أمدتها مصر بالشريان المادي والمعنوي للتحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي الذي دفعت الجزائر من مليوناً ونصف المليون روح من أرواح أبنائها الشهداء لمكافحته والتحرر منه ..
ولم يقدس الشعب الجزائري في تاريخه شيئاً من تاريخه بقدر تقديسه لشهدائه عرفانا منه بصنيعهم وتقديراً منه لتضحياتهم من أجل تحرير تراب الجزائر من الاستعمار ..
وذهب زمان الكفاح بعد أن ولى زمان الاستعمار وبقيت الذكريات .. مصر.. عبدالناصر.. العروبة.. الأمة العربية ..
وجاءت العولمة .. والعالم الكوني .. وصراعات القوى العظمى.. وعاد الاستعمار ولكن بصيغة حديثة ورداء جديد .. استعمار اقتصادي .. استعمار سياسي.. استعمار أمني .. استعمار عن بعد.. وانفرط عقد العروبة الذي لم يستطع مواجهة هذا النوع من الاستعمار كما واجهته الأمة العربية في صورته العسكرية .. وحلت أنظمة جعلت من تكريس الحكم وتثبيت العرش الأهمية الأولى والأولوية القصوى على حساب ترابط الشعوب التاريخي .. فجعلت الأنظمة من دولها(أبعديات) ومقاطعات تنتمي لحماً ودماً ونسباً وصهراً وانتماءً لحكامها وفقط .. فتفككت الشعوب .. وتحللت الروابط بابتعاد الأمة عن بعضها رويداً رويداً وتفكك أجزائها معنوياً .. وحلت الحساسية والمباغضة محل التلاحم والتواصل والانتماء..
من هنا كانت مباراة في لعبة كرة القدم كافية تماماً لإثارة حرب بين البلدين الشقيقين .. حرب بكل معنى الكلمة لم يعد ينقصها سوى السلاح العسكري .. حرب على مستوى الأنظمة إنجرت إليها وهوت فيها الشعوب " التابعة" لأنظمتها ولسياستها ولساستها .. يذهب الفريق الجزائري إلى مصر ليلعب مباراة مع الفريق المصري فيتعرض (الباص) المقل له للرشق بالحجارة .. لتنقلب الدنيا رأساً على عقب .. رغم أن من العرب من يتعرضون ليل نهار للرشق بالرصاص دون أن يتحرك أحد من دنيا العرب قاطبة من محيطها إلى خليجها .. ولا ينوب الضحايا سوى مصمصمة الشفاة وتبادل الاتهامات ودمتم بكل خير !!..
سيارة الفريق الجزائري تعرضت لاعتداء بالرشق بالحجارة وهي في قلب القاهرة .. هجوم واستنكار من الصحافة والإعلام الجزائري ضد الحادث الغير مسئول من جانب المصريين .. مصر ترد بالنفي وتتهم الجزائر باختلاق الواقعة وتلفيقها .. تأتي المباراة في أجواء ساخنة تقترب من الأجواء الحربية ..
المصريون لا يهمهم سوى الفوز في المباراة وليذهب الجزائريون إلى الجحيم ..
الجزائريون يجن جنونهم خاصة بعد فوز الفريق المصري ومعادلة النتيجة مع نظيره وفرض مباراة فاصلة بينهما على أرض محايدة
الجزائريون يعتقدون أنهم تعرضوا لعملية ذبح وإرهاب كبرى لفريقهم وما أحزنهم أكثر شعورهم بكذب الإعلام المصري وتلفيقه لحادث الاعتداء على الفريق الجزائري .. حشد الجزائريون حشودهم للمباراة الفاصلة باعتبارها مباراة حياة أو موت بالنسبة لهمة . لأنها ارتبطت عندهم بالكرامة التي اجترحت في مصر .. وبالكبرياء الجزائري الذي أهين في أرض النيل والعروبة ..
لذا كان فوز الجزائريين بالمباراة الفاصلة بهدف واحد للاشيء بمثابة انتصار يعادل طعم الانتصار العسكري الساحق ..
يعادل طعم لحظة الاستقلال .. وكأن الفريق الجزائري قد رد الاعتبار لشهدائه قبل جماهيره ..
هكذا ربطت الشعوب مصائرها بأقدام الحظ ..
وعلى الجانب الآخر لم يصمت المصريون .. شنوا حملة لا تبقي ولا تذر على الجزائر كلها تاريخاً ..وشعباً .. ونظاماً .. و أفاضت الفضائيات في التجريح والهجوم الذي قابلته حمله كراهية ومطاردة جزائرية على كل ما هو مصري بالجزائر من شركات أو أفراد .. وتوجت المهزلة بمطالبة مصر للجزائر (رسمياً) بالاعتذار وإلا فالمقاطعة ..هكذا !!
.. لم تعتذر الجزائر لشعورها أنها المجني عليها .. وأن مصر تبتزها .. والمصريون مصممون على طلب الاعتذار ..
ولم يخفف من الشحن الشعبي والتعبئة الجماهيرية المصرية ضد الجزائريين سوى فوز الفريق المصري على نظيره الجزائري في كأس الأمم الأفريقية وحصوله على الكأس .. كان ذلك بمثابة انتقام وأخذ بالثأر للمصريين من الجزائريين في واقعة أم درمان ..
وهكذا فإن أشد دول العرب ارتباطاً وتلاحماً وانتماء وتواصلاً وحباً يصل بها الأمر إلى النزول إلى هذا الدرك المهين .. وهذا الصدع الذي أصاب الشعبين الشقيقين في الصميم .. في القلب .. وآه من جراح الشعوب ..إنها من النوع الذي لا يطيب ولا يندمل بسهولة .. .. لم ينتهي الأمر عند هذا الحد.. بل كان ملف المنازعة بكاملة أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) حيث توعد كل من البلدين الآخر بسوء العقاب ومر الجزاء..
وقد أصدرت الفيفا قرارها بنقل مباراتين للفريق المصري خارج بلده إضافة إلى غرامة مالية ضد مصر وهو جزاء يحمل معنى إدانة مصر وثبوت واقعة الاعتداء على الفريق الجزائري ورشقه بالحجارة ..
ولم يكن هذا هو كل شيء .. فربما كان ذلك سيمر مرور الكرام على الشعب المصري بإمكانية " الترويج" إلى تحامل الفيفا ضد مصر أو عدم استماع أو تفهم الفيفا للحجة المصرية .. هكذا سنفهم .. أو هكذا ينتفهم..
لكن جاءت تصريحات أحمد شوبير الذي ألقى بقنبلة على الملأ حين صرح بأن الاعتداء على الفريق الجزائري بالقاهرة كان مدبراً بمعرفة مسئول باتحاد الكرة المصري الذي اجتمع ببعض الجماهير بمقر الاتحاد وخطط ودبر لواقعة مهاجمة سيارة الفريق الجزائري ورشقه بالحجارة أثناء سيره من المطار إلى الفندق ..
التصريحات خطيرة بخطورة قائلها الذي يشغل مناصب عدة منها كونه نائب رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم وعضو مجلس الشعب ومذيع بسلسلة برامج رياضية ورجل أعمال وسياسي وغيره وغيره من الألقاب والوظائف التي صار يحملها ويحتكرها القلائل بينما الملايين الكاسحة لا تجد لها عملاً وتعاني من سم البطالة الناقع ..
أثارت هذه التصريحات صدمة كبيرة في الشارع المصري .. صدمة مروعة ..
فلو كان شوبير صادقاً فماذا كانت تلك الحملة الدعائية الضارية التي شنها الإعلام المصري والفضائيات على الأخص التي كرست جميع برامجها للهجوم على الجزائريين والنيل منهم والتجريح فيهم بقالة أنهم هم المخطئون وهم المعتدون وهم المجرمون ؟!! من الذين كانوا وراء تخريب العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين ؟! وما هو موجه استفادتهم من ذلك؟!
ولو كان شوبير كاذباً .. وأطلق هذا التصريح للنيل من خصمه أو في إطار المعارك التي يخوضها كل يوم حتى طالت كل شيء ولم تترك شيئاً حتى صار هو وخصومة خبراً مستمراً ومتواصلاً في صفحات الحوادث فهل صارت مصر بقضها وقضيضها ..
هل صارت مصر بكل قدرها ووزنها وحجمها مطية لصبية يلهون بها ويتحكمون في مصيرها ويسيرون دفتها بأساليب أشبه بأساليب وثقافة الحواري والعشوائيات ؟! وهل يجوز أن يجعل شخص مسئول بلده كلها كأداة يضرب بها خصومه من أجل مناصب أو معارك تافهة تفاهة من يثيرونها أو يشعلونها ؟!
وأياً كان الأمر .. سواء صحة الرواية الجزائرية .. أو ضعف الرواية المصرية.. أو ابتداعها.. أو خيابة المسئولين عن إثبات ما روجوه .. أو ما ادعوه .. أو ما نفوه ..
في كل حال .. فإننا كما كنا نطالب ..ونلاحق .. ونصر.. ونصمم على أن يعتذر لنا الجزائريون وطالما احتكمنا للاتحاد الدولي (الفيفا) الذي أداننا فإن الشجاعة الأدبية توجب علينا أن نعتذر للجزائر وللشعب الجزائري على ما ارتكبناه من خطأ في حقه ليس برشق سيارة لاعبيه بالحجارة ( فهذا الشغب لا تخلو منه الحياة الكروية في العالم كله) ..
ولكن الاعتذار واجب لما لحق الإحساس الشعبي الجزائري من إهانة لكرامته والتعريض به من قبل شخصيات غير مسئولة لا تدري مدى خطورة ما تقترفه تجاه شعب شقيق وبلد شقيق كان يعتبر مصر بلده الثاني وشقيقه الأكبر والمتواصل معه في كافة مراحل كفاحه ونضاله .. الاعتذار واجب حتى نضمد جراحاً أصابت قلب الشعبين الشقيقين بسبب سياسة لا تعي معنى الرباط التاريخي الذي يجمعهما توحدا فيه برباط الأرض واللغة والعقيدة والهوية والمصير ..
وعلى الجزائريين أيضاً ألا يجعلوا معايير علاقتهم التاريخية بمصر وشعبها مرتبطة بأحداث (خائبة) تافهة لا ترقى أبداً لمستوى تعكير تلك الرابطة التاريخية الوطيدة بين الشعبين الشقيقين الكبيرين .. شعب الجزائر وشعب مصر ..
والاعتذار بين الأخوة والأشقاء لا يقلل أبداً من قدرهم بل يعزز الرابطة الأخوية بينهما ويزيل أدران الخصام ويمسح كل السوءات والسيئات ..
فالجزائر امتداد لمصر وبعد استراتيجي وأمن قومي كمثل ما هي مصر امتداد وبعد استراتيجي وأمن قومي للجزائر ..
وهكذا الأمر بالنسبة لكافة دول العرب الذين يجمعهم الوطن العربي الكبير ..
لذا وبكل شجاعة ..
وعن نفسي وشخصي فإنني أعتذر للجزائر وللشعب الجزائري الكبير الشقيق ..
متمنياً لهذه السحابة السوداء القابعة في سماء دولتينا أن تمر وألا تعود ثانية ....
التعليقات (0)