قالوا "مصر جديدة" ولدت في الخامس والعشرين من يناير الماضي وصدقناهم رغم أن أفراداً قليلين هم من رحلوا وبقيت مصر بشعبها ومؤسساتها ووخصائصها لم تتغير. إدعوا أن النظام السابق كان المسئول الأول والوحيد عن إشعال الفتنة الطائفية ولم نعترض رغم عدم منطقية الادعاء. رددوا بأن التسامح هو سمة العهد الجديد وتمنينا من قلوبنا أن يكونوا محقين. زعموا أن مصالح المسيحيين لم تعد تتعرض في العهد الجديد للهجمات التي كانت تتعرض لها في الماضي ولم نجادلهم، رغم عدم الاتفاق معهم، إحتراماً للشباب النقي الذي شارك بالثورة وضحى بأغلى ما يملك في سبيل الحرية. كلها كلمات وردية أطلقتها جماعات متطرفة بغرض أولاً محاولة تبرئة أنفسها من تهمة إشعال نار الفتنة الطائفية وثانياً محاولة ارتداء ثوب الاعتدال لتحقيق المزيد من المكاسب الشعبية.
لكن التطرف الذي عرفته مصر القديمة مازال يعشش في عقول الكثيرين من المتطرفين الذين يعملون في مختلف مؤسسات وهيئات مصر ويعيشون في مختلف جوانبها وأركانها وأزقتها وشوارعها. هذا هو المؤسف الذي ننعيه اليوم.
لم تتوقف مذابح المسيحيين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، فقد قتل أحد عشر مسيحياً في قرية شارونة بمحافظة المنيا في الحادي والثلاثين من يناير الماضي، ثم قتل القس داود بطرس في مدينة أسيوط في الثاني والعشرين من فبراير الجاري. ولأن شيئاً لم يتغير في مصر ما بعد مبارك فقد صرح المسئولون بأن الحادث الأول كان ثأرياً بينما جاء الثاني بغرض السرقة. وعلى صعيد الهجمات التي تتعرض لها الكنائس فقد قامت جماعات متطرفة منذ الإنهيار الأمني الشهير الذي وقع في الثامن والعشرين من يناير بهجمات عدة على كنائس في منطقة سيناء، كما قام متطرفون بمحاولات اعتداء على كنائس في صعيد مصر. كانت كل هذه الجرائم التي ارتكبت في الأسابيع الأربعة الماضية دليلاً أن التسامح المزعوم هو مجرد شعارات يرفعها البعض للترويج لأدوار يريدون أن يلعبوها في المرحلة الجديدة.
رغم كل هذه الحوادث لم يشء الأقباط الشكوى رغبة منهم في إعطاء فرصة للثورة التي كانوا أطلقوا شرارتها الأولى في العمرانية في نوفمبر الماضي، وضحوا بدمائهم أجلها أملاً في حياة أفضل وحريات أوسع وأحترام أكبر لحقوق الإنسان وتسامح أعمق معهم. اختفت صرخات الأقباط وكتموها في صدورهم لأنهم صدّقوا وأمنوا بالثورة وظنوا أنها ستنطلق بهم إلى عالم رحب. ولكن ما حدث بالأمس من اعتداء وحشي لقوات الجيش على أحد الأديرة أطلق صرخات الأقباط من الصدور من جديد. انطلقت الصرخات ربما لأن الآلام صارت غير محتملة، وربما خوفاً على ثورة الحرية، وربما خوفاً من المستقبل الذي لم يعد مبشراً كما انتظروه وتوقعوه.
قامت القوات المسلحة المصرية باعتداء غريب على دير الأنبا بيشوي في وادي النظرون، المقر التعبدي للبابا شنوده، وهاجمت فيه رهباناً وعمالاً عزل كانت جريمتهم القيام ببناء سور حماية للدير. هاجمت القوات المسلحة الدير بالمدرعات وأستخدمت الذخيرة الحية ضد الرهبان والعمال ما أسفر عن إصابة عدد منهم بجروح خطيرة وعاهات مستديمة. لست هنا بصدد الحديث عن صحة بناء السور من عدمه. ربما أخطأ الرهبان في بناء السور من دون الحصول على تصريح رغم وجاهة حجتهم في البناء التي تمثلت في حاجتهم للسور بغرض حماية الدير بعد هروب رجال الأمن الذين كانوا يقومون بأعمال الحراسة وعدم عودتهم. ما أنا بصدده هنا التساؤل عن مغزى استخدام القوات المسلحة معيارين في التعامل مع الأمور. معيار المدرعات والذخيرة الحية للأقباط ومعيار الصمت والاكتفاء بالمشاهدة لغيرهم.
لم تتدخل القوات المسلحة عملياً في أي من الأحداث التي جرت في مصر طوال الشهر الماضي. وقعت أحداث عنف وقتل وتخريب وسرقة ونهب واعتداء على هيبة الدولة على مرأى ومسمع من رجال قوات المسلحة، ولكنها لم تتدخل في أي منها. لم تطلق رصاصة واحدة لكبح جماح المخربين الذين جالوا يروّعون الآمنين في الفترة التي خلت فيها شوراع مدن مصر الكبرى من أي تواجد أمني. ولم تقم بمنع جرائم تحطيم وإحراق الممتكلات العامة والخاصة وتهريب المساجين من سجونهم ومن البلاد. كما لم تقم قوات الجيش بأي عمل لوقف عدوان البعض على المعتصمين في ميدان التحرير والذي استخدمت فيه الذخيرة الحية وقنابل المولوتوف. لم تقم القوات المسلحة بأي عمل حتى أن البعض اتهم الجيش باتخاذ موقف المتفرج حينما كان يجب عليه التدخل احتراماً لمصر وكرامتها وعزتها.
المدهش أن القوات المسلحة أصدرت بياناً ادّعت فيه أنها لم تعتد على الدير وأنها تحترم حرية وقدسية أماكن العبادة للمصريين. وذكرت أن كل ما قامت به هو التعامل مع بعض الأسوار التي بنيت على الطريق وعلى أراض مملوكة للدولة وبدون سند قانوني. لست أجد في بيان الجيش إلا سماً مدسوساً في العسل. فلو كانت القوات المسلحة تحترم دور العبادة لما استخدمت عتادها العسكري لحل مشكلة من دون إنذار مسبق ولما قامت بإطلاق صواريخ الـ "أر بي جى" على الدير ولما قامت بإطلاق الذخيرة الحية على الرهبان والعمال. ولو كانت القوات المسلحة تحترم بحق دور العبادة لتفاهمت مع الرهبان لمعرفة سبب بناء السور أو لقامت بتوبيخهم ومطالبتهم بهدم ما تم بناؤه. لا أريد اتهام القوات المسلحة بالتطرف، ولكن من المؤكد أن القوات المسلحة أتخذت في الأيام الأخيرة قرارات يمكن وصفها بأنها مجامِلة لجماعة الإخوان المسلمين المتطرفة التي أفرخت الجماعات الإرهابية التي تريد إفراغ مصر من مسيحييها.
لست أظن أن القوات المسلحة ستتعامل بنفس الأسلوب مع مسجد من المساجد غير القانونية التي تملأ مصر. لماذا إذن التفرقة؟ يجب أن يتعامل الجيش مع المصريين بمعيار واحد وألا يفرق بين مصري ومصري. نحن لا نريد لقادة مصر الجديدة أن يسلكوا كما سلك رجال النظام الفائت. لا نريد أن يسقط رجال الجيش في ما سقطت فيه قوات أمن النظام السابق التي كان يديرها الحبيب العادلي. لقد اهتم النظام السابق وجهازه الامني بحماية هيبة الدولة فقط عندما تعلق الامر ببناء كنائس من غير تراخيص، وكنا نجد جحافل قوات أمن النظام تقوم بالهجوم على المباني الكنسية إذا تم إصلاح دورة مياة. فعلت قوات العادلي ذلك في الوقت الذي كان رجال النظام ينهبون فيه مصر ويهدرون هيبتها.
لم يفصح الجيش عن سبب الهجوم المستفز الذي قام به على دير الأنبا بيشوي، ولست أعتقد بأن الغرض منه كان حماية أراضي الدولة كما ذكر البيان الرسمي. ربما كان الغرض من الهجوم توجيه رسالة للبابا شنوده الذي يتعبد بصفة أسبوعية بالدير. وربما كان الهجوم عقاباً له على تصريحه، غير الموفق، خلال أيام الأولى الانفلات الأمني، الذي أيد فيه الرئيس السابق ظناً منه أن مبارك كان قادراً على وقف أعمال التخريب والسلب.
إن وضع القوات المسلحة قضية سور دير الأنبا بيشوي على رأس أولوياتها في الوقت الذي تمتنع فيه عن مواجهة مخالفات أكثر خطورة يعيد مصر إلى عهد مبارك/العادلي السيء. وفضلاً عن أن الهجوم على الدير يعد وصمة عار على جبين من قاموا به، فأنه أيضاً ينقض الأسس التي قامت عليها ثورة يناير. لن يتقبل الأقباط الهجوم بصمت وهدوء هذه المرة لأن الجيش يتعامل بمعيارين ولأن سقف الطموحات الذي وضعته الثورة أصبح عالياً. لقد اندلعت بعض المظاهرات القبطية احتجاجاً على ما يتعرض له الأقباط من قبل المتطرفين والقوات المسلحة. اندلعت التظاهرات القبطية لأن الأمال والأحلام التي عقدناها على مصر الجديدة بدأت تتسرب ولأن سماء الحرية التي تطلعنا لها بدأت تتلبد بالغيوم. لن تعني الثورة شيئاً للأقباط ما لم ينته التطرف الشعبي والرسمي. ونرجو أن تعي القوات المسلحة الدور الخطير الملقى على عاتقها في هذه المرحلة الحرجة والذي يحتم عليها استخدام معيار واحد في التعامل مع المصريين بكافة اتجاهاتهم ودياناتهم.
التعليقات (0)