أمام مجموعة مخطوطات عربية لابن رشد وابن سينا وابن خلدون معروضة, لمدة شهر, في واجهة المكتبة البلدية لمدينة تولوز في فرنسا, رشقني شاب في السنة الأولى في كلية العلوم السياسية, حينما رأى في وجهي ملامح عربية, بسيل من الأسئلة اذكر منها:
ـ بما تشعر وأنت ترى هذه المخطوطات؟
ـ هل تستطيع قراءتها؟
ـ هل اللغة العربية القديمة باقية على حالها ودون تغير منذ ذلك الزمن؟
ـ هل هي مفهومة عند عرب المشرق وعرب المغرب وعند كافة المسلمين؟
ـ هل تفتخر بأصلك العربي؟
ـ هل ترى في الأفق القريب نهضة عربية؟
ـ لماذا توقف العرب عن أن يكونوا عربا كأجدادهم, وتوقفوا عن إضافة أي جديد مفيد للحضارة الإنسانية؟
لقد كنت سعيدا عند سماعي هذه الأسئلة من شاب يعلم انه كان للعرب مساهمات في الحضارة الإنسانية. ولكن ما أحزنني ونزل دفعة واحدة بلحظة الاعتزاز التي أحسستها لدرجة الصفر, هو سؤاله الأخير, وطريقة طرحه.
ليس للسائل ذنب في ذلك, وإن افترض فيه سوء النية, انه يقرر واقعا, ولذلك لم أطلب منه الاعتذار, ولم أفكر بملاحقته على الطريقة العربية بشتى الوسائل, ليس منها القانونية طبعا. ولم أصفه بأنه من أعداء العرب والمتآمرين عليهم.
ما ألمني, مرة أخرى, أن ليس عندي جواب مقنع للرد. ولغة التهجم والنعت بالأوصاف الشائنة , والتصنيفات الجاهزة, في كل مرة لا نستطيع فيها الرد, والهذر, حتى ولو جاء بأسلوب هادئ ,وتكرار المكرر دون ملل, والإطناب في القول دون قول شيء, أساليب لا يفهمها "الأعاجم". يريدون ردا يدخل العقل عن طريق الإقناع بأساليب علمية وحضارية.
لقد شغلني السؤال كثيرا وأخذت أفكر فيما أضافه العرب حديثا لأبرهن لذلك الشاب بأنهم مازالوا مبدعين. و لكن يجب أن يكون الرد مؤسسا وبالأدلة القاطعة على الإبداع, وفي علم السياسة تحديدا, موضوع اختصاص السائل.
الواقع أن لدي العرب حاليا مفكرين سياسيين لم يستطيعوا فقط استيعاب هذا العلم, وإنما تحدثوا فيه وكتبوا ودرّسوا حتى في الجامعات الأوربية والأمريكية والأسماء كثيرة. وهذا لا يستطيع إنكاره الطالب المذكور.
كما أن الكثير من المفكرين السياسيين الذين يعيشون في بلدانهم العربية ليسوا أقل كفاءة وعلما من زملائهم المغتربين. وإنما ينقصهم المنبر الحر. والوسائل الحرة. والمناخ السياسي الذي يسمح لهم بالتعبير الحر. لئن كانت غالبيتهم قد سكتت طويلا, أو أسكتت, تحت التهديد والملاحقة عن القول والكتابة, فأنها لم تقبل مطلقا ــ ما عدا من يسمون ب (مثقفي ) السلطة ــ ما تطرحه تلك السلطة من فكر ضحل أحادى الاتجاه عفا عليه الزمن, وفُرض كمنهاج يبدأ مع الطفل من مرحلة الحضانة إلى نهاية الدراسة الجامعية. يُحاسب عسيرا كل خارج عليه. منهج يقدس الحاكم و يعتبره غير مسؤول عن أعماله. وانه أكبر من الوطن. وسيد مطلق للشعب. وليس خادما له. يعليه على الدستور والقوانين. و لا يرضى له أن يكون تحتها وخاضعا لإحكامها. وأية كتابة أو تفكير بغير ذلك يعرض الكاتب أو المفكر لتهمة تحقير رئيس الدولة. أو الإساءة للدولة, وتعريض أمنها للخطر, وللعمالة للعدو. وهذا بطبيعة الحال لا يدرك, كله, الطالب السائل.
والواقع أيضا, انه بعد المتغيرات الدولية التي أعقبت انهيار المعسكر الاشتراكي, و تكريس القطب الواحد, إلى الآن وعلى المدى المنظور على الأقل, وقيام أنظمة حكم جديدة في مشارق الأرض ومغاربها, وتسابق الدول لتبني الديمقراطية كنظام حكم, عن اقتناع بها أو مسايرة للتوجهات الحالية, أخذت السلطات الحاكمة في بعض الدول العربية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من امتيازات تمتعت بها عقودا طويلة. فبدأت تتحدث عن الخيار الديمقراطي. (فقد أعلن احد حكام هذه المنطقة بأنه إذا لم نحلق بأنفسنا سيُحلق لنا).
ومنه جاءت لحظة المساهمات العربية في تطوير الفكر السياسي ــ ولأننا نريد الرد على الطالب السائل نحصر هذا الرد دائما في مجال تخصصه, السياسة. فلا نذكر له المساهمات في المجالات الأخرى ــ ليست بطبيعة الحال مساهمات الشعوب. فهذه مغلوبة على أمرها لا تشارك ولا تساهم حتى في إدارة أمورها الخاصة جدا. فما بالكم بالمساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية. المساهمة المقصودة هي أفعال وأقوال الناطقين, باسم تلك الشعوب من المحيط إلى الخليج. المفكرون عنها ولها.
ومنه أيضا جاءت الابتكارات في تطوير المفاهيم الديمقراطية. وتقديم أنماط مبتكرة حصرا, وإضافات عليها, لم يسبقهم إليها أحد منذ عهد افلاطون والى يومنا هذا.
مساهمات في بناء الحضارة الإنسانية تأتي من حكام عرب على قدرة خارقة رغم أن غالبيتهم لم تكمل التعليم الثانوي, حتى لا نقول الابتدائي. وهذا بحد ذاته دليل على الإبداع. وعلى أن الإبداع لا يأتي بالضرورة من العلم والتعلم, فقد يأتي بالفطرة, أو بالوراثة, والموهبة , كالشعر, ومثاله شعراء الجاهلية.
وللسائل نسوق, وبدون كبير عناء, من الإبداع ما عاش منه طويلا ــ تاركين ما سقط , ليس بسبب ضحالته, لا قدر الله, وإنما بسبب التآمر الاستعماري, الغربي, الصهيوني, الدولي, وحتى الداخلي العميل , وتضافر جهود كل أعداء العرب والمسلمين ضده ــ ومنه:
ـ ألا يحسب لهم توصل احدهم, في خيمة, لصياغة نظرية عالمية ثالثة , لا شرقية ولا غربية, تحل كل المشاكل والتناقضات الحالية والمستقبلية بصلاحيتها لكل الأقطار, العربية منها والأجنبية . تحل مسألة الأحزاب والتحزب (من تحزب خان). ومسألة الديمقراطية (النظام المهزلة), وتبشر بعصر الجماهير. فسرت التاريخ وحللته واختصرته, وسفهت منه ما يحب تسفيهه؟. الم يدعو لها ما يزيد على 30عاما, وترجمت لكل لغات العالم ليقال اللهم اشهد قد بلّغت. ومع ذلك لم يأخذ بها لا العرب ولا الغرب ولا غيرهم. وحتى لم يعترف لصاحبها ب ( براءة الاختراع)؟. (إجحاف مقصود).
ــ الم يدخلوا على القانون الدستوري تصنيفا جديدا لأنظمة الدول, جدير باهتمام فقهاء هذا العلم تناوله وتكريسه ؟ حيث كان التصنيف إلى الآن يقتصر على دول ملكية, (تدخل فيها الأمارات والمشيخات), وأخرى جمهورية, فأصبح هناك أنظمة جمهوـ ملكية (جمهورية ـ ملكية) ,كما يحلو لكتابنا وصفها. والإبداع فيه أن يبقى النظام جمهوريا ويجري تغيير بسيط في قمته حيث يصبح رئيس الدولة وريث والده وخليفته غير المنازع بشرعيته. ويبايعه الشعب. (الكثير من الورثة ينتظرون بأدب وصبر انتقال المورث للعالم الأخر. الشيء الذي لم تكن يعرفه الغرب دائما, حين كان ينقض الابن على أبيه والأخ على أخيه قبل أن يتدخل عزرائيل للحسم سلميا؟ ).
ــ آلا يعد إخراج الدساتير عن جمودها المعروف, بإحداث آليات يمكن معها تغيير أية مادة فيها, مها تكن خطيرة, بدقائق معدودة, كان تدخله مع التصفيق مادة تقول برئاسة رئيس الجمهورية لجمهوريته مدى الحياة؟. وتكريس أخرى غير ملائمة بجعلها عصية على التغيير. ابتكار عربي صرف يوفر الوقت والتعقيدات التي قد تأخذ شهورا, وأحيانا سنوات لتعديل دستوري؟. ويلغي آراء وجدل الفقهاء الدستوريين حول مرونة وجمود الدساتير, وقدسيتها وسموها ؟.
ــ الم يبرهنوا, بالممارسة الفعلية, على أن حالة الطوارئ التي تعتبر في كل دساتير العالم وقوانينه مؤقتة وزائلة بزوال الطارئ الموضوعة لتنظيمه واستيعابه, قابلة لان تكون هي الدائمة وما عداها هو الطارئ ؟. الم يثبتوا لفقهاء القانون الدستوري, الغربيين منهم والشرقيين, بالممارسة أيضا, أن تخليد الأحكام العرفية في الدولة لا يلحق ضررا بمصالح تلك الدولة وبمواطنيها, وبمفاهيم الديمقراطية؟.
ــ الم يبرهنوا, بالدليل القاطع, على أن الحريات العامة والفردية بشتى إشكالها, وحقوق الإنسان, والتي تسابقت دساتير العالم لتكريسها في نصوصها, وتعددت النظريات والاجتهادات الفقهية بشأنها, ليست إلا مجرد لغو و ترف لفظي, لا يسبب تعطيلها أي ضرر في بناء السلطة وديمومتها؟. وهل تبقى عندها مقولة الثورة الفرنسية لعام 1789 صالحة حين تقرر أن الدولة التي لا تكون فيها حقوق الإنسان مصانة لا يمكنها الادعاء بأن لديها دستور؟. ( ورغم ذلك فحقوق الإنسان غير مصانة والادعاء قائم, وبالفم الملآن, بوجود الدساتير, ولا يجادل بذلك عربي أو أعجمي).
ــ الم يسمّوا الدول بأسماء رؤسائها دون أن يتعارض ذلك مع الدساتير. فتصبح الجمهورية الليبية ليبيا القذافي ..( ونسوق دائما مثال القذافي لأن جسمه لبّيس تعلق عليه كل موبقات الحكام العرب دون خوف من عاقبة). وهم في ذلك أكثر إبداعا من لويس الرابع عشر الذي كان يقول الدولة أنا " l’Etat c’est moi" والذي يعني أن الدولة قد تقلصت لتصبح هو نفسه, أو حسب تفسير أخر, انه يجسد الدولة. ولكن لم يرق إدعاؤه إلى تسمية الدولة كلها باسمه. كان يقول فرنسا لويس الرابع عشر.
ــ الم يتحول العديد منهم بمرونة منقطعة النظير , ودون أي تغيير في أنظمتهم, من مستبدين امضوا في السلطة عقودا عديدة, إلى دعاة ديمقراطية, تحت الضغوط الأمريكية بشكل خاص, فأعلنوا الخيار الديمقراطي؟, ونزل بعضهم إلى الشوارع, ولأول مرة دون ربطات عنق, ولكن دون تخلى عن صبغ الشعر, في حملات انتخابية على غرار تلك التي تجري في بلدان الديمقراطيات الغربية, ووعود اقلها الوعد باجتثاث الفساد ؟. مرشحين أنفسهم لخلافة أنفسهم, ليأتوا هذه المرة رؤساء من صناديق الاقتراع , وبنسب اقل من 99,99 % التي كانوا لا يتنازلون عنها. أليس في هذا تعزيز عربي للديمقراطية وتقوية لها. لان انتخاب الرئيس بفارق أصوات قليلة عن منافسه معيب لهذه الديمقراطية. ويُظهر أن الإرادة الشعبية ليست معه بأكملها, وبالتالي فهو غير مفوض لحكم البلاد. كما يظهر اختلال الوحدة الوطنية. فإما الكل أو لا شيء. حتى لا يسقط من الهيبة بعض الهيبة. (وليشرب الفرنسيون البحر. فمحرر بلدهم ديغول وقع في التعادل في ترشيحه ضد ميتران في الجولة الأولى. وفاز أخيرا بنسبة لا تزيد على 52 %. ).
ــ وفي مجال الأكثرية والأقلية وتنظيم خضوع الأقلية للأكثرية ومعايير ذلك, الموضوع الذي يشغل فقهاء القانون الدستوري , الم ينهوا هذه المسألة بطريقة جذرية؟, بان يعتبروا الأقلية معارضة هدامة تعمل على عرقلة نمو البلد في كل المجالات. كونها طابور خامس للقوى الخارجية المتربصة به. ومن هنا يجب قمعها أن لم تندمج بالأكثرية أو على الأقل تصبح تابعا لها ــ ويدخل في القمع التصفيات الجسدية والسجن المؤبد والتهجيرــ وبالتالي تستقيم الدولة وتستقر. أليس الهدف الرئيسي من قيام الدول الاستقرار؟.
وأخيرا, لا نريد الإطالة على الطالب السائل في تعداد إبداعات الأنظمة السياسية العربية ومساهماتها الحضارية في القرن الماضي وبداية هذا القرن, لأنه سيرى ما تعلمه, إلى الآن, في سنته الأولى في كلية العلوم السياسية, غير منفتح بما فيه الكفاية على تجارب الآخرين. و لم يأخذ في حسبانه بعد ما سبق وذكرناه. وله وحده أن يقتنع بإضافات حكامنا على الديمقراطية والفكر السياسي أو لا يقتنع. فالأمر متروك له. ونعتذر منه لغياب التحليل والتعليل. فليس لدنيا الأسس الفلسفية والقانونية, و لا الأبعاد الفكرية العميقة لتلك الإضافات المقتصر فهمها وشرحها على مثقفي السلطة, والمستعصي كليا على غيرهم.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)