! إصلاح القلوب
إذاً تحتاج الأمور لإصلاح القلوب، وإصلاح القلوب هو أول جهاد يجاهد فيه العبد المطلوب، والتوفيق من الله عزوجل لهذا العبد إذا كان محبوباً أن يوفقه لأول خطوة فى الطريق فيصلح قلبه .. ويجعل عمله خالصاً لوجهه الكريم، وحتى يكون من القوم الذين يقول فيهم الله لحبيبه ومصطفاه:
] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [28 الكهف]
لا يريدون دنيا ولا خلقاً ولا رياءاً ولا سمعة ولا يريدون لا أجراً ولا جنَّة ولا ثواباً وإنما يريدون وجه الله، ولا يبغون من العمل إلا رضاه جلَّ فى علاه، وهذه هى المرتبة العليا ... وهى التى إذا وقف الإنسان على عتبتها المقدسة يكفيه قليل العمل، اسمعوا لقول النبى صل الله عليه وسلم فى شأن سيدنا أبى ذر رضى الله عنه وكان من عُبَّاد الصحابة:
{ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلى المَسِيْحِ عِيْسَى بنِ مَرْيَمَ، إلى بِرِّهِ وصِدْقِهِ وجِدِّهِ، فَلْيَنْظُرْ إلى أَبي ذرٍّ }[1]
شبيه عيسى بن مريم فى زهده وورعه وتقواه وعبادته لله عزوجل ، وقال له صل الله عليه وسلم
{ أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ }[2]
وهذه هى المحكات التى يجاهد الصالحون والصالحات فيها المريدين ليوقفوهم على بداية السير والإنطلاق إلى فتح ربِّ العالمين عزرجل ، فمن استمع وجاهد فى هذا المجال شاهد من فتح الله ومن عطاءات الله ومن إكرامات الله ما لا عدَّ له ولا حدَّ له ويدخل فى قول الله: ] لَهُمْ مَّا يَشَاؤُوْنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِيْنَ.[ [34 الزمر]ويدخل فى كرم الله فى قوله: ] لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ[[35ق] أى لهم زيادة عن النعيم المقيم فى جنَّة القرب والتكريم عند العزيز الحكيم عزوجل .
إذاً الأصل الأول الذى عليه المعول لمن أراد إصلاح أحواله فى دنياه، ورفعة شأنه عند الله، وأن يكون من أهل الدرجات العلى، وأن يحظى بمقامات الفتح كأن يفتح الله عليه أى باب من أبواب قوله تعالى فى محكم كتابه:
] واتقوا الله ويعلمكم الله [ [282 البقرة]
] فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [ [65الكهف]
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[108 يوسف]
] . يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[ [269 البقرة]
كل هذه المنح الإلهية والعطايا الربانية المبثوثة فى الآيات القرآنية بابها ولبُّها ومفتاحها وسرها إصلاح القلب والفؤاد، وإصلاح النوايا التى يتزود منها المرء عند قيامه بأى عمل أو قول سواء للخلق أو للحق، فقد يكون العمل فى ظاهره عمل يسير لكنه فى باطنه له عند الله عزوجل أجرٌ كبيرٌ وله فى المقامات العالية سرٌّ خطير.
إذا جاهد السالك والمريد لتصحيح النيَّة - ولا يتم تصحيح النيَّة إلا بعد صفاء الطوية وتطهير القلب بالكلية لربِّ البرية ووضع الإخلاص فى كل عمل وفى كل قول وفى كل حركة وفى كل سكنة لمولاه عزوجل - فتصبح أعماله وأقواله حتى ما كان ظاهره عملٌ دنيوى فله فيها أجر وثواب وقربة عند الله عزوجل ، فالنيَّة قبل أى عمل! كأن أنوى قبل الطعام مثلاً أن أتقوى به على طاعة الله أو يكون فيه شفاءٌ أو أتعرف فيه وأنظر فيه إلى عناية الله بى ورعايتها لى مثل قوله فى (24-32عبس):
] فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32
فإذا نوى الإنسان قبل طعامه فيكون وقت تناول الطعام عبادة لله عزوجل ، وإذا فكَّر ليتعرف على نعمة الله عليه كما ذكرنا فى الطعام كان وقت الطعام فتحٌ عليه من علوم الإلهام لأنه سيفكر فى الآية .. وتأتيه العناية ويرزقه الله عزوجل بأسرار من هذه الآية ..، فيرى أسرار الله فى الطعام وهو يتناول هذا الطعام.
حتى النوم، فلو نام الإنسان حتى ولو ليستجم فإنه ينوى بذلك التأهب والاستعداد للمداومة على طاعة الله، لأن الله يعلم أنى لا أستطيع الدوام على حال واحد فدوام الحال لنا من المحال، فتستجم الأعضاء حتى تستعيد النشاط فى طاعة الله وعبادة الله، فيكون النوم هنا عبادة وهذا هو الذى يقول فيه سيدنا رسول الله:
{ مَنْ نَامَ عَلَى تَسْبِيحٍ أَوْ تَكْبِيرٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ تَحْمِيدٍ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَامَ عَلَى غَفْلَةٍ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَودُوا أَنْفُسَكُمْ الذكْرَ عِنْدَ الْنَّوْمِ }[3]
فالنيَّة عليها المدار! فلو نام وهو ينوى القيام لحزبه من القرآن أو الذكر أو الصلاة فغلبه النوم أو التعب فلم يقم بما نوى، حصًّل الأجر بالنيَّة وانعقاد الطوية:
{مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَينه حَتَّى يصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ}[4]
لو صفَّى الإنسان القلب والجَنان فإن الله عزوجل سيدبر له النوايا فى صفاء الطوايا فى كل حركة وسكنة، لأننا عاجزون عن تدبير هذه النوايا، لكن إذا صُفى القلب لله فإن الله يتولاه ويقذف فيه النوايا الطيبة التى ترفعه عند مولاه (70الأنفال):
( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم )الأنفال
لو وجد القلوب فيها صفاءٌ ونقاءٌ يقذف فيها من إلهامه، وهذا هو أول الإلهام النافع وأول الإلهام الرافع، بعض الناس يظن أن الإلهام هو أن يقذف الله فى قلبه علوماً تُسكر السامعين!! هذا الإلهام يبحث عنه أهل السمعةو الشهرة وحبِّ الظهور، الذين يحبُّون أن يسمعوا كلمات الإستحسان من الناس والثناء، لكن الإلهام الذى يبحث عنه العارفون هو الإلهام النافع الرافع وهو أن يُلهم الله الإنسان بالنوايا التى تحسن درجاته وأجره عند مولاهU، أو يلهمه بالإلهام الدافع الذى يدفع النفس ويصدَّها عندما تحاول أن تحركه لمعصية أو لشهوة ظاهرة أو خفيَّة:
] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ].[ [الأعراف]
مبصرون للحقيقة التى يريدونها والتى يريدها الله عزوجل منهم، فالنوايا ليست بأن يجلس الإنسان يعدُّها أو يستحضرها، ولكن النوايا تحتاج إلى صفاء القلب، ولا يكون فيه رغبة إلا فى رضا مولاه، يُكَسِّر صنم الشهرة فى نفسه، ويكسِّر صنم الحظ فى طبعه، ويكسِّر أصنام الآمال الكاسدة والفانية مثل تمنى العلو فى الأرض أو الشأن عند الخلق ... فيمحو كل ذلك ويعتمد على عكاز الصدق فهو الذى يوصله إلى مراد الله عزوجل مع الصادقين فى كل أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم:
]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين[ [119التوبة]
http://www.fawzyabuzeid.com/news_d.php?id=175
التعليقات (0)