إصلاح القضاء بين إكراهات الواقع وصراعات الموقع
مخطط الإصلاح يمكن أن يتم عبر مراحل قد يمتد أمدها إلى سنوات
سبق أن أثيرت حول هذا الموضوع، منذ الإعلان عنه، ضجة إعلامية ونقاشات ساخنة من طرف كل المهتمين المنتمين إلى مختلف الهيئات القانونية والحقوقية، وكذا الأحزاب السياسية، وبصفة عامة كل منظمات وفعاليات المجتمع المدني بمختلف شرائحه ومواقعه، حيث تعددت الأفكار وتضاربت وتباينت الآراء واختلفت.
فعند انطلاق المرحلة التشاورية التي أعلن عنها السيد وزير العدل، قام البعض على إثر ذلك بتشخيص الوضعية فقط من خلال رصده لبعض مكامن الخلل ووقوفه على بعض الإشكالات التي يعاني منها الجهازان القضائي والإداري بالمغرب دون طرح لأية حلول لتلك الإشكاليات.
في حين قام البعض الآخر باقتراح الحلول التي يرى أنها السبيل إلى إصلاح القضاء من قبيل بناء المحاكم في المستوى المطلوب، والاهتمام بالموارد البشرية القضائية والإدارية، وتطبيق القوانين تطبيقا سليما، وتغيير بعض النصوص القانونية لعدم مسايرتها للواقع المعيش، بالإضافة إلى الاستقلال الفعلي للقضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
بينما نجد أن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك وقام بتوجيه انتقادات جذرية، وطالب تبعا لذلك بإصلاح دستوري يمس المؤسسات المشرفة على القضاء، مثل اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء واختصاصات وزير العدل.
وبعد انتهاء المرحلة التشاورية والإحاطة من طرف كل المتدخلين ببعض الصعوبات والإكراهات، التي كانت ولا تزال تشكل عائقا في طريق التقويم والتحديث والتي من خلالها تم تشخيص الوضعية واقتراح بعض الحلول الناجعة، وصل المشروع الإصلاحي الآن إلى المرحلة ما قبل الأخيرة، ألا وهي المرحلة التحضيرية التي تم فيها تحديد المجالات الستة ذات الأولوية في إصلاح القضاء، والتي أعلن عنها جلالة الملك في خطابه التاريخي الموجه إلى الشعب المغربي بمناسبة الذكرى الـ56 لثورة الملك والشعب والذي أعلن فيه عن انطلاق برنامج إصلاح القضاء، حيث نستطيع القول بهذه المناسبة إن مضمون الخطاب يهدف إلى ثورة إصلاحية شاملة لا محيد عنها.
فالخطاب الملكي بهذا الخصوص يعتبر منعطفا هاما في تاريخ المغرب وخطوة جبارة ترمي إلى تقويض العبث والاستهتار، وتكريس دولة الحق والقانون، حيث كانت صيغته بمثابة السيف القاطع والحد الفاصل بين الجد واللعب، ومؤشرا جديدا على بناء أسس العدالة وتوطيد دعائم الديمقراطية وحماية الحريات العامة ببلادنا.
وقد اتضح من الخطاب الملكي الحرص الكبير لجلالته على إصلاح العدالة التي هي أساس الأمن والاستقرار وتماسك النسيج الاجتماعي والتطور الاقتصادي لهذا الوطن الذي لا سبيل إلى نهوضه من كبوته وتمسكه ببواعث صحوته سوى السير في النهج الصحيح والقويم ألا وهو نهج العدالة.
كما تتضح، من خلال صيغة الخطاب، الرغبة الملكية الأكيدة في النهوض بهذا القطاع والسمو به وجعله قادرا على مسايرة المتطلبات المعاصرة ومواكبة المتغيرات العالمية والقوانين والمعاهدات الدولية الجديدة، وبالتالي مواجهة رياح العولمة السلبية.
وبهذه المناسبة، أشير إلى أنني، كباقي المهتمين، تتبعت بدوري هذا الموضوع الحساس والشائك، المتميز بطبيعته الخاصة، والذي تناوله قبلي كل المشخصين والمقترحين والمنتقدين المشار إليهم بجميع انتماءاتهم الفكرية ومواقعهم الحزبية والسياسية والاجتماعية والمهنية عبر كل منابر ووسائل الإعلام الوطنية، حيث بدا لي أن هناك عدة أشياء أعتبرها هامة وجديرة بالعناية لم يتم تناولها أو التطرق إليها، الشيء الذي دفعني إلى التفكير في كتابة هذا المقال، فأردت بدوري أن أقترح بعض الآراء والأفكار التي قد تسهم، ولو بقسط متواضع، في تنوير بعض الجوانب الغامضة من هذا الموضوع، وبالتالي أقتراح بعض الحلول لها والتي أتمنى أن تكون مفيدة.
وقبل الخوض في ذلك، أشير بداية إلى أنه لا يغيب عن أذهاننا أن القضاء مؤسسة لها ميكانيزمات لا يمكن أن تشتغل بدونها، وأنه جسم لا يعمل لوحده بل له أطراف تساعده وتعمل إلى جانبه، وهي المتمثلة في الإدارة المركزية وكل مساعدي القضاء، مثل كتابة الضبط التي تعتبر المساعد الأول والأقدم والأهم بدون منازع والتي تشكل اليد اليمنى لهذا الجسم، إذ على يدها تولد كل الملفات الرائجة بالمحاكم وعلى يدها تموت.
لهذا، فإذا أردنا الحديث عن تقويم القضاء وجب علينا، بكل شفافية ووضوح، أن نتحدث عن كل الأطراف المعنية المشار إليها.
إن ما يزكي هذا الطرح هو شكايات المواطنين والمتقاضين الموجهة إلى وزارة العدل، والتي يصب جلها في مصب التظلم من بعض الأحكام، وأيضا من البطء في بعض الإجراءات القضائية والإدارية، كما تتمحور حول معضلة إجراءات التبليغ والتنفيذ، حيث يلاحظ أن تلك الشكايات تكون موجهة ضد بعض مساعدي القضاء مثل المحامين والمفوضين القضائيين والخبراء وغيرهم.
لهذا، أرى أن برنامج الإصلاح يجب أن يبدأ من القمة وليس من القاعدة، حيث يتعين على الإدارة المركزية، بهذه المناسبة، أن تعمل على إعادة ترتيب أوراقها ومراجعة سياستها، وإعادة النظر في منظومتها الهيكلية وآلياتها التي تشتغل بها. وللتذكير، فقد أكد جلالة الملك في خطابه مرتين أن مسؤولية تفعيل الإصلاح الجوهري تبقى ملقاة، بالدرجة الأولى وبصفة خاصة، على عاتق وزارة العدل، لأن جلالته يعلم علم اليقين بأن أهل مكة أدرى بشعابها.
ولا شك في أن الإدارة المركزية تعمل الآن جاهدة على تجاوز الامتحان العسير والمحك الحقيقي المتمثل في كيفية التغلب على كل الصعوبات، والتمكن من حسن تفعيل وتدبير الإصلاح الجوهري، مع العلم بأنه ليس من السهل القيام بالإصلاح بين عشية وضحاها لهذا الجهاز المثقل بتركة المشاكل الموروثة عن الماضي، حيث يبدو أن تنفيذ مخطط الإصلاح يمكن أن يتم عبر مراحل قد يمتد أمدها إلى سنوات.
فلا يجب أن نحلم كثيرا ونعتقد أن مشروع الإصلاح سيأتي عبارة عن وصفة طبية تكون كفيلة بالقضاء على كل الأمراض التي يعاني منها هذا الجسم، أو نعتقد أن هذا المشروع سيأتي في شكل عصا سحرية تلقف كل ما صنعته العقليات البيروقراطية السابقة من أخطاء، وتكون كفيلة بالإصلاح الجذري والشامل بمجرد التلويح بها من طرف السيد وزير العدل.
التعليقات (0)