مواضيع اليوم

إشكال الهُوية في السودان

 

 

" و لو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم " (119) هود
صدق الله العظيم



بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم بقلم السفير/ د. خالد محمد فرح

هذا كتاب يتناول إشكال الهوية في السودان في مختلف مستوياتها وتجلياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية ، وعلاقة جدلية الهوية بالحراك والتفاعل الاجتماعي ، وخصوصاً بالصراع السياسي بين مكونات المجتمع السوداني المتعدد الأعراق والأديان والثقافات والقبائل واللغات من ناحية ، والتنازع حول تحديد الوجهة الحضارية العامة للسودان ، او مشخصات الهوية القومية لهذا البلد ككيان واحد من ناحية أخرى.
ولئن كان هذا الموضوع قد أثار لغطاً واسعاً ، وأسال مداداً كثيراً داخل السودان وخارجه – وما يزال - من أقلام مثقفين وباحثين وساسة ومبدعين وأكاديميين عديدين من سودانيين وأجانب على حدٍ سواء ، وخصوصاً منذ أن احتدم هذا الصراع ، واستعر أواره بصورة غير مسبوقة في تاريخ البلاد مع تجدد الحرب في جنوب السودان بين حركة التمرد هناك والحكومة المركزية في منتصف العام 1983 م ، بعد أن كانت تلك الحرب قد توقفت لعشر سنوات فقط قبل ذلك ،وعلى ذات الخلفية من الصراع والخلاف الوثيق الصلة بالهوية ، إلاّ أننا نعتقد أنّ هذا الكتاب قد تناول هذا الموضوع بقدر كبير وملحوظ من الأمانة والتجرد والموضوعية في عرض سائر المباحث والأفكار ووجهات النظر التي ظلت تطرحها و تعبر عنها مجموعات وأفراد من ذوي خلفيات فكرية وأدبية وإيديولوجية وسياسية وجهوية متباينة ، فضلاً عن أن استعراض الكاتب لتلك الرؤى والأفكار يبدو كامل التمثيل تقريباً لمجمل ألون الطيف السوداني بمختلف مكوناته. كما أنّ المؤلف لم يتعامل في تقديرنا بأية تحيزات أو أفكار وقناعات مسبقة ، وإنما استعرض جميع تلك الأفكار والرؤى المطروحة بمنهج توليفي: تاريخي واستقصائي ومقارن ، متيحاً المجال للقارئ لكي يقابل فيما بين تلك المذاهب والأفكار ، ومن ثم يستنتج هو بنفسه بعد ذلك.
ولا شك أن مفهوم الهوية في حد ذاته ، هو مفهوم شائك ومعقد غاية التعقيد. ذلك بأنه يتعلق بصفة أساسية بتصور الأنا الفردية ، أو النحن الجماعية عن نفسه أو عن أنفسهم على التوالي ،تصوراً يستصحب في سياقه بالضرورة جملة من الآراء والاعتقادات عن الأصول والبدايات ، أي التاريخ ، والتاريخ هو مسرح الإيديولوجيا بامتياز كما هو معروف. وعندما نقول الإيديولوجيا فإنما نعني بذلك كلما تستتبعه من الانحيازات ، والأحكام المسبقة ، وأهواء النفوس ورغباتها ،والتصورات والمواقف والمصالح الذاتية ،ولو استناداً إلى مجرد أوهام وليست حقائق موضوعية وثابتة بالضرورة.
ولكن يبقى مفهوم الهوية مع ذلك عاملاً أساسياً لجدلية العلاقات البشرية تكاملاً وتقارباً ووئاماً ، أو تباعداً وتنافراً وخصاما.
ويميل سائر العلماء والباحثين الذين تعرضوا لموضوع الهوية هذا ، إلى اعتبار أن الهوية ليست بنية مغلقة وسكونية جامدة ،وإنما هي عبارة عن عملية ديناميكية في حالة صيرورة وتحور وتأثر وتحول شبه دائم ،وبدرجات متفاوتة تقل او تكثر بطبيعة الحال ، وطالما كان هناك احتكاك وتفاعل بين البشر طوعاً أو كرها.
وفي أحيان كثيرة تكون بعض أهم متعلقات الهوية مسقطة على الكيان أو المجموعة المعنية من خارجها إسقاطا يكون له من الشيوع والغلبة ما يجعل تلك المجموعة لا تملك ألا أن تتبناه وتتماهى معه بل وتوشك أن تحتكره لنفسها. فعلى سبيل المثال لم يكن اسم " إفريقيا " والصفة " إفريقي " عندما استخدما في البداية ينصرف أصلاً إلا إلى جزء يسير من قارة إفريقيا الحالية وهو " تونس " الحالية بالتحديد ،ولم تكن شعوب ما يسمى بإفريقيا جنوب الصحراء على علم به ولا بمدلوله ولا حتى بكونه يمثل عنوانا لهويتها حتى قبل قرون قليلة من الآن. ولكن الواقع الماثل هو أن " ايديلوجيا " بعض غلاة الزنوجة Negritude وحركة الجامعة الإفريقية Pan-Africanism تكاد تنكر الآن ومنذ فترة خلت على أهل شمال أفريقيا صفة الإفريقية ، مع أنها إنما أطلقت عليهم هم ابتداء كما تقدم.
وكذلك ، على الرغم من أن شعوب غرب أوروبا المعاصرة يعتقدون أنهم هم ورثة الحضارة الإغريقية – الرومانية ،وأنهم يتماهون معها باعتبار أنها تمثل جذورهم الحضارية والثقافية ، إلا أنهم – كما يقال – كأنهم لا يعترفون بتمام " أوروبية وغربية " اليونانيين المعاصرين ، الذين يعتبرونهم في مخيالهم الجمعي أقرب إلى " الشرقيين " ، بسبب مذهبهم الأرثوذكسي ،وبسبب نمط حياتهم المختلف نوعاً ما ، وخصوصاً بسبب وقوعهم تحت تأثير الإمبراطورية العثمانية لبضعة قرون في السابق ، ولكن ليس هو ذلك رأي اليونانيين المعاصرين عن هويتهم الوطنية بالضرورة.
ومهما قيل من أن الهوية الجماعية ، وهي موضوع هذا الكتاب بالتحديد ، قد تأخذ أشكالاً متعددة ، فهي قد تكون على سبيل المثال: هوية مهنية ، أو طبقية ، أو طائفية ، أو إيديولوجية ، او وطنية ، أو حضارية الخ ، إلا أن هنالك ما يحمل على الاعتقاد بالفعل بأن العوامل الإثنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسسية هي التي عليها المعوّل ، وهي التي تكون متقدمة دائماً على الإيديولوجيات السياسية المعاصرة كعناصر أساسية في تشكيل هويات الشعوب والدول ،ولا عزاء لماركس ولا لدعوته الشهيرة " يا عمال العالم اتحدوا " ، لأنهم ببساطة لن يتحدوا ، لأنهم بشر وليسوا آلات صماء في أحد المصانع بإحدى " الكيمونات " ، " ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم ". وتلك العناصر الأساسية والمؤثرة في تشكيل الهويات هي نفسها بمعنى آخر ، قوام العصبيات التي هي أساس الملك ووقود الصراع السياسي بحسب رأي عبد الرحمن بن خلدون.
على أن خطاب العولمة المعاصرة يبدو في نظر البعض متناقضا تناقضا بيناً حيال مفهوم الهوية وتجلياتها. فهو يقارب هذا المفهوم في نظرهم مقاربة انتهازية ومخاتلة تراعي فقط تحقيق مصلحة مطلقي هذا الخطاب ومروجيه. فبينما يزعم خطاب العولمة أنه يدعو إلى بلورة هوية عالمية وكونية وإنسانية واحدة ، حتّمها تحول العالم إلى قرية كونية واحدة بزعمهم ، إلا أن من الملاحظ أن هذه العولمة هي عولمة تسير في اتجاه واحد فقط. فهي عولمة يحرص دعاتها أشد الحرص على المحافظة على هوياتهم الوطنية ،وعلى مقومات السيادة الوطنية لبلدانهم ، في نفس الوقت الذي يسعون فيه بصورة انتقائية إلى تحطيم الهويات الوطنية ومقومات السيادة في البلدان الأخرى التي لا تذهب مذهبهم أو ترى رأيهم ، وذلك عبر تشجيع هويات أخرى على مستويات أدنى تحت مسميات من قبيل: حقوق الأقليات ، والسكان الأصليين ،والقبائل ، والكيانات الجهوية الخ ، وصولاً لتحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية في الأساس ، و عملا بالشعار القديم المتجدد " فرق تسد ". فكأن خطاب العولمة يريد أن يوحد ويمزق في آن واحد وذاك هو التناقض بعينه.
على أن هذه الملاحظة ينبغي ألا تصرفنا عن الاعتراف بأن قيام دولة القانون والإنصاف والمساواة والعدالة المكفولة لكافة مواطني الدولة المعنية ، بغض النظر عن هوياتهم الفردية ، أو خلفياتهم العرقية والدينية واللغوية والثقافية ، يجب ألا يُضحى بها بأي حال من الأحوال بذريعة الحفاظ على كيان الأمة أو السيادة الوطنية. فالمساواة والعدالة الحقيقية بين المواطنين في الحقوق والواجبات والتنمية والخدمات ، هما السياج والضامن الحقيقي لإعلاء الشعور بالانتماء للوطن الواحد ، وبالتالي هما صمام الأمان بالنسبة للسيادة الوطنية نفسها.
ولذلك فقد رأينا أن الكاتب قد عمد محقاً إلى إبراز تلك البنود الأساسية والمفتاحية من اتفاقية السلام الشامل بالسودان ، الموقعة في نيروبي في التاسع من شهر يناير 2005 م ، والتي نصّت بكل صراحة ووضوح على ضرورة الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية والعرقية للمجتمع السوداني ، كما نصت أيضاً على ضرورة أن تكون المواطَنة وحدها هي معيار ومناط نيل الحقوق وأداء الواجبات من دون أي تمييز بسبب العرق ، أوالدين ، او اللون ، او الجهة ، وذاك لعمري هو السبيل الوحيد لتجنب الصراع ، ولإقرار السلام والوئام بين أبناء الوطن الواحد.


د.خالد محمد فرح الفحل
سفير جمهورية السودان ، داكار ، السنغال
أغسطس 2009 م.

المقدمة
لقد ظل السودان علي مر العصور و التاريخ أرضا واسعة شاسعة تقطنها أخلاط من الأعراق المتنوعة و المتعددة الثقافات و الحضارات. و لم تكتمل عملية الاندماج والتمازج بدرجة كافية لخلق حافز وواقع يحسم هوية هذا البلد. فمنذ إعلان الدولة الوطنية الحديثة في العام 1956م مر السودان باضطرابات و أزمات سياسية و اجتماعية عديدة تتصاعد و تيرتها مع تعقيدات الأوضاع الداخلية و ارتباطاتها الإقليمية و العالمية. و لعل ابرز الظواهر السياسية و الاجتماعية و أجدرها بالنظر و التأمل هي ظاهرة النزاع المسلح بين الشمال و الجنوب و بين الأطراف و المركز، و التي ظلت تصاحب مسيرته و تسمه بالدولة المضطربة. يرد المراقبون و الباحثون الأوضاع في السودان لعدة أسباب يلتقي معظمها في طبيعة المجتمع السوداني العرقية و الثقافية و إمكانياته الاقتصادية، بيد أن ما يمكن وصفه بالمأزق الثقافي التاريخي و الظرف الموضوعي الذي تكونت فيه الدولة يشكل احد أسباب النزاع الرئيسية و هو وضع لم تتمكن النخب السياسية التي تعاقب علي إدارة الدولة من النظر فيه و مواجهته بفاعلية. و زاد الأمر تعقيدا تعثر الحكومات المتعاقبة في انجاز القدر المطلوب من التنمية الشاملة و تأسيس نظام يلبي طموحات الغالبية من أهل البلاد. و في ظل هذه المعطيات برز الصراع ألاثني والجهوي و الثقافي و تجلي في الحرب الأهلية القائمة بين الشمال و الجنوب و انعكس بشكل مباشر علي قضية هوية الدولة و جعل الاستقطاب واضحا بين طرفي النزاع حول هوية البلاد، عربية أم افريقية الأمر الذي عكس صورة سالبة عن المجتمع و الدولة معا علي الصعيد الخارجي، حيث ينظر إليه علي اعتبار أن الشمال عربي مسلم و الجنوب أفريقي مسيحي، فلا شك أن هذا التعميم يعطي قراءة مغلوطة لدينامية الواقع الاجتماعي و السياسي ولمحركات الصراع و طبيعته. مع مجافاة هذه الصورة للواقع إلا انه لا يمكن إنكار التعاطف العام لشمال السودان سياسيا و ثقافيا مع العالم العربي، و شعور المواطن في الجزء الجنوبي للبلاد بانتماء اكبر نحو أفريقيا. إن اختزال النزاع السوداني باعتبار انه مشكلة من مشاكل الأقليات فيه إلغاء لعناصر هامة في هذا الصراع بين الشمال و الجنوب، فالتحليل الموضوعي للتركيبة السكانية و النظر إلي الفئات التي انخرطت في هذا النزاع سواء كانت جماعات عرقية أم جهوية، يجعل من هذا النزاع تناحرا حول الهوية في بلد شاسع متعدد الاثنيات و الثقافات.
إن حصيلة هذا النزاع أسهمت سلبا في صياغة العقل الجمعي السوداني وفق معادلة تقوم علي أن الشمال يعبر عن نفسه بصانع الاستقلال و باعث الدولة الوطنية الحديثة و بذلك يضع نفسه في إطار استعلائي. هذه النظرة أدت إلي رفض الطلب الجنوبي الخاص بالحكم الفدرالي عشية الاستقلال الأمر الذي أدي إلي انهيار أولي قنوات الاتصال بين الشمال و الجنوب و تسبب في انهيار سقف الثقة و عزز دور العقل الجنوبي الذي توقفت عقارب ساعته الفكرية عند تجارة الرقيق. فانهيار الثقة بين أبناء الوطن الواحد و فشل النخب السياسية في صياغة جسور الاتصال و التواصل أدي إلي تفكك المجتمعات المحلية و نزوح الآلاف من السكان إلي غير أماكن تواجدهم الطبيعي مما خلق لهم هوية جديدة داخلية. هددت النسيج الاجتماعي، و الوحدة الوطنية ووجود السودان نفسه.
إن الاقتراب من قضايا النزاع في السودان يعكس بجلاء أن قضية الهوية الوطنية تشكل المحور الفكري و الايدولوجي في الصراع القائم بين الشمال و الجنوب بينما تمثل قضايا قسمة السلطة و الثروة القضايا الموضوعية في هذا النزاع.
لقد ظلت الدولة في السودان تعاني ضعفا نسبيا نتيجة لما خلفته الحرب من آثار سالبة أحدثت اختلالات كبيرة علي المستويات كافة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية أدت لعدم القدرة علي استغلال الموارد المتاحة و خلقت حالة من عدم الاستقرار السياسي نتج عنها تغيرات مستمرة في أشكال و نظم الحكم. مما شكل ظاهرة فريدة في الإقليم تطرح عدة أسئلة حول طبيعة الصراع و أسبابه و غاياته، و هل للتركيبة الاجتماعية والثقافية و التعدد الاثني في السودان دور في هذا الصراع و اثر ذلك كله علي الهوية الوطنية و علي مستقبل السودان ووحدة أراضيه.

العوامـل الجغرافيـة والتاريخيـة للنـزاع

السودان أو بلاد السود هو الاسم الذي أطلقه المؤرخون والجغرافيون العرب منذ القرون الوسطى على المنطقة التي تمتد على حزام السافنا و المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر و المحيط الهندي شرقا، وتشمل الصومال،إثيوبيا،اريتريا في الشرق إلى السنغال غربا، وجمهورية السودان هي الدولة الوحيدة التي احتفظت بهذا الاسم التاريخي .

يقــع السودان بين دائرتي عرض (4 – 22) شمال خط الاستواء وخطي طول (22 – 38) تحيط بها تسعة دول منها دولتان عربيتان هما جمهورية مصر العربية والجماهيرية الليبية وسبعة دول افريقية هي تشاد،إفريقيا الوسطى، الكونغو الديمقراطية (زائير)، أوغندا، كينيا، إثيوبيا واريتريا . يمثل موقع السودان الجغرافي عاملا هاما من عوامل التكوين، فالسودان يقع بين مصر بجوها الصحراوي واعتمادها الكامل على النيل وأوغندا ومناخها الاستوائي كثير المطر، كما أنها تقع بين المرتفعات الاثيوبية والاريترية الشاهقة والسهل الافريقي الممتد من تشاد إلى السنغال. أدى هذا الموقع الاستراتيجي الوسيط لأن يكون السودان ملتقى للعديد من موجات الهجرة من داخل القارة الأفريقية و خارجها مما جعل عدداً من الكتاب يطلق عليه (افريقيا ألمصغرة) ويعتبر السودان منطقة تماس واتصال جغرافي وحضاري، بل هو دائرة تفاعل كبرى بين شعوب وقبائل القارة الافريقية. كما أن السودان يتميز بخصائص القطب المركزي الجاذب لشعوب القارة السمراء إذ تلتقي السلالات السودانية الغربية مع الأجناس الحامية والسلالات العربية . ففي شمال السودان كما في منطقة شمال افريقيا يقطن بشكل غالب السكان المنحدرون من أصول عربية أما الجنوب المداري فيقطنه السكان المنحدرون من أصول زنجية. ويعتقد علماء الانثربولوجيا

(علم الإنسان) أن ما يزيد عن مائة لهجة مختلفة يتم استعمالها للتخاطب في مختلف أنحاء السودان. كما أن هناك ما يربو على الخمسين مجموعة عرقية تنقسم إلى أكثر من ستمائة مجموعة صغيرة. ويرى بعض علماء الأجناس أن خمسة من الأجناس المعروفة وهي البشمن،المنغول،القوقاز،الزنوج والأقزام عاشت في أفريقيا خلال تاريخها الطويل. و يري البعض أن أربعة من هذه الأجناس على الأقل قد سكنت بعض أجزاء السودان في وقت من الأوقات، فقد تعرض السودان بحكم موقعه عبر تاريخه الطويل لموجة من الهجرات .

يقدر عدد السكان في السودان بحوالي 39 مليون نسمة تقريبا حسب تعداد العام 2008م يقيم معظمهم في المناطق الريفية. وتبلغ مساحته 2.5 مليون كلم مربع حيث تحتل المرتبة العاشرة بين بلدان العالم الأكبر مساحة . يقع السودان بأكملها في المنطقة الحارة ويحتل الجزء الأوسط والأكبر من حوض نهر النيل إذ يبلغ طول النيل وروافده الرئيسية داخل السودان ما يزيد عن 2258 كيلو متر من حدود السودان الجنوبية وحتى حدوده مع مصر شمالا، حيث يلتقي النيل الأزرق القادم من مرتفعات الحبشة بالنيل الأبيض المتدفق من بحيرة فيكتوريا في أوغندا في العاصمة القومية الخرطوم يشكل في منظر يعكس تلاقي الحضارات والسلالات البشرية العربية والافريقية والتي تمثل خليطا يكون الشخصية السودانية ذات الخصائص المتفردة .

يتدرج الطقس في السودان طبقا لخطوط العرض ويتراوح مستوى هطول الأمطار من الصفر شمالا إلى 1200 ملم في العام جنوبا في مناطق السافنا الغنية. عند خط العرض 4 شمال إلى الانعدام التام في الصحراء النوبية وعند خط 22 شمالا في المنطقة الاستوائية.

السودان بموقعه الاستراتيجي وغنى موارده وثرواته الطبيعية وتعدد أجناسه جعله أحد أهم محاور التنافس الاستعماري القديم والحديث وقبلة للطامعين.

يعتبر المكون الجغرافي أهم المكونات التي أسهمت في تشكيل الشخصية السودانية بكل خصائصها المتفردة. كما أسهم بشكل أو بآخر في تكريس عوامل النزاع بين مكوناته وذلك لضعف سيطرة الحكومة المركزية على حــدوده الواســعة المترامية الأطراف أو التكيف مع بيئته وتضاريسه المختلفة لا سيمــا في جنوبه ذي المناخ الاستوائي الذي تنمو فيه الأشجار والحشائش بكثافة وارتفاعات عالية تعيق السيطرة على حركات التمرد والحركات الانفصالية، فضلا عن الامتدادات السكانية للقبائل التي تقطن في حدود التماس مع دول الجوار والتي تشكل غطاء جيدا لنشاطاتها المعادية.

يشغل جنوب السودان نحو 700 ألف كيلومتر مربع من مساحة السودان أي ما يعادل 28 % من المساحة الكلية للبلاد، وتمتد حدوده لألفي كلم. من الناحية التاريخية فقد كان جنوب السودان جزءا من السودان بعد أن افتتحه الخديوي اسماعيل عام 1867 ويعتبر صمويل بيكر أول حاكم عينه الخديوي على المنطقة التي حملت اسم مديرية خط الاستواء ثم تلاه كل من رؤوف بك فتشارلز جوردون فأمين باشا الذي عمل على مقاومة أطماع البلجيك من الجنوب الغربي والتصدي لمحاولات المهديين في ضم الجنوب إلى السودان في عهد الخليفة عبد الله . وقد نجح الخليفة عبد الله في السيطرة على قسم كبير من الجنوب الأمر الذي أدى إلى تقليص مساحته كثيرا حتى وصل كتشنر وسيطر البريطانيين مجددا على المنطقة التي حملت اسم جنوب السودان والتي صارت جزءا من جمهورية السودان الحالية .

ينقسم جنوب السودان من الناحية الإدارية إلى عشرة ولايات هي أعالي النيل،جونقلي،الوحدة وهذه الولايات الثلاث كانت تسمى سابقا باقليم أعالي النيل وكذلك ولايات البحيرات،واراب،شمال بحر الغزال وغرب بحر الغزال وتشكل هذه الولايات ما يعرف بإقليم بحر الغزال. أما الولايات الثلاث الأخرى فهي غرب الاستوائية وبحر الجبل وشرق الاستوائية.

ويعتبر جنوب الســودان هو ذلك الجزء الواقع جنوب خط 10 شمالا ويجمع كثير من المراقبين للنزاع في السودان بأن المشكلة التي تواجهه مشكلة معقدة ترجع لأسباب طبيعية تتعلق بجغرافية القطر نفسه وتكوينه البشري من جهة ثانية وكذلك لأسباب تاريخية مهمة منها السياسية الانفصالية التي اتبعتها بريطانيا قبل الاستقلال، وأسباب سياسية معاصرة على رأسها الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات الوطنية المتعاقبة والنخب السياسية. فالسودان نظرا لموقعه كجسر تواصل بين أفريقيا والشرق الأوسط يعتبر من أكثر بلاد افريقيا تنوعا في المناخ والثقافة والأعراق. ومعلوم أن هذه الاختلافات الطبيعية والثقافية موجودة في جميع أقاليمه وأجزائه المختلفة، لكنها أقل حدة في الأقاليم الشمالية بسبب انتشار الإسلام واللغة العربية بين سكانه، بينما تلاحظ الاختلافات أكثر وضوحا في الأقاليم الجنوبية التي تغلب عليها الوثنية والديانات الروحانية المحلية و اللهجات المتعددة بين ساكنيه، الأمر الذي يعكس انطباعا مبسطا وصورة سالبة مفادها أن الشمال عربي مسلم والجنوب افريقي مسيحي .

يبدو ان هذه الطريقة العرقية في التعبير عن الفروق القائمة بين شمال السودان وجنوبه إن صلحت لإعطاء فكرة سريعة عامة عن طبيعة الوضع في السودان، إلا أنها تنطوي على كثير من التعميمات والفروض التي لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل وسليم. كما أن هذا الوصف يعرض صورة مشوهة لواقع السودان، يستنتج منها انه ليس ثمة ما يجمع بين أطرافه. و هذه الصورة مجافية للواقع إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة أن الاتجاه العام لشمال السودان سياسيا وثقافيا يميل للارتباط بالشرق الأوسط فيما يشعر المواطن في الجزء الجنوبي بانتماء أكبر نحو افريقيا . فإذا نظرنا إلى مفهوم العروبة التي يتصف بها السودان الشمالي والأفريقية التي يتصف بها الجنوب والشمال معا وعن طبيعة الصلة بينهما فإن عروبة سكان السودان الشمالي ليست صفة عنصرية تجمع بين أفراد جنس معين من البشر، بقدر ماهي رابطة ثقافية لغوية تجمع بين من يسكنون تلك النواحي. كما أن الافرقانية أيضا هي رابطة جغرافية سياسية تجمع بين سكان المنطقة على اختلاف أجناسهم وألوانهم و كنانتهم. فالعروبة والأفريقية يمتزجان تماما في الأقاليم الشمالية يصعب التميز بينهما حتى من الناحية النظرية بيد أن الاختلافات السياسية التي تطورت إلى نزاعات مسلحة أسهمت في تعميق الخلافات بين العناصر الزنجية والعناصر التي تدعي انها من أصول عربية إلى نزاعات حول الهوية، و التي يرجع كثير من المراقبين للشأن السوداني جذورها إلى السياسات الاستعمارية البريطانية في السودان. و تدفع ذلك النوع من النزاع في مناطق التماس بين الجنوب و الشمال لاسيما في جنوب كردفان و جنوب النيل الزرق، و دارفور

اعتمدت الإدارة البريطانية سياسة متعمدة لإغلاق الجنوب وفصله عن بقية أجزاء القطر الأخرى، إذ قامت بسن قوانين عرفت بقوانين المناطق المقفولة لجنوب السودان ومنطقة جبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق. وقد شمل التطبيق ابعاد الموظفين السودانيين والمصريين من الجنوب واقصاء التجار العرب والمسلمين واستبدالهم باليوناين (الإغريق) وغيرهم من الجاليات الشامية، وكذلك منع تعليم اللغة العربية أو استخدامها في الدوائر الرسمية واستبدالها باللغة الانجليزية كلغة رسمية في جنوب السودان مع تشجيع اللغات المحلية. إضافة إلى ذلك منعت السياسة البريطـانية ارتداء اللباس العربي التقليدي المعــروف بـ (الجلابية) وأصبح من الواجب على كل مواطن سوداني يرغب في السفر إلى الجنوب الحصول على إذن رسمي . بمعنى آخر أصبح الجنوب يعامل كبلد مستقل بالنسبة للمواطنين السودانيين القادمين إليه من الشمال. وكانت الإدارة البريطانية قد سبقت تلك السياسات بسياسة أخرى تمثلت في منح حق احتكار التعليم في الجنوب للارساليات المسيحية، حيث قسم الجنوب إلى اقطاعيات منحت كل كنيسة من الكنائس الغربية منطقة محددة في الجنوب وأصبحت المسيحية الديانة الرسمية واللغة الانجليزية لغة التخاطب بين الصفوة في المجتمع الجنوبي.

النتيجة الكلية لهذه السياسات أخذ الجنوب يتطور في اتجاه معاكس للشمال العربي والإسلامي . وهذا التوصيف رغم أهميته إلا أن هناك أسبابا أبعد ساعدت كذلك في اضعاف الثقة بين الشمال والجنوب، ذلك أن الصراع بين القبائل العربية مع جيرانها الجنوبية سبق حقبة الاستعمار البريطاني فقد شهد هذا العصر تصعيدا كامنا منذ قيام محمد علي باشا باحتلال السودان عام 1821 والذي كان من بين أهداف احتلاله للسودان هو جلب المال و الرجال لدعم حكمه في مصر وكانت غارات الاسترقاق معهودة من قبل، بيد أن دخول الدولة الحديثة بامكانياتها المهولة طرفا في هذه التجارة أدى إلى خلق وضع جديد، حيث كان لدخول الأسلحة النارية دور هام في التصعيد غير المسبوق لهذه التجارة. وقد نتج من كل هذا تعرض المجتمعات التقليدية في الجنوب لكوارث هددت وجودها وشكلت الوعي الجمعي لسكان الجنوب تجاه العداء للعروبة والإسلام باعتبارهما مصدر للخطر الجديد الماحق. ومما لا جدال فيه فإن عهود الرق والاستعباد خلقت شعورا كثيفا من الحقد والكراهية وعدم الثقة في نفوس كثير من الجنوبيين كانت مدخلا سهلا للدعاية الاستعمارية المغرضة في تشويه التاريخ وغرس بذور الفرقة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد. تلك الأسباب البعيدة أما العوامل المباشرة في اشعال فتيل النزاع بين الشمال والجنوب فإنها ترتكز حول تعامل النخبة السودانية في الشمال مع هذا الإرث السيئ من عدم الثقة والتوجهات السياسية التي وضعها الاستعمار التي وصلت إلى درجة أن شملت القرارات الإدارية البريطانية إلحاق جنوب السودان بشرق إفريقيا. وفشلت في تلك الخطة لأن الجنوب لم يحقق قدرا من الاعتماد على الذات، وكان يحق له الاستقلال التام أو الانضمام الي دول شرق أفريقيا. فكان قرار الإدارة البريطانية دمج الجنوب مع الشمال في مؤتمر جوبا المنعقد سنة 1947 والذي قبلت فيه القيادات الجنوبية الاندماج مع السودان الموحد لدى استقلاله. و لكن مالبث أن بدأ التمرد تمد الانفصال منذ اليوم الأول للاستقلال بعدما رفض الشمال فكرة الفدرالية.

تداخلت عدة أسباب و معطيات أدت إلى اشتعال الحرب الأهلية في دورتها الثانية الفترة من (83-2005) في السودان بشكل مباشر وغير مباشر تمثلت في القصور الذي صاحب تنفيذ بعض بنود اتفاقية أديس أبابا خاصة المتعلقة بالمسائل الأمنية إذ لم يتم استيعاب كل جنود حركة التمرد في الجيش الوطني خلال الفترة من 72 – 1982 باستثناء مائتين وسبعين جنديا، فضلا عن تجاهل لوائح القبول بالكلية الحربية واستيعاب 30% من الجنوبيين إذ لم يتم استيعاب أكثر من 5 % من الجنوبيين كما أن اتفاقية المصالحة الوطنية التي تم التوصل إليها مع الجبهة الوطنية (التي كانت مكونة اساسا من الاحزاب الشمالية التقليدية) في العام 1977 نصت على بنود تتعارض مع اتفاقية أديس أبابا من بينها :-

- قيام ثلاثة أقاليم في الجنوب بدلا عن اقليم واحد الذي نصت عليه التفاقية.
- إعادة النظر بالترتيبات الأمنية المتعلقة باتفاقية أديس أبابا.
- تعيين رؤساء الأقاليم بدلا من انتخابهم.
- زاد عليها الدعوة الي التمسك بالدستور الاسلامي و الذي لم يكن سببا مباشرا.

أدت هذه الاتفاقية لنوع من التغيير السياسي تجاه الجنوب وولدت قدرا من الخوف لدى الجنوبيين معتقدين أن المصالحة الوطنية تمت على حساب الجنوب .

أما السبب المباشر في اشعال فتيل الحرب فقد تمثل "في نظر السياسي الجنوبي أبيل ألير" في القرار الصادر من الحكومة المركزية في ديسمبر 1982 القاضي بنقل القوات المسلحة المستوعبة في الفرقة الجنوبية الأولى التي تتكون من الكتيبة رقم 105 بمدينة بور والكتيبة رقم 110 بمدينةأويل والكتيبة رقم 111 بمدينة رمبيك إلى الشمال ما نتج عنه توتر و تمرد، إذ تم نقل الكتيبة رقم 110 إلى دارفور وكان يفترض أن تلتحق بهما الكتيبتان الأخريان اللتان كانتا على أهبة الأستعداد للعصيان احتجاجا على قرار النقل حتى وصول وفد من الحكومة الإقليمية إلى منطقة بور بقيادة نائب رئيس المجلس التنفيذي الأعلى أدور أشولي وجيمس لورو الذي تمكن من تهدئة الأمور . وفي مارس 1983 أرسلت رئاسة الفرقة الأولى بمدينة جوبا خطابا إلى رئاسة الكتيبة 105 بمدينة بور تستوضحها بعض الأمور المالية المتعلقة بزيادات رواتب الجنود وقد رد عليها القائم بأعمال الكتيبة النقيب بولين ألير، و لكن الرئاسة لم تثق في رده ووجهت إليه انذارا بعدم ارسال رواتب الكتيبة لشهر إبريل من ذلك العام الأمر الذي أدى إلى توتر الموقف من جديد و قد تم تعيين الرائد كربينو كوانين قائدا جديدا للفرقة إلا انه انضم إلي التمرد فور وصوله مع رجال الكتيبة الذين سيطروا على المدينة وأعلنوا تمردهم.

كان جون قرنق العقيد في الجيش السوداني يقضي إجازته في مسقط رأسه في مدينة بور فطلبت إليه السلطات الاتصال بالمتمردين والتفاوض معهم حول إنهاء التمرد وقد سافر إلى اثيبويا التي فر إليها المتمردون والتحق بهم بدلا من العمل على اقناعهم بالعودة وعمل على قيادة التمرد بنفسه و ما لبس أن اتسع التمرد و أعلن عن أهدافه.

حركة التمرد الجديدة التي أطلقت على نفسها الجيش الشعبي لتحرير السودان كانت منذ البداية تتشكل من قوات حسنة التدريب معظمهم جنود وضباط سابقين في الجيش السوداني تلقوا مثل العقيد جون قرنق دورات تدريبية في الولايات المتحدة. وكانت أيضا حسنة التسليح والإعداد فقد وجدت دعما قويا من بعض الدول ذات التوجه الاشتراكي محور عدن / أديس أبابا التي كانت تريد اتخاذ التمرد وسيلة للضغط على السودان، وكان للدعم الاثيوبي الأثر الواضح على التوجه السياسي والأيديولوجي للحركة في بداية تكوينها والذي مثل اختلافا جذريا عن التجربة الأولى. فبينما كانت حركة التمرد الاولي حركة انفصالية تستمد دعمها من الغرب والكنيسة وبعض الدول الإفريقية إلا أن حركة قرنق أعلنت في بيانها التأسيسي عن توجهاتها الاشتراكية وأهدافها الوحدوية التي ترمي إلى إعادة صياغة السودان كجمهورية اشتراكية متعددة الأعراق والأجناس وإنهاء غلبة الطابع العربي الإسلامي على هوية البلاد لصالح الهوية الإفريقية .

لقد ساعد إعلان الرئيس السابق جعفر نميري تطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983 على غلبة للتوجه العربي والإسلامي لا سيما في الخطاب الرسمي للحكومة ووسائل الإعلام.

وقامت الحركة خلال سنواتها الأولى بتطوير خطابها وتوجهاتها الأيديولوجية فخففت من راديكاليتها واقتربت من الغرب، بل عقدت صلة وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ثم سقوط النظام الاثيوبي الموالي لموسكو عام 1991. وتزامن ذلك بدوره مع وصول الحركة الإسلامية للحكم في السودان عبر انقلاب عسكري في العام 1989 أدى إلى زيادة شدة العداء للعروبة والإسلام في خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان. في مقابل ذلك وجدت الحركة تجاوبا كبيرا في أوساط فقراء الريف بسبب تبنيها لمخاوفهم وآمال المهمشين. وشكل كل ذلك تحولا جوهريا في الانقسام التاريخي للبلاد شمال وجنوب. بيد أن انقسام الحركة نفسها في العام 1991 يشير إلى أن الولاءات القبلية والعرقية ما زالت عوامل فاعلة بالرغم من أن الخطاب السياسي قد لا يتطابق أحيانا مع الواقع.

يبقى ما أكدته الأحداث من أن الحرب في جنوب البلاد في المقام الأول حربا سياسة مسلحة من أجل الحفاظ على هويته وكينونته الثقافية والروحية ، حيث أثرت الحرب في كل نواحي الحياة في السودان بدء بالاقتصاد الذي عانى نزيفا مستمرا وانتهاء بالعلاقات الاجتماعية جراء النزوح الواسع للمواطنين حيث هاجر الملايين من الجنوب ومناطق القتال إلى الشمال أو خارج البلاد. وبالتأكيد فقد شوهت الحرب صورة السودان وأظهرته على أنه كيان عنصري قمعي ونموذج للاضطهاد الديني والعرقي.

إن الأزمة السودانية التي أدت إلى تفجر الحرب الأهلية عام 1955 وتم إعادة انتاجها مرة أخرى عام 1983 كانت دائما ازمة معقدة تتداخل فيها عدة معطيات. فقد كان مطلب الجنوبيين في بداية الأمر يقتصر على قيام او تاسيس نظام فيدرالي يراعي خصوصية الجنوب في إطار السودان الواحد، ولكن الاستجابة لهذا المطلب تأخرت كثيرا حسب رأي الجنوبيين إلا عام 1972 حين قبل الرئيس الأسبق النميري منح الجنوب الحكم الذاتي. إلا ان الحكم الذاتي لم يأت في إطار نظام ديمقراطي يعترف بالتعددية والتنوع الأمر الذي أدى إلى فشل التجربة وجعل القيادات الجنوبية تتطرف في مطالبها التي تراوحت بين فصل الجنوب أو فرض الهوية الإفريقية غير العربية على كل السودان كشرط للوحدة حتي جاءت اتفاقية السلام الشامل لتجيب بوضوح تام عن كافة التساؤلات و الشكوك التي اعترت الساسة الجنوبيين و منحت الجنوب اكثر مما تمناه حق تقرير المصير.


النـزاع في ظل تعاقب النظم الوطنية

تعتبر فترة حكم الرئيس جعفر نميري و التي تعرف بالفترة المايوية هي من أطول فترات الحكم الوطني منذ الاستقلال إذ امتدت لستة عشر عاما (1969 – 1985) شهدت هذه الفترة تطورات هامة بالنسبة للنزاع السوداني بين الشمال والجنوب خاصة، حيث شهدت هذه الحقبة توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 كما أندلعت الحرب مجددا خلالها تلك الحقبة السياسية و تحديدا في مايو 1983م.

بدأ نظام مايو محاولات البحث عن الحل السلمي للنزاع في منذ الأشهر الأولى، أي بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا. وكانت المحاولات في أول الأمر داخلية الطابع ـ حيث كان من أبرزها قيام الرئيس السابق جعفر نميري بتشكيل لجنة من الشخصيات المرموقة لقيادة الجهود السلمية في حل النزاع، في مارس عام 1984. وكبادرة حسن نية، تم إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، بيد أن هذه الجهود لم تحقق النتائج المرجوة منها مما أدى إلى تدخل وسطاء أجانب، كان من أبرزهم رجل أعمال بريطاني يدعى تايني رولاند والذي نقل مبادرة من الرئيس النميري للعقيد جون قرنق كانت تقترح تعيين الأخير نائبا لرئيس الجمهورية وإعطاءه صلاحيات واسعة لإدارة الجنوب وله الحق في ترشيح ستة من وزراء الحكومة المركزية ولكنه رفض هذا العرض، وأصر على استقالة الرئيس النميري نفسه وإنهاء حكمه كشرط لأنهاء الحرب .

وفي ظل هذه الظروف ساد شعور وسط الجنوبيين بأنهم وإن استطاعوا الحصول على حقهم في إدارة أمورهم إلا أن تأثيرهم على اتخاذ القرار في المركز سيكون محدودا للغاية. ويقول جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان أنه في ظل الأوضاع السائدة لم يعد المواطن الجنوبي يفقد شيئا إذا ما تمرد على الحكومة .

إلا أن الحرب شهدت في فترة وجيزة (83 – 1985) تصاعدا خطيرا عم معظم أجزاء جنوب السودان وانتقلت الحرب إلى مناطق في الشمال وجبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق وراح ضحاياها المئات بل الألوف سواء كان ذلك في ميادين القتال أو بسبب المجاعة ونقص الغذاء الناتج عن عدم الاستقرار والأمن لنقل المواد الغذائية إلى الجنوب. كما شهدت ذات الفترة نزوح الملايين من أبناء الأقاليم الجنوبية إلى الدول الإفريقية المجاورة وإلى شمال السودان واتخذ الجيش الشعبي لتحرير السودان داخل الأراضي الأثيوبية قواعده للهجوم على المراكز الحكومية في الإقليم الجنوبي. وتشير بعض المعلومات إلى أن الجيش الشعبي بلغ عدد مقاتليه أكثر من أربعين ألف مقاتل يتلقون تدريباتهم داخل معسكرات في أثيوبيا بدعم من الحكومة الأثيوبية ومساعدة بعض الدول الشيوعية .

وفي الاتجاه السياسي كان الجيش الشعبي لتحرير السودان يعمل على بناء جمعية سياسية تضم الجنوبيين والشماليين المتواجدين في الخارج أطلق عليها اسم الحركة الشعبية لتحرير السودان (Sudan Peoples Liberation Movement) وتعرف اختصارا (S P L M) لدعم ذراعها العسكري. الحركة والجيش يعملان في تنسيق دقيق بهدف واضح يقوم على بناء ما سمي بالسودان الجديد، الذي يهدف إلى صياغة الهوية السودانية إلى الهوية الأفريقية بدلا عن الهوية العربية الإسلامية.

كان قرار الرئيس جعفر نميري الإعلان في سبتمبر سنة 1983 تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بمثابة صب الزيت على النار في الصراع بين الجنوب والشمال. إذ اتخذ المتمردون من هذا الإعلان ذريعة لمواصلة الحرب وأصبح مطلب إلغاء القوانين الإسلامية شرطا محوريا للقبول بعودة أي نوع من الحوار. وقد خلق هذا الأمر توترا وصراعا داخل الساحة السياسية الشمالية نفسها. وقد استفادت حركة التمرد من هذا المناخ وبدأت في شن هجوم على أهداف استراتيجية مثل الشركة الفرنسية التي كانت تتولى حفر قناة جونقلي كما قامت بأعمال ذات طابع إرهابي ضد شركة شيفرون الأمريكية التي كانت تنقب عن البترول في الجنوب، الأمر الذي أدى إلى توقف عمليات التنقيب عن البترول في جنوب السودان .

تلك الأهداف كانت عبارة عن رسائل موجهة إلى دول بعينها من بينها الولايات المتحدة ومصر خاصة وأن نظام الرئيس نميري أقرب حليف إلى الولايات المتحدة في القارة الإفريقية انذاك. وكان يتلقى أكبر دعم تتلقاه دولة افريقية بعد مصر. بيد أن موقف الحركة بدأ يتغير من حليفها الاستراتيجي النظام الماركسي في أثيوبيا. وكان هناك على ما يبدو ميل من جانب الولايات المتحدة نحو الحركة الشعبية لتحرير السودان، اتضح ذلك في عهد الرئيس الأمريكي رولاند ريغان الذي أرسل في مارس 1985 نائبه إلى الخرطوم ليطلب من النميري تخفيف توجهاته الإسلامية، وإبعاد الإسلاميين من السلطة وتقديم تنازلات للمتمردين. إلا من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية و البيئية والأمنية و تسارعها أدى إلى انتفاضة شعبية في إبريل سنة 1985 وسقوط نظام النميري.

تولت حكومة عسكرية برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب إدارة البلاد لفترة انتقالية وتقدمت بمبادرات عديدة لحركة التمرد لكنها قوبلت بالصد و الرفض من قبل رئيس الحركة الشعبية الذي اعتبر حكومة المشير سوار الذهب امتدادا لحكم النميري باعتبارها حكومة عسكرية. حيث أمهل سوار الذهب سبعة أيام للاستقالة أو استئناف الحرب، و كانت الآمال كبيرة بأن تقوم الحركة الشعبية بإلقاء السلاح والمشاركة في العملية الديمقراطية خاصة وأن الدعاية السياسية للحركة كانت تركز بصورة واضحة على ضرورة الإطاحة بالنظام المايوي كواحد من أهم أهدافها. وفي تلك الفترة تقدمت الأحزاب والقوى السياسية وقوى المجتمع المدني بمبادرات عديدة باتجاه الحل السلمي. وكان من أبرز تلك المبادرات (إعلان كوكادام) الموقع في مارس 1986 والذي اتفقت بموجبه الأحزاب السياسية باستثناء الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية على خطوط عريضة لاستئناف الحوار. وتضمن الإعلان العمل على الدعوة لسودان جديد متحرر من العرقية والقبلية والطائفية وكل أشكال التمييز والتفرقة. وتبع ذلك تحديد الخطوات المطلوب اتخاذها للسير في هذا الطريق وأهمها إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية. وعقد مؤتمر دستوري في الخرطوم في يونيو 1986 وحددت الأجندة في عــدة قضايا شملت المسألة القومية وقضية الدين . ولكن تلك الجهــود لم تحقق نتيجة لرفض الحركة الشعبية التفــاوض مع الحكومة الانتقالية.

عقب انتهاء الفترة الانتقالية وتسلم السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة رئاسة الحكومة بعد انتخابات عامة في 1986 تواصلت الجهود السلمية في ظل رفض مستمر من قبل الحركة الشعبية للدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة. وفي يوليو 1986 اجتمع رئيس الحركة الشعبية العقيد جون قرنق مع السيد/ الصادق المهدي في أديس أبابا بصفته الحزبية لا الحكومية (رئيسا لحزب الأمة) ولم يحقق ذلك اللقاء أية نتائج ايجابية . كما أن الاتصالات بين الطرفين قطعت بعد قيام الحركة باسقاط طائرة مدنية في جنوب السودان مما زاد التوتر وتصعيد نذر الحرب. استمر هذا الوضع على ما هو عليه حتى تم التوصل لاتفاق بين السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي وجون قرنق رئيس الحركة الشعبية في أديس أبابا في نوفمبر عام 1988 عرف بمبادرة السلام السودانية. نص الاتفاق على استئناف المفاوضات بعد تجميد قوانين الشريعة الإسلامية وإلغاء معاهدات الدفاع المشترك مع ليبيا ومصر، ولكن هذا الاتفاق واجه معارضة واسعة من قبل شريكي الميرغني آنذاك في الائتلاف الحكومي وهما حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى انسحاب الحزب الاتحاد الديمقراطي من الحكومة في ديسمبر 1988 تبع ذلك تقديم الجيش مذكرة شديدة اللهجة إلى الصادق المهدي رئيس الوزراء يطالب فيها بضرورة وقف الحرب نتيجة للانهيار الكبير في معنوياته وضعف الإمدادات العسكرية حتى وصلت هجمات الجيش الشعبي إلى منطقة النيل الأزرق وسط السودان واحتلال مدينة الكرمك الاستراتيجية على الحدود الأثيوبية، الأمر الذي أثار مشاعر سلبية واسعة مضادة لتوجهات الحركة لا سيما في الشمال كانت ترمي الحركة لضم كل المناطق المهمشة في الشمال. خلقت هذه الحالة شعورا بأن تمدد الحرب في الشمال يشكل خطرا علي هوية البلاد ووحدتها، فاستمرار الحرب في الجنوب قد يكون مؤسفا لكنه مقبول سياسيا أما امتدادها للشمال فإن ذلك لا يمكن السماح به وقد انفجرت موجة عالية من الغضب في أوساط الشماليين أدت إلى وصف كل الذين يعملون للوصول إلى تسوية سياسية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بالخيانة العظمى والعمالة، وإلى توترات واسعة وأعمال عنف ضد المجموعات الجنوبية المستقرة في الشمال. وامتدت التأثيرات السلبية إلى ظهور مناقشات مفتوحة حول حق الجنوبيين في العيش في الشمال وضرورة تقسيم السودان. وفي تلك الظروف أصبح الحديث يتصاعد حول هوية العربية و الإسلامية مقابل طرح الحركة حول الهوية الأفريقية.

ومهما يكن فإن النزاع المسلح وبأسلوبه الجديد وطموحاته السياسية الكبيرة والدعم القوي الذي لقيه من دول الجوار ومن الغرب مثل تحديا كبيرا للدولة وساهم في انهيار التجربة الديمقراطية السودانية الثانية أدي إلي انقلاب ثالث في البلاد بقيادة الفريق عمر حسن أحمد البشير في يونيو 1989م و دعم مباشر من الجهة الإسلامية القومية التي تمثل الواجهة السياسية للحركة الإسلامية .

دخلت حكومة الانقاذ منذ أيامها الأولى في مفاوضات مباشرة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان دون شروط مسبقة، حيث عقدت جولة المفاوضات الأولى في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في أغسطس 1989م لكنها لم تسفر عن الوصول إلى اتفاق، وكان ذلك هونفس مصير الجولة الثاني التي عقدت في (نيروبي) في ديسمبرسنة 1989 تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر" .

بعد انعقاد قمة منظمة الوحدة الإفريقية في نيجيريا في يونيو عام 1991م تقدم رئيس المنظمة الرئيس النيجيري" إبراهيم بابنجيدا" بمبادرة قبلها الطرفان (الحركة- الحكومة)لعقد جولة مفاوضات جديدة في العاصمة النيجرية (أبوجا). وقبل أن تعقد هذه الجولة سقط نظام الحكم الماركسي في أثيوبيا بقيادة" منغستو هايل ماريام" الذي كان يمثل الحليف الاستراتيجي للحركة، وكان ذلك تطورا هاما لطرفي النزاع لاسيما الحركة الشعبية التي فقدت قواعدها هناك. وواجه جون قرنق ظروفا صعبة وبدأ الصراع داخل الحركة نفسها أدى إلى انشقاقها إلى جناحين وبدأ الفرز القبلي بين الدينكا والنوير والشلك، الأمر الذي أدى إلى قيام حركة استقلال السودان بقيادة" رياك مشار" و التي دعت طرقه إلي تقرير المصير لجنوب السودان.

الحكومة من جانبها سارعت إلى التفاوض مع جناح " مشار " الذي كان يدعو إلى فصل الجنوب، وتوصلت معه في يناير 1992إلى اتفاقية في مدينة فرانكفورت بألمانيا منحت بموجبها حق تقرير المصير للجنوب لأول مرة في تاريخ الصراع من خلال إستفتاء يجري لسكان جنوب السودان. وكان ذلك تحولا هاما في مسار النزاع بين الشمال والجنوب. تجاوز المطالب الاعتيادية لجميع الحركات المتمردة في الجنوب والتي كانت غاية مطالبها الحصول على اللامركزية.

جاءت مفاوضات (أبوجا) في مايو عام 1992م والتي حضرها جناحا الحركة كوفدين منفصلين. ناقشت المفاوضات قضايا عدة أبرزها قضية الدين والدولة، والنظام الحكم، ووضع الجنوب، ولكن لم يتم التوصل لاتفاق وفي نهاية المفاوضات قرر وفد الحركة الاندماج من جديد في وفد واحد والمطالبة بتقرير المصير لجنوب السودان. أعقب هذا القرار تعليق المفاوضات لأجل غير مسمى. وبدأت الحكومة في الوقت نفسه حملة عسكرية مضادة مكنتها من الاستيلاء على مواقع عدة كانت تحت سيطرة قوات التمرد من بينها مقر الحركة في مدينة (توريت) على الحــدود الأوغندية. في ظل هذه التطــورات رفض زعيم الحركة جون قرنق فكرة توحيد جناحي الحركة على أساس المطالبة بفصل الجنوب،الأمر الذي دفع برئيس وفده" لام كول" إلى الانشقاق والانضمام إلى جماعة "رياك مشار"1.

انعقدت جولة المفاوضات الثانية في مدينة (أبوجا) وبدورها لم تحقق نجاحا يذكر. وعقب انفضاض المفاوضات بفترة قصيرة أطيح بصاحب المبادرة الرئيس"بابنجيدا" في انقلاب عسكري، إنتهت على إثره الوساطة النيجيرية،وفتح الباب أمام مبادرات أخرى قبلت الحكومة من بينها مبادرة الدول الأعضاء في المنظمة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف (إيقاد/ IGAD) في أواخر عام 1993م حيث طرحت (الإيقاد) إعلانا للمبادىء والذي يشكل مبادىء عامة كأساس لحل النزاع السوداني يؤكد على أن أي حل متكامل للنزاع السوداني يتطلب من كل أطراف النزاع القبول والالتزام بالحل السلمي العادل وحق تقرير المصير لمواطني جنوب السوداني بغرض تحديد وضعهم المستقبلي. وافق المتمردون على إعلان المبادىء فيما رفضته الحكومة لكونه يدعو إلى إقامة نظام علماني ديمقراطي مع حكم إقليمي واسع للجنوب أو السماح له بالانفصال. رافق هذه التطورات تدهورا متصلا في علاقات السودان بجيرانه والتي كانت تنعكس بشكل مباشر على النزاع، في أواخر عام 1994م تدهورت العلاقات مع إريتريا الدولة المستقلة حديثا والتي بدأت بدعم المعارضة الشمالية المسلحة ،وتلاها في مطلع عام 1995 إتهامات أوغندا للحكومة السودانية بدعم المعارضة الأوغندية الأمر الذي أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. كما قامت أثيوبيا بتخفيض مستوى علاقاتها مع السودان على خلفية إتهام السودان بإيواء مطلوبين في محاولة اغتيال الرئيس المصري محمد حسني مبارك في أديس أبابا، حيث وصل تدهور العلاقات مع البلدان الثلاثة حدا قامت فيه حكوماتها في أواخر العام 1996م بدعم حمل كبيرة للمعارضة الجنوبية والشمالية ترمي ترمي لإسقاط الحكومة عبر الزحف من ثلاثة محاور من الحدود الأثيوبية والإرترية والأغندية. لكن هذه الحملة فشلت في تحقيق أهدافها باحتلال(جوبا) عاصمة الجنوب وإعلان دولة جنوب السودان التي كانت تخطط لها الحركة. كما فشلت في قطع الطريق بين الخرطوم والميناء الرئيسي في بورسودان،أو الاستيلاء على (خزان الروصيرص) الذي يمد العاصمة السودانية الخرطوم بالامداد الكهربائي .

بيد أن هذه الحملة سببت هزة قوية للحكم، وكان من الطبيعي أن تظل جهود السلام متوقفة طوال تلك الفترة. قامت الحكومة باستخدام استراتيجيتها البديلة وهي ما عرف (بالسلام من الداخل) حيث، بدأت حملة استقطاب حادة وسط القوى الجنوبية المناهضة لقرنق وتمكنت بالفعل من توقيع إتفاقية في أبريل 1997م عرفت بإتفاقية الخرطوم للسلام وقعتها مع " رياك مشار" زعيم حركة استقلال جنوب السودان وقد شملت الاتفاقية إعطاء الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية مدتها أربع سنوات مع حكم إقليمي بصلاحيات واسعة خلال الفترة الانتقالية وشملت الاتفاقية نصوصا تمنع التميز بسبب الدين أو العرق وتؤكد على احترام حقوق الإنسان كما وردت في المواثيق الدولية.

تبع ذلك نشاط إعلامي وسياسي مكثف للدعوة للسلام من الداخل وقد تمكنت الحكومة من تسجيل اختراق آخر بتوقيع اتفاقية مع فصيل ثاني يتزعمه الدكتور " لام أكول " عرف بـ (الفصيل المتحد) في مدينة الناصر عرفت باتفاقية فشودة للسلام.
انعقدت منظمة الايقاد في يوليو1997م في نيروبي حيث دعت القمة الحكومة السودانية العودة إلى مائدة التفاوض على أساس إعلان المبادئ الذي كانت الحكومة السودانية رفضته في السابق، وعقد في أعقاب ذلك عدة جولات للمفاوضات ولكنها لم تحقق تقدما يذكر على الرغم من ضغط مجموعة شركاء الايقاد وهي مجموعة الدول الصناعية الممولة، وتشمل الولايات المتحدة وبريطانيا- النرويج- إيطاليا إضافة إلى الأمم المتحدة وبعض منظماتها العاملة في مجال العمل الإنساني جاء ذلك عقب إنشاء آلية (للإيقاد) هي عبارة عن سكرتارية دائمة تتولى ترتيب المفاوضات، فيما ظلت نقاط الخلاف المتعلقة بالدين والدولة وتقرير المصير والحكم الانتقالي والمشاركة في السلطة وتوزيع الثروة أكثر القضايا تعقيدا.

إلى ذلك زادت المعارضة الشمالية من نشاطها في إطار(التجمع الوطني الديمقراطي) الذي يضم الأحزاب الشمالية المعارضة وهي (حزب الأمة، الاتحادي الديمقراطي،الحزب الشيوعي وبعض النقابات ومؤسسات المجتمع المدني).إضافة إلى الحركة الشعبية التي تعتبر عضوا في التجمع. حيث أصدر التجمع في يونيو 1995م ماعرف بوثيقة(مؤتمر القضايا المصيرية) والذي جدد الثقة في دول الإيقاد وأقرت إعلان المبادىء الصادر عنها كأساس للحل الشامل للأزمة السودانية كما أعطى الجنوب حق تقرير المصير بالإضافة لفصل الدين عن الدولة.

من جانب آخر عرضت القيادة الليبية مبادرة للحل السياسي الشامل للأزمة السودانية، تقوم على الآتي:

1- الوقف الفوري لكافة العمليات العســكرية من جميع الأطراف ووضــع آليــة لمراقبة ذلك
2- الوقف الفوري لكافة الحملات الإعلامية المتبادلة بين جميع الأطراف
3- الشروع في حوار مباشر بين الحكومة والمعارضة عبر ملتقى عام للحوار الوطني بهدف التوصل لحل سياسي شامل للمشكلة السودانية يستند لوحدة السودان ويؤمن الاعتراف بالتعدد العرقي والدين والثقافي للشعب السوداني.
4- تشكيل لجنة تحضيرية للملتقى بمشاركة ممثلين من كافة الأطراف المعارضة والحكومة برعاية الأخ العقيد معمر القدافي تتولى الآتي:
• تحديد مكان وتاريخ إنعقاد الملتقى
• تحديد المدعوين للمشاركة في الملتقى
• تحديد جدول أعمال الملتقى
• وضع الأسس التي يسند إليها الحوار
5- تتولى الجماهيرية الليبية الاتصال بالدول الآتية : مصر – ارتريا- أوغندا- كينيا للتنسيق معها باعتبارها صاحبة مبادرات تتعلق بالشأن السوداني .
وقد تبنت مصر مع ليبيا هذه المبادرة وسميت (بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة) وقد قبلتها الحكومة السودانية دون تحفظ وحددت ممثليها إلا أن حركة التمرد تحفظت عليها لعدم تضمينها لحق تقرير المصير الذي أصبح بندا أساسيا لها، كما ان موقف المبادرة من قضية الدين والدولة لم يكن واضحا بالنسبة لها. تعتقد هذه الدراسة ان السبب الأقوى في رفض الحركة لهذه المبادرة هي عدم رغبتها في دخول العامل العربي الذي تعتبره في صالح الحكومة، مما يؤكد ان المنطلقات الخلفية لقيادات الحركة حول الهوية الافريقية تعكسه هذه التصرفات مما ادى إلى توقف المبادرة المصرية الليبية المشتركة.

يعتبر كثير من المراقبين للشان السوداني ان إتفاقية (مشاكوس) تمثل فتحا كبيرا واختراقا هاما للأزمة السودانية لا سيما وان إشكالية الاندماج القومي التي ورثتها صفوة ما بعد الاستقلال ظلت ذات الإشكالية المتمثلة في التعددية الدينية والعرقية واللغوية والثقافية وقد تمكن الاتفاق الإطاري الموقع في 20 يوليو سنة 2002م أن يعالج أهم قضايا الصراع المتمثلة في قضية الدين والدولة، حيث قبلت الحكومة السودانية بنصوص تعالج قضية المواطنة على أساس (المساواة بين المواطنين من دون النظر إلي الدين، وعدم إعطاء اعتبار للدين في حقوق المواطنة) مقابل قبول الجيش الشعبي بتطبيق الشريعة الإسلامية في مناطق الغالبية المسلمة في الشمال. كما قبلت الحكومة بحق تقرير المصير للجنوب، مقابل تعهد المتمردين بالدعوة إلى الوحدة والعمل على تأكيدها . وبالرغم من أن (إطار مشاكوس) جاء تحت مظلة (الإيقاد)وبحضور مكثف من أصدقاء (الإيقاد) وبشكل خاص بريطانيا والنرويج إلا أن الدور الأمريكي ظل مهيمنا على أجواء المفاوضات. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد عينت مبعوثا رئاسيا للسلام في السودان هو" القس جون دانفورت" وقبل ذلك اصدر الكونغرس الأمريكي قانون سلام السودان، الذي يعتبر بمثابة العصى الغليظة والجزرة في ذلك الوقت لطرفي النزاع السوداني. فقد ظل الدور الأمريكي فاعلا ومهيمنا على أجواء التفاوض والموجه لها فيما كان الدور البريطاني مساندا للرؤية الأمريكية وداعما لها باعتبار أن بريطانيا الأكثر خبرة ودراية بشان السودان على خلفية التجربة الاستعمارية السابقة لها في السودان. لاسيما وان معظم هذه المشكلات نتاج لسياساتها السابقة في السودان.

كانت رؤية الولايات المتحدة الأمريكية للنزاع تقوم على خلق (دولة واحدة بنظامين في الشمال والجنوب) وكان "دانفورت" قد نجح في توقيع إتفاق لوقف النار في منطقة جبال النوبة وسط البلاد كما نجح في حث الأطراف المتصارعة على ضرورة الوصول لاتفاق وانه لم يعد مسموحا الاستمرار في هذه الحرب في أجواء ما بعد 11 سبتمبر وما تركته من متغيرات عميقة في الإستراتيجية الأمريكية مؤكدا في تقريره على حق تقرير المصير لجنوب السودان وقد نص التقرير على مايلي:

"عانى السودانيون الجنوبيون باستمرار من أشكال سوء المعاملة على أيدي الحكومات المتعاقبة في الشمال شملت التعصب الديني، وتقيد الحصول على الموارد القومية وان أي اتفاق للسلام عليه معالجة حالات الظلم التي عانى منها شعب جنوب السودان ومنحهم حق تقرير المصير كوسيلة لحماية انفسهم من الاضطهاد".

وقد صدرت تحفظات إقليمية على مبدا حق تقرير المصير للجنوب من مصر التي تنظر لحقوقها المائية كما انها ترى فيه تفريط لا مبرر له في وحدة السودان وانه من الممكن الحفاظ على حقوق الجنوبيين السياسية والدينية والثقافية وكذلك توفير تنمية عادلة لهم دون اللجوء لتهديد وحدة السودان الامر الذي سيؤثر على تشكيل منطقة القرن الافريقي وشرق افريقيا وسيكون له آثاره المستقبلية على الأمن القومي المصري وربما أيضا، ان التفكير المصري ذهب إلى أن القبول بمثل هذا الحق يعني في ما بعد قيام دولة مسيحية في الجنوب، الأمر الذي سيكون (سابقة) خطيرة في المنطقة، بمقتضاها يمكن ان يسمح مستقبلا بقيام دولة (قبطية) في مصر.

بيد أن إصرار الحركة الشعبية وكافة الفصائل الجنوبية على حق تقرير المصير واعتباره بندا أساسيا في مواثيقها وأدبياتها يؤكد على أن مسالة صياغة الهوية السودانية من أهم عوامل الصراع، وفي ذلك يؤكد القيادي الجنوبي البارز "بونا ملوال" وزير الثقافة والإعلام السابق في تصريح له على ما يلي:

"إن اتفاق السلام المرتقب يهدف إلى ترتيب انفصال جنوب السودان بشكل سلمي متفق عليه، ونحن مع الانفصال ولا اعتقد ان للجنوبيين في الوقت الراهن خيارا آخر نحن نستعجل السلام لأنه سيقود إلى تكوين دولة جنوب السودان وان معظم الجنوبيين يقفون إلى جانب الانفصال" . وبذلك يعتبر مبدأ تقرير المصير الذي اجمع عليه طرفا النزاع وكافة القوى السياسية الأخرى قد أصبح هدفا استراتيجيا للحركة الشعبية لتحرير السودان حيث ينظر إليه من خلال أدبياتها المختلفة وتصريحات قيادتها باعتباره حق أساسي وفق مواثيق حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. بيد أن خيار الانفصال يبقى الخيار الثاني للحركة إذا ما فشلت في صياغة السودان الجديد القائم على الهوية الإفريقية ذي طبيعة كونفدرالية تفرغ فيه الدولة المركزية من محتواها ويتمتع فيه الجنوب باستقلال فعلي وقانوني ودستوري.

يمكن أن نخلص إلى أن النظم الوطنية المتعاقبة كافة قد أسهمت بشكل أو بآخر في هذا النزاع من خلال اعتماد سياسة الحسم العسكري أو الأجندة الحربية الأمر الذي أدى إلى تعقيد الصراع ودخول مفهوم تقرير المصير كنتيجة حتمية لهذا السياسات، فضلا عن فقدان الثقة بين الأطراف التي تقرأها من خلال الاتفاقات المتعددة التي جرى توقيعها خلال العشرين عاما الماضية. ولكن ما هو دور التركيبة الاجتماعية والثقافية في هذا النزاع؟

إن الناظر إلى الخارطة العرقية في السودان يجد أن هناك إقليمين مختلفين في البلاد اتخذ كل منهما طريقا مختلفا للتنمية الثقافية والاجتماعية.

وقد زاد من تعقيد الأمور أن الاستعمار البريطاني سعى قدر المستطاع للتفريق بين الإقليمين، وتنمية كل منهما في اتجاه مخالف للآخر أملا في أحكام سيطرته على القطر. وقادت هذه الحقيقة بالإضافة إلى السياسات الخاطئة للحكومات الوطنية المتعاقبة إلى أضعاف الوحدة الوطنية والشعور الوطني المشترك. ففي جنوب السودان نجد على الأقل ثلاث مجموعات عرقية كبيرة تنقسم إلى مئات القبائل الصغيرة، مما يسبب الكثير من القلق بان الانتماء للقبيلة لازال يمثل الأساس الذي تقوم عليه هوية المواطن في الجنوب. ولعل عدم ثقة بعض القبائل الصغيرة في جنوب السودان تجاه بعض القبائل الكبيرة زاد من تعقيد القضية.

ومما لا شك فيه أن الإسلام واللغة العربية قد أديا دورا كبيرا في تحقيق الوحدة في شمال السودان وذلك ليمنع بالطبع من ان يستمر التنوع الثقافي واللغوي في الإقليم بالدرجة التي تجعل بعض المجموعات العرقية تشعر بتفردها كالبجة في الشرق والنوبة في الشمال فلا يزاولون يحتفظون بلهجاتهم وتقاليدهم المحلية القديمة. وينطبق هذا على وجه مماثل في التمازج الذي حدث بين قبائل الانقسنا والفونج في جنوب والوسط وقبائل الفور والمساليت والزغاوة في منطقة درافور بغرب السودان. وقد أشار الإحصاء السكاني الذي جرى عام 1956م عقب الاستقلال بالنسبة لتوزيع الأجناس والأعراق المختلفة في السودان على النحو التالي 60% من الأفارقة و39% من العرب 1% أجناس أخرى .

لعل الصورة السائدة في أذهان كثير من المراقبين اليوم هي أن شمال السودان عربي مسلم بينما جنوبه إفريقي غير مسلم، والحقيقة هي أن هناك الكثير من التنوع داخل كل من الشمال والجنوب لذلك فان الصورة أكثر تعقيدا، فلا الشمال ولا الجنوب يمكن اعتبارهما وحدة متناسقة عرقيا وثقافيا رغم ان الثقافة العربية تعتبر عامل توحيد هام للغاية في شمال السودان و حتى جنوبه إذ إن جميع القبائل في الجنوب نجد لغة التخاطب المشترك بينها هي اللغة العربية أو ما ليس محليا بـ(عربي جوبا).

 

 

التعدديـة العرقيـة فـي السـودان
السودان بلد متعدد الأعراق و الأجناس و متنوع الثقافات اتخذت كل مجموعة مساحة جغرافية موطنا لها بيد أن التساكن بين جميع المجموعات هو الظاهرة الملفتة للنظر إذ يقيم النوبيون في الوقت الحاضر في المنطقة الواقعة شمال السودان وجنوب مصر على شريط النيل. ويقول بعض علماء الحفريات التي أجريت في منطقة وادي حلفا خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي عند بناء السد العالي أن الإنسان النوبي قد أقام في تلك المنطقة منذ حوالي خمسين ألف سنة وانه استطاع ان يبتدع حضارة خاصة به تختلف عما جاورها من حضارات في ذلك الوقت، حيث كانت لهم مملكتان مسيحيتان هما مملكة المقرة ومملكة علوة، اللتان تمتدان من جنوب مصر إلى أواسط السودان ويختلف المؤرخون كثيرا حول أصول النوبيين خاصة وان المنطقة تعرضت للعديد من الهجرات خلال تاريخها الطويل غير أن "المستر آركل" في كتابه عن تاريخ السودان منذ أقدم العصور يقسم الأعراق السودانية إلى قسمين أساسيين هما ما يطلق عليهما العنصر المتوسط الأسمر والعنصر الزنجي الأسود. ويضع آركل النوبيين ضمن القسم الأول .

ظلت منطقة النوبة بسبب موقعها الاستراتيجي المميز ملتقى لعناصر من مختلف المناطق الأخرى مما اثر في التكوين العرقي والثقافي فيها، بيد أن أقوى العناصر تأثيرا على النوبة كان هو العنصر المصري بسبب الجوار والارتباط التاريخي الوثيق بين المنطقتين. ومما لا ريب فيه فان المناطق الجنوبية من ارض النوبة كانت تتعرض للعديد من المؤثرات الزنجية القادمة من الجنوب خاصة في حالة ضعف الدولة المصرية. ويري عدد من المؤرخين أن الحضارة النوبية كانت مصرية خالصة في عهد الأسرة الثامنة عشرة ويدعمون قولهم ذلك بان ملك النوبة "كاشا" عرف في التاريخ بأنه مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين التي استطاعت أن تمد نفوذها شمالا حتى الدلتا .

انتقلت عاصمة النوبة السياسية جنوبا إلى مروي و كان لهذا الانتقال اكبر الأثر في احتكاك النوبة بالعناصر الزنجية في الجنوب مما انعكس على حضارتها كما توضح آثارها الباقية إلي اليوم في منطقة البجراوية. فالباحث في آثار مملكة مروي يجد أن التحول واضح للغاية وان الاختلاف بينهما وبين الآثار الموجودة في مصر ماثل للعيان. ويمكن القول انه عندما تم الاتصال بين العرب وبلاد النوبة في النصف الأول من القرن السابع فإنهم وجدوا جنسا ذا سمات مميزة يقيم في تلك المنطقة لآلاف السنين .

وتعتبر قبائل البجة مجموعة عرقية متميزة تنتمي إلى العنصر الحامي تحتل المنطقة القاحلة الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. ويعتقد أن البجة قد حلو محل جنس قديم يعتمد أفراده على الصيد وكانوا يقيمون في المنطقة قبل أربعة آلاف عام. يرى بعض المؤرخين أن التأثير الزنجي في البجة جاء في وقت متأخر إذ يظهر بصعوبة جلية في قبائل البجة الجنوبية.

وكان اكتشاف الذهب في ارض البجة سببا في ان تصبح منطقتهم قبلة للطامعين في استغلال هذا المعدن النفيس. وان المصريين هم أول من جاء للمنطقة لهذا الغرض . وتقول الروايات ان الفراعنة كانوا يرسلون معارضيهم السياسيين والمساجين والمنبوذين للعمل تحت ظروف قاسية في استخراج الذهب بأرض البجة إلا أن أفراد قبائل البجة لم يختلطوا مع القوات المصرية وذلك لرهبتهم .
كما كانت هجرة السيائين من جنوب الجزيرة العربية (اليمن) إلى الساحل الإفريقي من أهم الهجرات التي تركت آثارا باقية على قبائل البجة. ويعتقد أن السيائين الذين غادروا بلادهم بأعداد كبيرة لأسباب طبيعية استقروا في المرتفعات الاريترية، حيث وجدوا مناطق شبه خالية من السكان تتناسب مع طبيعة بلادهم وتمكنوا عن طريق التزاوج مع العناصر المحلية من سكان البجة ترك آثار واضحة على التكوين العرقي لقبائل البجة مما أدى إلى أن تتخذ قبائل البجة طريقا مختلفا للتطور عما اتخذته قبائل الشمال الأخرى. ويمكن ملاحظة ذلك اليوم بأن قبائل البجة استمرت في استعمالها للغات السامية التي جاء بها السبائيون كما لم ينحصر تأثير السبائيين على قبائل البجة في مجال اللغة فحسب بل امتد ليشمل مجالات أخرى كالمعتقدات الدينية والنظام الاجتماعي والتأثير العرقي كذلك .

يقسـم علماء الاجتماع القبائل العربية في الســودان إلى قسمين قبائل الجعليين وقبائل جهينة وتضم الأخيرة خليطا من القبائل مثل فزارة ورفاعة وغيرها. الجعليون هم قبائل نيلية يعتمدون على الزراعة بالإضافة إلى قبائل الشايقية والرباطاب كما أن هناك قبائل عربية ابتعدت عن النيل لسبب أو آخر واختارت حياة البداوة كالبطاحين والبديرية والجوامعة في الشمال و الوسط.

أما قبائل جهينة اختارت الحياة التي كان يعيشها اسلافهم في شبه الجزيرة العربية ووجدت في مراتع اواسط السودان وغربه الخصبة خير مكان لممارسة الحياة البدوية وفي مناطق السافنا وتخوم الصحراء الجنوبية، اعتمدت قبائل الشكرية والكبابيش على تربية الإبل واختارت قبائل المسيرية والرزيقات تربية الأبقار في مناطق السافنا الغنية الممتدة الجنوب.

تنقسم هاتان المجموعتان إلى مئات القبائل الصغيرة التي يصعب معها معرفة الطرق التي سلكتها كل قبيلة قبل استقرارها في موقعها الحالي داخل السودان. و أن الاعتقاد السائد بين الدارسين هو أن أغلب هذه القبائل جاءت عن طريق مصر وربما استقر بعضها في أرض النوبة والبجة قليلا قبل الانتشار في أنحاء السودان الأخرى. ويعتقد أن القبائل التي جاءت عن طريق بلاد النوبة إتجهت جنوبا واستقرت على ضفاف النيل منها الشايقية والمناصير والرباطاب والجعلين. اما القبائل التي جاءت عن طريق بلاد البجة فقد اتجهت إلى أواسط السودان عبر أرض البطانة في اتجاه الغرب إلى النيل .

ولما كان المفهوم الأنثروبيولوجي المعاصر حول الهوية هو تأويل ثقافي لمنشأ المرء البيولوجي فقد تشبعت الآراء حول هوية الجعليين فأوراق النسابة السودانييين أمثال البروفسير "يوسف فضل" ترجح هويتهم العربية الخالصة بوصفهم حاميون مهجنون بالعنصر السامي. اما البحاث الغربيون المستشرقون ومنهم "ماكمايكل" فقد ذهبوا الى ان الحعليين نوبة مستعربة فهم هجين بين العرب المهاجرين الى السودان مع العناصر النوبية المستقرة في شمال السودان كما ان المؤرخ سبولد ينغ وجماعته قالوا ان الجعبليين هم نوبة خلص .

إلى ذلك فان اصل الشايقية فيه العديد من الاراء التي نسبت اصولهم الى البوسنيين والالبان او الاتراك الذين قدموا في جيش السلطان التركي سليم الاول لدى غزوه السودان واستقروا حيث هم الان. وطبقا للمستشرق "هيكوك" فاصل الشايقية من العبابدة المستعربة والمتاسلمة كما وصفهم في وقت لاحق بانهم ذوو اصل عريق رغم ازدرائهم للنوبة . وبالنظر لهذا الخليط فقد مال الباحث السوداني "حيدر ابراهيم" الى اعتبارهم هجين من مجموعات شتى فبعضهم من سلالة قدماء المصريين واخرين مغاوير مملكة نبتة وملوك جبل البركل اندمجوا في طور متاخر بالبجة والعرب فهم النوبة المستعربة وهو الوصف الشائع لجماعات الجعليين المختلفة.

أما القبائل العربية التي وصلت غرب السودان دخلت عبر ثلاثة طرق مختلفة عن طريق صحراء بلاد النوبة والثاني عن طريق النيل الابيض قادمة من الجزيرة العربية والثلث عبر الممالك في غرب افريقيا قدوما من شمال افريقيا وأن أغلب الباحثين في الشان السوداني يؤكدون بان القبائل المسماة بالعربية في شمال السودان هم في الحقيقة خليط من العرب الذين اختلطوا بالقبائل النوبية المحلية فتولد عن ذلك العنصر الموجود الان في اغلب انحاء السودان الشمالي.

القبائل النيلية :

تعتبر القبائل النيلية واحدة من أكبر المجموعات العرقية في إفريقيا وتغطي مساحات واسعة تمتد من شرق إفريقيا لتشمل السودان أثيوبيا- اوغندا- كينيا وتنزانيا ويقسم علماء الاجتماع هذه المجموعات إلي ثلاثة أقسام هي القبائل النيلية الشرقية والغربية والجنوبية. تقيم الغالبية العظمى من القبائل النيلية الشرقية والغربية على ضفاف النيل في كل من السودان وأوغندا بينما تقيم أكبر القبائل النيلية الجنوبية وهي اللو(Lou) والمساي(Massai) والكالنجيين في كينيا وتنزانيا.

يوجد الدينكا في منطقة بحر الغزال وأعالي النيل فيما يتركز النوير في بحر الغزال بينما يحتل الشلك أجزاء من أعالي النيل،أما القبائل الاستوائية الأخرى أو ما يعرف بالقبائل السودانية كالزاندي واللاتوكا والمونرى فإنها تقيم في المنطقة الاستوائية.
قامت بعض فرق التنقيب عن الآثار في المناطق التي تقطنها قبائل الدينكا والنوير وأجرت بعض الحفريات التي كشفت عن وجود بعض الحقائق تؤكد أن هذه المنطقة الحالية في جنوب السودان كانت مغمورة تماما بالمياه قبل أربعة آلاف سنة لذلك فإن أي نوع من الحياة البشرية فيها لابد أن يكون قد بدأ بعد ذلك التاريخ. كما تؤكد الحفريات التي أجريت في منطقة الخرطوم الحالية وجود آثار لبعض القبائل النيلية في جزيرة توتي عند ملتقى النيلييين مما يؤشر بوجود هذه الأجناس في وقت مبكر في السودان الشمالي ونزوحهم الي الجنوب لاحقا وأنهم سبقوا الوجود العربي في هذه المنطقة .

قبيلة الدينكا تنتمي لمجموعة القبائل النيلية وتشكل جزء من المركب الثقافي والعرقي وهي من اكبر القبائل في جنوب السودان بل على نطاق السودان ككل يبلغ تعدادها حوالي ثلاثة مليون نسمة، وتنقسم على عدد كبير من القبائل الصغيرة. ويرى بعض الباحثين أن الدينكا في الحقيقة عبارة عن مجموعة من القبائل الصغيرة التي تحمل أسماء مختلفة يربط بينها شعور بالانتماء العرقي.ونسبة لشعورهم القوي بالانتماء العرقي الموحد واعتقادهم بسمو ثقافتهم على غيرهم من القبائل فإن الدينكا يعتبرون أقل القبائل وقوعا تحت التأثير الخارجي. يقول "فرانسيس دينق" أحد أبناء الدينكا أن تاريخ هجرة الدينكا إلي مناطقهم الحالية مبهم حتى بالنسبة للدينكا أنفسهم . وأن معظم هجرات الدينكا كانت نتيجة للبحث عن أراضي رعوية أغنى لإطعام ثروتهم الكبيرة من الماشية كما أنها كانت في حالة هجرة مستمرة جراء الحروب التي وقعت بينها وبين قبائل النوير نتيجة الصراع حول المرعى وبسبب الفيضانات التي ضربت أراضيهم في مواسم الأمطار.

أما قبيلة النوير تعتبر من أقرب القبائل الجنوبية إلى الدينكا. ويرى بعض الباحثين أن القبيلتين لازالتا تحتفظان بالكثير من الظواهر الثقافية المشتركة. والاعتقاد السائد هو أن الشلك وهي القبيلة النيلية الكبيرة الثالثة في جنوب السودان قد انفصلت عن قبيلة الدينكا قبل أزمان طويلة من انفصال النوير، لذلك فإنه بالرغم من التشابه العرقي والثقافي بينهما إلا أن لكل منهما سمات ثقافية تختلف اختلافا بينا عن بعضها البعض من خلال الطقوس والوشم الذي تتخذه كل قبيلة عن الأخرى . ومما لاشك فيه فإن التقارب الجغرافي بين الدينكا والنوير قاد إلى اتصال كثيف بينهما على مختلف المستويات واتسم هذا الاتصال في بعض الأحيان بالعنف خاصة عند تنافس المجموعتين على الموارد في المنطقة وما تزال العلاقات بين القبيلتين تمثل واحدة من أهم العوامل المؤثرة على التطورات السياسية في الإقليم الجنوبي في الوقت الحاضر وفي الصراع القائم اليوم .

المجموعة النيلية الثالثة في جنوب السودان هي الشلك التي تحتل الأجزاء الشمالية من أعالي النيل. والاعتقاد السائد أنها جاءت أصلا من اعماق الجنوب إلى الموقع الحالي الذي تحتله.وعلى غير العادة كما في مجموعات الدينكا والنوير الذين يعشون في مجموعات صغيرة فإن الشلك استطاعوا إقامة نظام مركزي تحت قيادة ملك القبيلة الذي يسمى : "الرث" ولا يعتبر رث الشلك ملكا عاديا بل هو في اعتقادهم الشخص الذي تحل فيه روح قائدهم الأسطوري "نيكانغ" الذي يعتقد أنه المؤسس الأول للمملكة،لذلك فإن " الرث" هو القائد الروحي للقبيلة. فهو يحتفظ بحق إجازة زعماء قبائل الشلك الذين يتم اختيارهم بواسطة المواطنين مما مكن له السيطرة على هؤلاء الزعماء فضلا عن تمكنه من تكوين ثروة طائلة وقوة عسكرية خاصة به .

لقد عرض كتاب" حرب أيما" قصة زواج القائد الدكتور" مشار" زعيم حركة استقلال السودان الذي تزوج من عاملة الإغاثة البريطانية" أيما" مخالفا تقاليد قبيلته ثم تزوج مر أخرى من امرأة أمريكية بعد وفاة زوجته أيما وكلاهن من ذوي البشرة البيضاء. وقد ذهب في ذلك مذهبا يتوسل بالأسطورة والدين حتى يتقرب منها حيث سأل" مشار" أيما هل تعرفين شيئا عن النبي "قونق دنيق" وتقاليد النوير في النبوءات؟فأجابته بأنها تعرف القليل فقال لها هل نما إلى علمك أن هناك نبوءة تقول أنه سيأتي يوم يتزوج فيه زعيم نويراوي لا يحمل علامات النوير على جبينه ويستخدم يده اليسرى من امرأ بيضاء؟ فأجابته أنها لا تعلم شيئا عن تلك النبوة فأمسك يدها وقال لها أنا ذلك الرجل فهل تقبلين أن تكونين تلك المرأة؟ و هذا ربما يعكس ما عرف عند النوير من ولع بعقيدة الأسطورة التي تمثل مدخلا رئيسيا في مقومات الحياة عندهم.

أما القبائل السودانية التي تحتل الجزء الجنوبي في الحزام الاستوائي وهي الزاندي والفرتيت، التبوسا، المونري وغيرها، فإن الأرجح أنها دخلت إلى السودان في ثلاثة موجات متتالية الأولى من منطقة بحيرة تشاد وقد جاءت إلى المناطق المأهولة بقبائل الأقزام في ذلك الوقت وكانت أعدادها صغيرة الأمر الذي أدى إلى لانصهارهم مع تلك الأجناس وانعكس على تكوينهم الجسماني لاحقا"قصار القامة"،أما الموجة الثانية للهجرة فهي التي قامت بها مجموعة المانفيقو التي يعتقد أنها وصلت إلى السودان من الجنوب الافريقي. وتمكنت من إقامة مملكة قوية. أما الموجة الثالثة والأخيرة وهي أهم الموجات وأبعدها أثرا هي التي قامت بها مجموعة قبائل الزاندي التي هاجرت إلى السودان منذ القرن الثامن عشر،ولا يعرف الموطن الأصلي للزاندي بالتأكيد، بيد ان رواياتهم الشفهية تقول أنهم قد هاجروا من شواطئ إحدى البحيرات تحت ضغط متواصل من قوم يلبسون ملابس بيضاء . وبالنظر على أنهم يتحدثوا إحدى اللغات السودانية فإن المؤرخين ينسبون هجرتهم إلى منطقة بحيرة تشاد تحت ضغط بعض القبائل العربية الإسلامية. والواقع اليوم فإن الزاندي هم في الحقيقة خليط من القبائل السودانية والمجموعات المحلية الذين تزوجوا وانصهروا في بوتقة اجتماعية واحدة تحت القيادة القوية لزعماء الأفونفارا الذين قاموا بتأسيس مملكة الزاندي في تلك المنطقة.و قد تميزت قبائل الزاندي بالتنوع العرقي والثقافي داخلها بسبب اتجاه الملوك إلى استيعاب القبائل المهزومة في المنظومة السياسية والاقتصادية للدولة. كما ان ممالك الزاندي تميزت بنظام إداري جيد يحدد بوضوح الحقوق والواجبات.

القبائل الزنجية في غرب وسط البلاد مثل الفور والنوبة والفونج بالرغم من عدم معرفة تاريخ لوجودهم في البلاد إلا أن هذه القبائل استطاعت تكوين ممالك لها ذات صلة بالثقافة العربية الإسلامية فكانت مملكة الفور في غرب السودان ومملكة تقلي في وسط السودان ومنطقة جبال النوبة والسلطنة الزرقاء في منطقة النيل الأزرق يعكس التداخل القوى للبعدين العربي الإسلامي والإفريقي إذ أن هذه القبائل لا زالت تعتز بتراثها وثقافتها الإفريقية وهويتها الإسلامية الأمر الذي يعكس واقع الهوية في عقل الإنسان وعواطفه .

يتضح مما ذكرناه آنفا أن شمال السودان وجنوبه قد اتخذا اتجاهين مختلفين في تطورهما فيما يتعلق بالتكوين العرقي والثقافي مما كان له اكبر الأثر في العلاقات بين الجانبين لاسيما في مناطق التماس التي شهدت تمازجا واضحا بين العناصر المختلفة. فتجربة دينكا انقوك مع جيرانهم عرب المسيرية (البقارة،الحمر) الذين عاشوا وتفاعلوا معهم تعكس بجلاء العلاقة بين الشمال والجنوب. فدينكا نقوك يعيشون في ولاية جنوب كردفان إحدى ولايات الشمال في منطقة (اب يي) بينما يعيش بشكل رئيسي الدينكا في الولايات الجنوبية. ويجاور دينكا نقوك مباشرة في الشمال قبائل المسيرية الذين اختلطوا معهم ولكن نتيجة لتطور الصراع حول السلطة بين الشمال والجنوب بدا دينكا نقوك في ربط هويتهم وانتمائهم بالجنوب بينما ربط جيرانهم المسيرية أنفسهم بالشمال، رغم التداخل الواضح بين القبيلتين الذي بلغ إمتدادات واسعة،وتتحدث السجلات التاريخية عن زعماء نقوك كمستعربين يطلق عليهم ألقاب عربية مثل الملك والسلطان والناظر وذلك كانعكاس للتمازج الذي كان سائدا بين الطرفين، كما أن (المسيرية الحمر) رغم أنهم يعتبرون من القبائل الشمالية الأوضح عروبة إلا أنهم أكثر سوادا وأكثر افريقية في تعبيراتهم الثقافية مثل الرقص والموسيقى وأكثر ليبرالية في نظرتهم للمرأة ومرتبطون بالأبقار أكثر من الإبل ويلبسون ملابس خفيفة. كما أن إسلامهم تشوبه مظاهر وثنية عديدة ال يجانب تحدث كثير من دينكا نقوك عربية البقارة بطلاقة فيما يتحدث بعض البقارة لغة الدينكا .

من الواضح انه رغم مشكلة علاقات الشمال بالجنوب وصراع الانقوك والمسيرية، فهما يلتقيان في العديد من الجوانب المشتركة. لكن المتغير في العلاقة بين الطرفين هو سعي كل منهما نحو السيطرة على القوى الأخرى لتحقيق تحالف يغير موازين القوى في المنطقة، وهو رد الفعل الذي يؤدي إلى الصراع والحرب. وفي نفس الوقت فإن المشكلة تشير إلى أهمية الأسس لحل الصراع من خلال إعادة صياغة الهوية السودانية والانتماء وفتح قنوات التفاعل الثقافي والعرقي بين الشمال والجنوب.لا سيما و ان التركيب العرقي في السودان إنما هو هجين بين المكونات المتساكنة، فإدعاء كل من الشماليين المستعمرين والجنوبيين الزنوج النقاء العرقي ينطوي على مغالطة واضحة،فالصراع يرتبط بالهيمنة السياسية والاقتصادية في الظاهر وأن قضايا التمايز العرقي تلعب دورا كبيرا فيه لكن السؤال هو هل الانتماء العرقي وحده يحدد الهوية؟ في ذلك يقول الكاتب فرانسيس دينق إن مفهوم الهوية في السودان ليس دائما وصفا للحقائق المحايدة بل أصبح معيارا لتحديد مكان الفرد في المجتمع، ويعتقد الكاتب أنه أصبح في السودان نقطة البداية لتحديد من يحوز على ماذا؟ ومن يشغل أي منصب؟ ومن هو جدير بالاضطلاع بهذا الدور أو ذاك في الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد . نتج عن هذه الرؤية ظهور مجموعة من السياسات المعقدة التي يرمي أصحابها من وراء ذلك التحكم في المجموعات العرقية التي ينتمون إليها وإدامة السلطة النسبية لتلك المجموعة على المجموعات الأخرى.

وبسبب هذا التكوين الهجيني وبروز دور المجموعات العرقية في الحياة السياسية أخذ مفهوم الهوية يشكل محور صراع فبدا سؤال الهوية السودانية أهي عربية أو افريقية؟ وبرزت في المواثيق و المعاهدات مفردات في هذا السياق حيث جاء في الدستور وصف السودان على أنه (بلد عربي إفريقي) . وهو وصف يعبر عن الأهمية الإستراتيجية للسودان ولكنه هل يعبر عن الهوية كمنظومة متكاملة الخصاص المادية والروحية والوجدانية التي تميز مجموعة من البشر عن غيرهم. ويعكس الصراع الدائر حول منطقة (أبيي) التي يقطنها دينكا نقوك والمسيرية الحمر نموذجا لصراع الهوية الذي يشكله الانتماء العرقي والذي ربما يكون من الإشكالات المستقبلية لوحدة السودان رغم تمظهره السياسي.

يقول الدكتور منصور خالد السودانيون ليسوا قومية بالمفهوم الانثربولوجي أو السلالي وإنما هم شعب واحد بالمفهوم السياسي تمازجت عناصره في فضاء جغرافي محدد وأفق تاريخي معين ولكل واحد منهم مزاج خاص وفي القانون ترتكز المواطنة .

إن وهم النقاء العرقي التي استقرت في عقول بعض النخب السودانية هو نتاج لأفكار وتصورات ذاتية تستخدم نظرية التفوق والتميز لتبرير السيطرة على الآخر. وما كانت هذه الأوهام لتصبح ذات بال لولا النتائج الاجتماعية التي ترتبت عليها، ومن أكثر تلك النتائج أضرارا بالمجتمع ظاهرة إسناد الأدوار في المجتمع تبعا لتقسيم ثقافي وعرقي مسبق، مما قاد بمرور الزمن إلى تعميق الظلم وعدم المساواة . فالمظالم الاجتماعية في السودان ارتكزت على بنية تحتية ثقافية معقدة لها أساطيرها الخاصة عن الذات وعن الأخر،وصحبها تواطؤ جماعي في باطن العقل وابتدعت لها أمثالا تكسب بها قدرا من المصداقية لدعواها بأن بعض البشر ما خلقوا إلا لأداء وظائف معينة. وأن هذه الأوهام لم تجد سياسات حازمة من الدولة لإزالتها الأمر الذي أدى لاحتقان و زيادة حدة الصراع وبروز الاستقطاب الجمعي. الأمر الذي سعر من نيران الصراع تطاوله و نبش الأعراض التي أدت لثقافة العبودية. وما خفف من وطأة الأمر جعل المواطنة أساسا للحقوق والواجبات في الدولة السودانية، لما فيها من رباط موضوعي لا ذاتي لقضايا مثل الدين والعرق. ذلك العقد الاجتماعي بطبيعته يرمي لتغليب الجوامع وتقليص الفوارق بين المواطنين. وبهذا الفهم تترسخ فكرة المواطنة في العقل الجمعي و الاعتراف بالتنوع كحقيقة ثابتة وباقية تعكس الوجه الاصيل للسودان.

كما إن عــدم التكافؤ في النمو الاقتصادي بين الاقاليم و السياسات المتعاقبة لذلك خلق أنماطا من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية تحت صفوة تقليدية كان لها تأثيرها المباشر وغير المباشر في تشكيل الواقع السوداني الماثل ويمكن القــول بأن اهم الطبقات الأساسية في السودان هم:

المزارعون والرعاة و تشكل هذه الطبقة 65% من السكان حيث يعيشون في الريف ويكسبون رزقهم من استغلال الموارد المتاحة في بيئته، من خلال التكامل بين مواردهم الطبيعية ونظمهم الاجتماعية المعقدة . وتعمل هذه الشريحة في الزراعة والرعي وغالبيتهم من صغار المنتجين حيث الملكية الخاصة بالأراضي عرقية في معظم أجزاء السودان الأمر الذي أدى لحدوث صراع بين هذه الفئات نفسها وبين الرعاة والذين هم أيضا يشتغلون بالزراعة. وتعتبر الأحداث التي يشهدها إقليم دارفور ومنطقة جنوب كردفان إحدى إفرازات هذا النمط من الصراع القائم بين المزارعين والرعاة. كما أن الصراع القائم في منطقة أبيي بين الدينكا والمسيرية مصدره المرعى. وكثيرا ما نجد النزاعات الطرفية قائمة على هذه الخلفية حيث يمتهن السكان المنحدرون من قبائل زنجية حرفة الزراعة فيما يمتهن السكان المنحدرون من أصول عربية حرفة الرعي.

اما الطبقة العاملة تعتبر الطبقة العاملة في السودان من أكثر شرائح المجتمع تأثيرا على الأوضاع السياسية في البلاد، وذلك من خلال أطرها التنظيمية المتمثلة في النقابات والاتحادات والمنظمات العمالية والمهنية، وقد لعبت دورا هاما في تنظيم الاضطرابات والمظاهرات الشعبية التي شهدها السودان خلال الفترات السابقة ، بالرغم من أن معظم هؤلاء العمال يعملون مع مستخدم واحد هو الحكومة إلا أن الولاءات الأثنية والطائفية والسياسية كثيرا ما تؤثر على دور هذه الطبقة.

طبقة التجار لها تاريخ طويل في التطور الاقتصادي والسياسي في البلاد فهي تشمل التجار وأصحاب المشاريع الزراعية والصناعية وكثيرا ما تلعب دور الوسيط في الحركة السياسية حتى أصبح لها دور سياسي يمثل ثقلا اعتمدت عليه كل النظم التي حكمت السودان. وينحدر معظم المنتمين لهذه الطبقة من شمال السودان ومن مجموعات اثنية تتمركز في الشمال والوسط. حيث ينظر الجنوبيون لها بأنها شاركت خلال حقبة ما قبل الاستقلال في تجارة الرقيق وقد عرفت باسم الجلابة باعتبارهم يجلبون البضائع. وقد تطور هذا المصطلح إلى مفهوم سياسي لتعريف فئة اجتماعية لعبت دورا تاريخيا في المجتمع السوداني .

طبقة القيادات التقليدية تشمل هذه الشريحة في تركيبة المجتمع السوداني قيادات الإدارة الأهلية وقيادات الطرق الصوفية وزعماء القبائل والعشائر. فقد عملت الإدارة البريطانية على استقطاب واستخدام القيادات الأهلية ومنحها سلطات إدارية وأمنية لبسط سيطرتها على مختلف أنحاء القطر . ويعتبر الزعماء الدينيون جزءا من هذه الطبقة. فهنالك طائفتان دينيتان في السودان تركتا بصماتهما على الحياة السياسية المعاصرة منذ الثلاثينات من القرن الماضي وهما طائفة الأنصار وطائفة الختمية.

 


التنوع الثقافي والديني في السـودان

برزت عدة مفاهيم وتعريفات للثقافة بمعناها الشامل فقد عرفها الكاتب الأمريكي"تيلر" بأنها كل متكامل فحواه الآداب والتقليد الموروث والعادات والمعتقدات والأخلاق والقانون والمعرفة والمكتسبات التي أنجزتها الأجيال المتلاحقة، وبمعنى آخر فانه المكون الذي نراه منعكسا في الآثار والفنون والابتكارات والتقنية والفلوكلور والعلوم وحتى الفكر، تلك هي العناصر التي تضفي على كل مجتمع طابعه الخاص " ويمكن تقسيم الثقافة من حيث الممارسة إلى ثقافة عمومية،وهي القاسم المشترك الذي يجمع كافة الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، وثقافة خصوصية ذات لونية محددة تتميز بها مجموعة محددة داخل الجماعة الأم كاللغة الخاصة والمعتقد والفنون المختلفة. فالثقافة لا تنشأ من فراغ بل هي نتاج خبرات إنسانية تراكمية متفق عليها نسبيا ومع مرور الزمن تصبح المرجع الأساسي للعقل الجمعي للمجتمعات وتتحكم في تصرفاتهم وسلوكهم وفقا للتطور التاريخي للحياة، يتم ذلك في ظل قناعات الجماعات الثقافية المعينة لذلك، فان فإن أي محاولات للمسخ الثقافي والتعالي والتهميش قد تؤدي إلى نشوء الصراعات و النزاعات، وتلعب مؤثرات تاريخية وجغرافية بيئية كالمناخ أو التساكن (كالتنشئة الاجتماعية) أو اقتصادية (كالزراعة أو الرعي أو الصناعة) أو سياسية (نوع الحكم والمشاركة والدولة) دورا في تشكيل السلوك الثقافي المتنوع .

إن موضوع التنوع الثقافي واحد من الموضوعات التي احتلت مكانا بارزا في برامج المؤسسات الدولية المعينة—ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث نظمت اليونسكو في عام 1998 مؤتمرا لدراسة التنوع الثقافي في العالم وأصدرت تقريرها الذي أكد أن الثقافة هي مجموعة من الملامح الروحية والفكرية والوجدانية التي تميز مجتمعا ما أو مجموعة ما عن غيرها .

السودان بلد زاخر بالتنوع الثقافي والديني فهو يشكل فسيفساء تستوعب داخلها نحو 595 مجموعة قبلية تتحدث أكثر من مئة لغة ولهجة من غير العربية . هذا الثراء الالسني يتبعه كذلك تنوع في أوجه الإبداع الثقافي الأخرى مثل الموسيقى والأغاني والأحاجي والأعمال اليدوية والحرفية، حيث يشكل الرقص والموسيقى عناصر فاعلة في تكوين الثقافي لأهل السودان إذ لا يخلو منشط من مناشط الحياة الاجتماعية منها. كما تستخدم وبأشكال مختلفة في الأفراح والوفاة والأعياد والمناسبات القومية.

الثقافة العربية لعبت دورا مركزيا في تشكيل الهوية السودانية في مجالين: الأول كوسيط لغوي للتواصل بين شتى الأقوام، والثانية كوسيلة للنفاذ على فضاء معرفي أوسع. فمركزية الثقافة العربية لا يمكن إنكارها بل كان يمكن أن تحقق وحدة السودان المرتجاة لولا ما أشير إليه سابقا من سياسات استعمارية وقفت عائقا في تمددها وانتشارها، فضلا عن النظرة القاصرة لبعض النخب السودانية تجاه الثقافات الإفريقية التي لا ترى فيها غير الجانب الفولكلوري انطلاقا من معايير قيمية ممعنة في التمركز حول الذات مما أدى إلى تصنيف الثقافة العربية من بعض المجموعات الإفريقية إلى أنها هرمية استعلائية في محاولة لاستدعاء رواسب ثقافة الاسترقاق وربطها بالصراع القائم اليوم وتصوير دعاة الثقافة العربية بأنهم يستحقرون الثقافة السودانية غير العربية واختزال الثقافات الإفريقية كلها في الجانب الفولكلوري الطقوسي. وقد شهدت الساحة السودانية قيام العديد من التنظيمات التي كانت تهدف للاحتفاظ بتفردها وكينونتها الثقافية، ولعل ابرز هذه التنظيمات الاتحاد الفدرالي الذي يمثل ابناء الفور في الغرب، واتحاد أبناء جبال النوبة في وسط البلاد ومؤتمر البجة في شرق السودان. وكان العامل المشترك لدى هذه التنظيمات هو المطالبة بالمزيد من المشاركة في السلطة المركزية وإعادة بعث الثقافة المحلية وحماية الأقليات العرقية.


أدي الصراع القائم بين المركز و الأطراف و إلي مصطلح التهميش إن المحاولات الرامية إلى تهميش الثقافات السودانية غير العربية هي في حقيقتها تعبير عن عصبية ثقافية. وكان من حسن حظ السودان ان المظالم التي عبر عنها أبناء الجنوب وبعض المناطق المهمشة الأخرى كانت دوما مظالم سياسية واقتصادية وكان يمكن معالجتها في هذا الإطار. ولكن السياسات الخاطئة التي سادت خلال الحكم الوطني رأي فيها أنها البعض أضفت إلى تلك الظلامات أبعادا ثفافية تتمثل في طرح اللغة العربية والحضارة الاسلامية كركائز اساسية للهوية السودانية دون النظر الى الثقافات الافريقية الاخرى واتاحة الفرصة الكافية لها لتعبر عن نفسها بشكل متوازن مع الثقافة العربية الاسلامية " فمثلا قامت وزارة الثقافة والاعلام بمراجعة التراث الفولكلوري لانتقاء ما وصفته بالاغاني الخاصة وحجب الأغاني الموصوفة بأنها غير لائقة كتلك التي تتغزل في وصف المرأة او التي يقسم فيها الملحن بغير الله وهذه تمثل بعدا في ثقافة الجماعات الوثنية في بعض مناطق السودان. كما ان تغيير العملة من الجنيه الى الدينار يرى فيه غير المسلمون صبغا للعملة الرسمية بالصبغة الاسلامية حيث ساد الدينار في العصر الاسلامي الاول، فضلا عن النزعة الاسلامية في عقيدة الجيش القتالية وربطها بالجهاد واتخاذ مسميات للكتائب" .

في تصريح لمدير الهيئة القومية للاذاعة اشار إلى حدوث تغيير في نوعية البرمجة والاشكال الاذاعية المستخدمة في الاخراج "والمراقب يلمس فيها الوجه الإسلامي خلال ما قدم من برامج دون ان نسمي ذلك ولذلك اسقطنا ما يسمى بالبرامج الدينية. ويبدو التوجه الاسلامي في كل البرامج وبشكل خاص الثقافية والمنوعات السياسية وعن النسب المعمول بها من ناحية تنويعات المادة الإذاعية يقول النسب التي يعمل بها قبل الثورة كانت ضعيفة جدا، الاخبار والسياسة كانت 25% والإرشاد والتوجيه12% والثقافية البحتة 8% وبرامج تنمية المجتمع 5% فأجملنا كل هذه النسب في الإدارة الثقافية والتي منحت أكبر نسبة على مدى السنوات الماضية 33% وتضم الدين والتعليم والثقافة والآداب والتوعية والتوجيه والإرشاد" .

وفي جانب المنهج التعليمية طلب من الجامعات ودور العلم الأخرى توخي الحذر عند وضع المقررات الدراسية فعلى سبيل المثال لم تجعل وزارة التربية والتعليم رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ضمن مناهج التعليم بدعوى أنها غير أخلاقية وتعكس الواقع السوداني بثوب خليع غير مكترث للحشمة والحياء. هذه السياسات جعلت بعض الجماعات غير العربية تعتبر أن هناك هيمنة من قبل المستعربين بغرض تغليب الهوية العربية ورفع شأنها على أساس أنها المكون الأوحد للثقافة السودانية وتهميش الثقافة الافريقية بدعاوي التحريم والبدائية وخلوها من القيم الأخلاقية. ولا تخلو قضية الهيمنة الثقافية من خلفيات تاريخية فالنخب السياسية السودانية قديما أخذتها الحماسة المفرطة في تسيد الثقافةالاسلامية العربية على البلاد فمثلا تصريح وزير المعارف علي عبد الرحمن في جلسة البرلمان الدورة الأولى عام 1958 يقول" إن السودان دولة عربية، ومن لا يشعر بأنه عربي فعليه مغادرة البلاد " جاء ذلك ردا على طلب تقدم به عضو جنوبي في نفس البرلمان يلتمس فيه اتخاذ اللغة الإنجليزية كلغة رسمية لأهل الجنوب، هذا النوع من التصريح أعطى الساسة الجنوبييين ذخيرة لا تنفذ في حربهم الثقافية ضد الشمال. سيما وأن الاعتراف بأي لغة غير اللغة السائدة كلغة عمل حسبما تقتضي الضرورات أمر ليس بالغريب. وقد اعتمد البرلمان السوداني فيما بعد اللغة الإنجليزية كلغة عمل، كما اتفاقية نيفاشا مؤخرا، فاللغة ليست أكثر من وسيط رمزي للتواصل بين البشر وقد صرح المثقف الجنوبي"فرانسيس دينق" عقب اتفاقية أديس أبابا مؤكد " ان الاعتراف بالبشر كما هم واحترام خصائصهم الثقافية كما هي يجعلهم أكثر رغبة في تبني النموذج الثقافي للمجموعات التي يتفاعلون معها على نحو أكبر" .

إن تجربة بعض مناطق التماس بين الشمال والجنوب تكشف بأن قضية الانتماء أو الهوية يمكن إعادة صياغتها إذا توفرت الشروط المناسبة وفي مقدمتها الثقة بين الأطراف وان الخوف من طمس الهوية يزداد عندما يحمل معه آلية السيطرة والهيمنة فتجربة منطقة أبيي وجبال النوبة والأنقسنا تعكس التلاقح الثقافي بين الثقافة العربية والأفريقية. فالشمال قاوم محاولات العرب عند دخولهم غزوا للسيطرة على البلاد ولكن عندما جاءوا للعمل كتجار داخل السودان ظل نفوذهم يتزايد ويتسع حتى تمكنوا من السيطرة على مقاليد الأمور ، فالثقافات النوبية في الشمال سابقة للإسلام والثقافات الجنوبية ذات جذور مشتركة معها، فجميعها ترتكز في الميل الشديد لنظام الأسرة الذي يتخذ أشكالا متعددة من الاحترام والتقدير للأسلاف وثقافاتهم. كما أن هناك العديد من العادات والثقافات ذات الطابع المسيحي مازال سكان الشمال رغم مظاهر الاسلمة يعملون بها فمثلا ظاهرة تعميد الأطفال لاتزال العديد من الأسر حتى الآن تتبع تلك العادة الشائعة عند المسيحيين . الوضع في الجنوب تنطبق عليه التعريفات ذات الطابع السيسلوجي المرتبط بأوصاف الاثنية القبلية أكثر من اوصاف القومية وشبه القومية،وذلك يعني أنه لا يزال في طور التكوين والتبلور ولم يستكمل مقومات تكوينه القومي بعد، بيدأن هذا لا يقلل من قيمته وخصوصيته الثقافية.

 

لقد ظل الجنوبيون التقليديون يحتفظون بثقافة تركز على الإنكفاء الداخلي وترفض أي نوع من الاستيعاب، بيد أنها تتبنى بشكل إنتقائي وتدريجي بعض جوانب الثقافات الاخرى التي تتكيف معها ودمجها في نسيجها الخاص. كما أن بعض المثقفين الجنوبيين ذهبوا لوضع الشمال كله في قائمة الاتهام بسبب أخطاء النخب الطبقة الحاكمة فنجد بعض التصريحات غير المحسوبة الصادرة عن مسئولين في القمة مثل " محمد أحمد المحجوب" المفكر السوداني المعروف ورئيس الوزراء السابق الذي تحدث عن الثقافة السودانية في إحدى المحاضرات التي القاها على النحو: " إن الثقافة السودانية المميزة لابد أن تعتمد على التراث العربي والاسلامي وتغذي نفسها بالفكر الاوروبي بهدف خلق فكر قومي حقيقي يعبر عن خصائص شعب السودان في صحاريه وغاباته" الأمر الذي يؤشر على تغليب الثقافة العربية للسودان حسب تقديرات من يتبنون الثقافات الاخري.

مما لاشـك ان عملية التفاعل الثقافي بين الشمال والجـنوب قد ولدت ثقافة سودانية في بعض مناطق التماس وكان يمكن ان تصبح منطقة لتلاقح ثقافات حيث لاحظ البروفسور"مزروعي" حين اشار إلى أن الانقسام العربي الافريقي في السودان لا يعبر عن تشعب ثنائي بقدر ما يعبر عن تواصل معقد، يرى مزروعي ان التكامل الوطني يتطلب تساميا فوق كافة الخصائص العرقية والثقافية للجماعات المتفرقة . وقد تضمن دستور السودان مادة تتحدث عن حرمة المجتمعات الثقافية. وتنص على ان يكفل لكل مجتمع أو جماعة من المواطنين حق الاحتفاظ بثقافتهم الاصلية ولغتهم، وممارســة شعائر دينهم ولا يجوز إجبارهم على طمس كل ما سبق أو التخلي عنه. مما يعكس تحولا في فكر السياسي الشمالي بضرورة قبــول الآخر والتحول من الرؤية الأحادية للثقافة و طرح مفهوم جديد يقوم علي المواطنة.

يتضح مما سبق أن هناك شريحة كبيرة من النخب ترى بأن العروبة والاسلام هما المحددان الوحيدان للهوية الثقافية السودانية. وهذا الافتراض الخاطىء قاد إلى استقطاب ثقافي حاد ساعد في تباعد الأطراف لربما لو أخذنا البعد العربي وحده كمحدد للهوية الثقافية لأصبح الأمر سهلا باعتبار أن اللغة العربية أصبحث لسان التواصل بين أهل السودان كافة حتى داخل المجموعات غير العربية، ولكن دخول الدين كمحدد للهوية الوطنية زاد المشكلة تعقيدا فالتعددية الدينية في السودان تلاحظ حتى في الاسرة الواحدة. التي يكون من بين افرادها المسلم والمسيحي وصاحب المعتقدات المحلية، خاصة في مناطق التداخل بين الشمال والجنوب كجبال النوبة والأنقسنا كما ان الديانة المسيحية بكافة تفريعاتها الكاثلوكية، البروتستانية والأرثوذكسية والمارونية منتشرة في أرجاء البلاد فالدين حقيقة من حقائق الحياة في كل المجتمعات. وقد تعايشت الديانات في السودان جنبا الى جنب منذ زمن سحيق. ولكن بروز موضوع الدين في الحياة السياسية ظهر عقب الاستقلال عندما طالب الجنوبيين بالنظام الفدرالي مقابل تطبيق الشريعة الاسلامية. فاصبح موضوع الدين الشعار الاساسي في كل البرامج الانتخابية للاحزاب في الشمال عدا أحزاب اليسار فحزب الامة نادى ببرنامج الصحوة الاسلامية والجبهة الاسلامية القومية دعت الى الميثاق الاسلامي والحزب الاتحادي الديمقراطي نادى بالجمهورية الاسلامية.

وحقيقة الامر فان الاحزاب الشمالية في معالجتها لقضية الجنوب اقنعت نفسها منذ البداية بان القضية لا تحل الا عبر التعريب و الاسلمة. وحسب منطق اهل هذا المفهوم فان ساسة الجنوب الذين تربوا في احضان الكنيسة لا يمثلون الا خميرة عكننه او عقبة كئود في سبيل توحيد السودان مما ادى الى ان يتبنى الساسة الجنوبيون الدعوة الى الفدرالية في نظام الحكم والمناداة بضرورة الاعتراف بالخصائص الثقافية لاقاليم جنوب السودان، وبحقيقة تعدد الاديان. كل هذه الامور حسب اهل الشمال ذرائع جاء بها الاستعمال فقد كان الحكم البريطاني يشير الى هذه الامور ويصر على تأكيدها في مشروعات الدساتير التي صاغا بهدف رعاية مصالح الجنوب1.


أن أول بلاد دخلتها النصرانية في افريقيا كان هي مصر والسودان واثيوبيا منذ القرن السابع الميلادي قبل وصول العرب الى السودان. وانتقلت المسيحية لجنوب السودان في العهد التركي حيث انشات ابرشيتين رئاسة الاولى في الخرطوم والثانية في أم درمان لتشرف على الجنوب وأوغندا، وبعد انتصار الثورة المهدية غادر معظم القساوسة السودان خاصة الاقباط عائدين الى مصر مصطحبين معهم الالاف من اتباعهم. كما ان الكنيسة الكاثولوكية التي اقامت اول بعثة للكرسي الرسولي في الخرطوم اهتمت بايفاد ممثلين من الجنوب لدراسة اللاهوت وتوسعت في انشاء الكنائس حيث تم تشيد كنيسة اخرى في جونقلي في موقع يعرف حاليا باسم " كنيسة " كما شيدت كنيسة أخرى في مدينة فازوغلي على الحدود الاثيوبية ومن ضمن الذين تم ابعاثهم الى فيرونا "السيدة بخيتة" وهي فتاة من قبيلة الداجو بدارفور يعتقد انها بيعت كرقيق في منطقة الضعين فلجأت إلى الكنيسة وتنصرت. وكان لهذه الفتاة شأن كبير إذ عملت الكنيسة على تدريبها في مجالات الخدمة الانسانية وبلغت شأوا عاليا حيث تم تعميدها قديسة في أواخر الثمانينات. وتعتبر أول شخص أسود يحظى بهذا الموقع المقدس في المنظومة الكاثلوكية . وقد ظلت الحادثة تشكل علامة بارزة في التاريخ الكنسي في السودان. بيدأن التعايش بين الأديان في السودان مسالة يعترف بها الجميع ويتحسسها كل زائر إلى البلاد. وقد أعان على ذلك الاسلام الشعبي الصوفي حبث تأثر السودان به أبان قيام الممالك الاسلامية. وانتشرت الطرق الصوفية التي نشأت في شمال افريقيا مثل التجانية والقادرية والسمانية. وقد برز الدين كفاعل في السياسة بعد إعلان الرئيس السابق جعفر نميري تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية في العام 1983، الأمر الذي زاد من "الأجندة" الحربية لدى الجنوبيين بالرغم من أن تطبيق الشريعة جاء بعد قيام حركة التمرد بفترة وجيزة. فدخول الدين في الصراع في مجتمع كالسودان يشكل المسلمون غالبية فيه وله تجربة اسلامية عريقة تتمثل في الدولة المهدية التي حكمت السودان في ظل الشريعة الإسلامية لأكثر من عشرين عاما خلت تشكل محور الصراع بالنسبة للشمال والجنوب معا يصعب التراجع عن المشروع الاسلامي والانتقال للعلمانية مرة أخرى رغم الإغراءات التي تطرحها، لان القبول بالعلمانية خصوصا في سودان ما بعد الشريعة فيه كثير من الصعوبات والانتحار السياسي. وفي ذلك يقول" علي مزروعي" ان الشريعة الاسلامية بمجرد تطبيقها يكون من الصعب التراجع عنها . فواقع السودان هو واقع الدولة الوطنية متعددة الاديان متنوعة الرؤى حول الدين الواحد وهذا ما ذهب إليه" إتفاق مشاكوس" حين أقرت مبدأ المواطنة والاعتراف بأن السودان وطن متعدد الأديان والأعراق. كانت فترة حكم الانقاذ من أكثر الفترات التي برز فيها الخطاب الاسلامي بشكل كبير وذلك عندما طرحت مشروعها الحضاري الذي يرتكز على بعث الحضارة العربية والاسلامية الأمر الذي أدي لردود فعل داخلية وخارجية واسعة، حيث استطاع خصومها في الداخل تصوير المشروع الحضاري على أنه يهدف لأسلمه الجنوب ومصادرة حرية الاعتقاد ودللوا على ذلك بالشعارات التي نادت بها وعلى رأسها الحملات الجهادية ضد التمرد في الجنوب. أما خارجيا فقد أتهمها البعض بأن مشروع الإنقاذ يهدف لتصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار لاسيما في منطقة القرن الافريقي الأمر الذي ادى لمحاولة عزل النظام وفرض عقوبات دولية عليه. ومهما يكن فإن الحقيقة الراسخة التي لا جدال حولها هي أن الخلفية الدينية لسكان الشمال قائمة على الإسلام وقد تطور الإسلام تاريخيا وأصبح أساسا للقيم المعيارية التي يحتكم إليها أهل الشمال قاطبة ولعب الاسلام الشعبي المتمثل في الطرق الصوفية دورا هاما في تكييف و تشكيل الوعي الجمعي لسكان الشمال خاصة على عهد الدولة المهدية التي شكلت الوجدان السوداني وارست الأفكار الأساسية التي قامت عليها الهوية السودانية وفق التعدد القبلي والاثني والديني. ومنذ المهدية لم يبرز الخطاب الديني بشكل حاد إلا بعد تبني الرئيس نميري لقوانين الشريعة الاسلامية مطلع الثمانينات من القرن الماضي وقد أدت لان تتبني الأحزاب السياسية في برامجها الخط الإسلامي في صياغة الحياة السياسية عبر الشعارات الدينية وأصبحت قضية الدين والسياسة واحدة من القضايا البارزة في برامجها.

و أصبح هناك توافق لاحقا عام وسط النخبة السياسية السودانية حول قضية الدين والتنوع الاثني والثقافي في السودان، برز ذلك بشكل واضح في برنامج الأحزاب السياسية والمواقف الرسمية للحكومة وبعض القوى الجنوبية. ويتضمن هذا التوافق ضرورة إعادة النظر في المكونات التي تحدد الهوية القومية السودانية وعملية الاندماج الوطني داخل الكيان السوداني الموحد بارتباطه بالثقافتين العربية والإفريقية في إطار تسوية وطنية تاريخية ترتكز على جعل الديمقراطية والمساواة وحقوق المواطنة وواجباتها هي الاساس. مع ذلك يبقى السؤال قائما ما هي حدود هذا التعدد والتنوع وماهي استحقاقاته المباشرة ودوره العملي في الحياة الوطنية وبناء الدولة الموحدة ؟ لان الإجابة علي هذه التساؤلات ظل سكوت عنها حتي قادت للحرب الأهلية وتدويل الازمة السودانية ودفعها في اتجاه تفكيك وحدة هذه البلاد وتمزيقها على اسس عرقية ضيقة مع غياب الديمقراطية واتساع مساحة النزاع تعقد الصراع وتحولت قضية الهوية من مجالها الثقافي إلى المجال السياسي واستخدامها في الإثارة والتحريض والاستقطاب وتصوير السودان كمجموعات قبلية وإثنية متصارعة تهدد وحدته. بيدأن الاعتراف بواقع التعدد الثقافي والديني والاثني يعني ان السودان ليس قومية واحدة حسب التعريف العلمي لمفهوم القومية أي ان هويته مركبة من عدة قوميات بعضها مكتمل والآخر لايزال في طور التبلور، فالهوية الوطنية بمعناها الحديث ظهرت مع بدايات الحركة الوطنية الحديثة في ظروف مواجهة الاستعمار البريطاني وبداية إحتكاكها بالحضارة الغربية وعملية التحديث ولذلك كان التركيز على اللغة العربية والاسلام بحكم دورهما الأساسي في بناء الدولة السودانية وتعزيز وحدته وقد ساعد على المفهوم وتطوره عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية تشمل نشؤ الطبقة الوسطى من التجار والأفندية والتي ارتبط نشاطها في المدارس والجامعات ومكاتب الدولة والأسواق حيث لعبت دورا هاما في نشر الوعي الجديد لمفهوم الوطنية السودانية،التي ترتكز على الحضارة العربية الاسلامية وتتكامل مع البيئة السودانية وفق ماتم في القارة الافريقية سواء كان ذلك في شرق افريقيا أو شمالها .

الأزمة السودانية في جوهرها ازمة فكرية اجتماعية تتعلق بفهم طبيعة التركيبة الاثنية الثقافية الدينية للشعب السوداني وكيفية تعايش هذه المجموعات مع بعضها البعض لتشكيل هوية ثقافية مشتركة تعكس كل هذا التنوع الواسع. وقد ظهر ضوء في آخر النفق من خلال حركة الحوار الوطني الدائر بين مختلف القوى السياسية والجهوية يركز على الاعتراف بالآخر وبالتعدد الاثني والثقافي والديني في البلاد من خلال مقررات أسمرا التي جسدت رؤية المعارضة الشمالية واتفاق مشاكوس الذي أبرز رؤية الحركة الشعبية والحكومة السودانية الأمر الذي يقود لإعادة النظر في المكونات الاساسية التي تقوم عليها في الهوية القومية للسودان وعملية الاندماج الوطني داخل الكيان السوداني الموحد بارتباطاته العربية والافريقية من خلال تسوية سليمة ترتكز على الديمقراطية والمساواة وحقوق المواطنة وواجباتها، وهذا يقود لمناقشة إشكالية الهوية ومالحق بها من تشوهات فضلا عن الدور العربي والافريقي في تشكيل الهوية القومية السودانية.

 


الدور العربي والإفريقي في تشكيل الهوية السودانية


إن التعريب بمعنى التمازج العرقي والثقافي والديني في السودان بدأت تأثيراته قبل ظهور الإسلام في المنطقة إذ لم يكن السودان كله موحدا خلال تاريخه الوسيط، حيث قامت في البداية ثلاث دويلات هي نوباتيا والمقرة في الشمال وعلوة في الوسط وعاصمتها سوبا جنوب الخرطوم، فيما بعد توحدت نوباتيا والمقرة في دولة واحدة عاصمتها دنقلا. لقد نعمت البلاد باستقرار سياسي لفترة طويلة أثمر خلالها تلاحم الثقافات المحلية مع الديانة المسيحية الوافدة وأحدثت رصيدا حضاريا مميزا كانت حصيلته الأهرامات في شمال السودان القائمة حتى اليوم والفنون الزخرفية واللوحات التي تزين الكنائس وفي الإنجيل المكتوب باللغة النوبية القديمة .

وعندما سقطت الدولة المسيحية نتيجة للهجرات العربية المتتالية إلى السودان ومصر، اعتنق سكان شمال السودان ووسطه الدين الإسلامي بشكل تدريجي وبمرور الوقت اتخذوا من العربية لغة تجمع بين فئات المجتمع المختلفة كما بدأت عمليات المصاهرة تلقي بظلالها في التركيب السكاني للسودانيين.

وتشير المصادر التاريخية إلى دخول العرب السودان بأعداد قليلة منذ عهد حمير عبر البحر الأحمر أو عبر سيناء جنوبا إلى السودان الشرقي. ولكن الأعداد الكبيرة منهم تسربت من مصر بعد الفتح الإسلامي ثم جاءت أفواج أخرى من الشمال الإفريقي. واجه العرب المسلمون في البداية مقاومة شرسة من الدولة المسيحية في دنقلا التي خاضت ضدهم حربا دفاعية قوية أدت إلى عقد اتفاقية سلام مع المسلمين تحفظ حقوق الطرفين في التنقل ودفع الجزية ووقف الاعتداء المتبادل وصارت بلاد النوبة بموجب هذه الاتفاقية التي عرفت بالبقط خارج داري الحرب والإسلام في آن واحد . ولم يحسم الأمر لصالح المسلمين إلا بعد ما دب الوهن في عضد الدولة المسيحية لأسباب كثيرة منها الأثر العربي الذي نتج من خلال توغل أعداد كبيرة من المهاجرين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر حيث انهارت الدولة في 1371 وأسلم آخر حكامها وانفتح الباب واسعا أمام العرب والمستعربين لتأسيس الممالك والسلطنات الإسلامية مثل سلطنة سنار وسلطنة الفور .

لم تحظ الفترة الإسلامية في السودان بعمل آثاري كغيرها من فترات التاريخ السوداني. ففي المنطقة الشمالية الأوفر حظا في هذه الدراسات لم تعن البعثات العلمية الأجنبية إلا بعدد محدود جدا من المستوطنات الإسلامية إذ لم تكن ضمن اهتمام العلماء الأجانب. وقد أهملت تلك الآثار من منطلق أنها حديثة ولا تفيد في معرفة واقع يرونه ماثلا أمامهم، أما في بقية أقاليم السودان فظل العمل الآثاري في مجال الآثار الإسلامية غير معروف ما عدا ما جمع من نقوش وشواهد قبور إضافة للوصف العام لقباب ومدافن الفقهاء وشيوخ الطرق الصوفية ووصف العمارة والآثار العثمانية في مدينة سواكن في شرق البلاد. فيما تشير الأبحاث إلى استمرار الاستيطان في المواقع المسيحية ولكن المباني تدهورت بعد ذلك ولم يجر ترميمها أو بناء مثيل لها. ويعتبر المقريزي وابن خلدون من أهم المؤرخين للهجرات العربية إلى السودان ، ولم يكتب السودانيون أنفسهم إلا القليل.

ومن أهم ما عرف من مؤلفات محلية ومخطوطة " ابن ضيف الله " المعروفة بالطبقات التي وضعها بلغة عربية محلية في مطلع القرن التاسع عشر وتحوي المخطوطة معلومات مفصلة عن مشاهير الفقهاء ورجال الدين كما تعد مصدرا أوليا للحياة الدينية والاجتماعية والسياسية لفترة مملكة الفونج الإسلامية التي قامت وسط السودان مطلع القرن السادس عشر. ويذكر في هذا السياق وثائق تمليك الأرض عند الفونج وشجرات النسب التي تؤرخ للأسرة السودانية وتحدد أصولها العربية التي يراد لها دائما النقاء العربي بمدها إلى العباس عم الرسول (ص) .

من جهة أخرى نجد أن تاريخ الممالك والمشيخات الإسلامية التي قامت في أقاليم السودان الأخرى مثل العبدلاب شمال الخرطوم وتقلي والمسبعات في إقليم كردفان ومملكة الفور في الغرب يستمد من نفس المصادر المشار إليها والتي خطها أصحابها في مناخات تدعو لتأصيل النسب العربي القرشي وتهمل العنصر المحلي. وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن التزاوج بين العرب والسكان المحليين فإن التاريخ القبلي يصر على ذكر الأب والجد العربي الأول، لهذا فإن المصادر المتوفرة لا تمكن من الحصول على معلومات تفيد في معرفة عمليات المزج السلالي أو تعريب السكان المحليين. ويبقى الحكم في ذلك من خلال النتائج فقط، لكن الواضح أن معظم الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان ظلت تعمل بشكل مستمر على تكريس الهوية العربية الإسلامية وتعزيزها.

من أشهر مصادر التاريخ الشعبي السوداني الدارسة التي قام بها مكمايل أحد رجال الإدارة البريطانية في السودان حاول من خلالها وضع الأساس لتاريخ العرب في السودان حيث ذكر ما لايقل عن مائة قبيلة يعود نسبها لأصول عربية خالصة. وقد قسمت دراسة مكمايل السودانيين إلى طبقتين عرب وغير عرب. شكلت هذه الدراسة إطارا للدراسات التاريخية اللاحقة .

فيما يتعلق بوحدة أقاليم السودان فإن أيا من الممالك الإسلامية آنفة الذكر لم تتمكن من بسط نفوذها على كل أو معظم أقاليم السودان، ومع أن النظام كان اسلاميا في ظاهره، لكن كثير من العادات والطقوس المحلية القديمة ما زالت تجد تعبيراتها في حياة الأمراء ومساعديهم أو عامة الناس على الطريقة الوثنية أو المسيحية. بيد أن انتشار الإسلام وتزايد نفوذ رجال الدين كان عاملا فاعلا في انتشار اللغة العربية وربط أقاليم السودان الوسطى والشمالية في وحدة اجتماعية وسياسية كاملة .

عندما أكملت جيوش محمد علي باشا غزو البلاد وأقامت ما يعرف بالحكم التركي المصري كان من نتائج هذا الحكم الذي استمر ستون عاما توحيد كل أقاليم السودان واخضاعها لحكم مركزي. وقد وضع الحكم التركي المصري أسسا حديثة للإدارات المحلية وربط السودان بالعالم الخارجي. انتهى الحكم بنجاح الثورة المهدية وهي أول ثورة تحررية في القارة الإفريقية تقوم على فلسفة دينية تهدف لتوحيد كلمة المسلمين وإزاحة الحكم الأجنبي وقد كتب لها النجاح ولكنها لم تستمر طويلا إلا أن آثارها الإسلامية العربية ظلت باقية إلى يومنا هذا.

 

 

إذن كيف ينظر السودانيون اليوم إلى ذلك التاريخ الثقافي ؟ و كيف يقيمونه خاصة عندما يتصل الأمر بالهوية وتأصيل الشخصية الوطنية ؟ وهل تعتبر الحرب القائمة اليوم واحدة من أدوات حسم الهوية السودانية ؟ في ذلك يذهب عامة الناس وصفوتهم مذاهب شتى، فالتاريخ القديم بمعطياته الآثارية والحضارية لم يتسرب بدرجة كافية في الأدبيات المنشورة العامة وأن الموروث الثقافي الشائع في تناول هوية السودان يتوقف عند سؤال هل هوية السودان عربية أم إفريقية ؟ لقد طرحت قضية الهوية السودانية في حوارات تتركز حول جدلية العروبة والأفريقانية مع اتخاذها أشكالا ومناحى متباينة، وفي ذلك يرى البروفيسور يوسف فضل (أن تكوين السودان بدأ في الإطار الجغرافي الحالي للبلاد منذ دولة كوش القديمة وما لحقها من حضارات في العصر الوسيط وأن السودانيين الحاليين يغلب في تكوينهم العرقي العنصر الأفريقي. كما أن عمليات التزاوج و الانصهار مع العرب الوافدين أنتجت أجيالا من المستعربين.ويضيف إن عروبة السودان بالمولد وباللغة والوجدان ولكن الهجين الماثل للعيان لايجعل منهم عربا خلصا .)

وفي مجال آخر يناقش انتشار اللغة العربية وثقافتها في وسط البلاد و اضمحلال نفوذها كلما ابتعدنا عن مركز الوسط حيث لا تزال اللغات الأفريقية المحلية رائجة تقاوم تيار التعريب مما يؤكد قوة الثقافة الأفريقية ويقول (يبدو أن قلة من السودانيين قد أخطأوا عن جهل حينا تطرفوا في المبالغة بانتسابهم للعرب دون سواهم ولعل في هذا التطرف من جهة والتمسك بالحضارة الإسلامية العربية من جهة أخرى محاولة لإيجاد سند حضاري يتكئون عليه بعدد أن هزم الاستعمار الإنجليزي ثورتهم المهدية واغتصب بلادهم وكاد أن يحتويهم بحضارته الأوروبية) ويبدو أن مثل هذه الآراء تشجع الآن دعاة الأفريقانية وتمنحهم ذخيرة لمواجهة دعاة العروبة لاتخاذ مواقف متطرفة إلى حد الاقتناع لتغليب الهوية الأفريقية.

 

عند النظر لهذه الحوارات بشأن الهوية السودانية وعلاقاتها بالمكون التاريخي يجد المرء تباينا وغموضا في استخدام المصطلحات مثل الهوية السودانية والقومية الوطنية والشخصية السودانية،فإذا نظرنا إلى الأوعية التي تحفظ الفكر والثقافة السودانية لمعرفة أصول الهوية السودانية، تجد أنها تركز على الأدب السوداني بخاصة الشعر العربي الفصيح، ثم القصة والمقال ووجد أنها تؤرخ للهوية السودانية من خلال الموروث العربي الإسلامي غير عابئة بما قبله، كما أن هذه الإسهامات تركز على بعض الأقاليم السودانية مثل الشمالية والإقليم الأوسط عندما يستدعي العودة على الموروث الثقافي القديم.

ولعل الأطروحة الأكثر رواجا في موضوع الهوية السودانية تقوم على التمازج والانصهار بين القبائل العربية الإسلامية والسكان المحليين الذين إستوعبتهم الثقافة العربية الإسلامية. وأول ما يلاحظ عليها إنها نادرا ما تناقش عمليات التغيير الثقافي ولا تطرح تفسيرا موضوعيا للتنوع في مستويات التعريب أو الاسلمة للمجموعات الأثنية المحلية.

يذكر الكثير من الكتاب عمليات مزج العنصر العربي مع الإفريقي وفق طريقة ميكانيكية تؤدي في النهاية إلى عنصر بيولوجي جديد وبعد ذلك تحدث معادلة أخرى غير واضحة تربط بين البيولوجي والثقافي. وفي ذلك يقول الباحث محمد المكي إبراهيم (من خلال هذا التلاقح ظهر للوجود مخلوق جديد هو السوداني الحديث الذي لايشكل دما عربيا خالصا أودما زنجيا خالصا و لكنه بالتأكيد يجمع في أنسجته بين ذينك النوعين من الدماء، ويحمل في دماغه نتائج الثقافة الأقوى والأكمل) . وفي نفس السياق ينظر الباحث عبد الغفار محمد أحمد إلى هذا المزج بأنه (نتج عن كل هذا عنصر مميز في شخصيته وثقافته وانتمائه فهو عربي اللسان والثقافة أفريقي التقاطيع،مزيج عرقي وسط يمكن أن نطلق عليه عربي أفريقي"أفرواعرب" كما يقول الفرنجة) وعلى الطرف الأخر هناك من يرى وجود مجموعات عربية خالصة في الشمال والوسط وأخرى أفريقية خالصة كما هو الحال في جنوب السودان الذي لم يتأثر بالثقافة العربية ولم يحدث أي اختلاط بها وظل خارج دائرة التأثير و التأثر الثقافي واستمر جنوب السودان بصفة عامة متميزا اثنيا وثقافيا، بالرغم من أنه لا توجد دراسات في الانثربولوجيا في حالة السودان تسمح بالخوض في ربط جنس معين بثقافة معينة.


لقد استمر الفكر العربي والإسلامي الأكثر وضوحا من غيره في الحركة الأدبية التي عبر السودانيون خلالها عن هويتهم الثقافية حيث برزت حركات إقليمية في العاصمة القومية تعبر عن طموحات ومطالب مجموعات إثنية وقبلية.تتمثل في حق الاعتراف الثقافي والمساواة في الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية وما لبثت أن تحولت إلى منظمات سياسية تناضل يفرض تحقيق تلك المطالب من مدخل الاختلاف والتنوع الثقافي ثم تطور الأمر إلى العمل العسكري المسلح كما هو في منطقة جبال لنوبة والانقسنا والبجة في الشرق وأخيرا الزغاوة والفور في الغرب. وهكذا تحول حوار الهوية إلى صراع مسلح هدد وحدة البلاد.

إلى ذلك ظهرت حركات تمثل تيارات فكرية مختلفة في تناولها لقضايا الثقافة والهوية الوطنية،عبرت عن وجهات نظرها من خلال المسرح والشعر والمقال الصحفي حيث قدموا أطروحاتهم لمعالجة الواقع السوداني من خلال الأدب محتوياته واتجاهاته وأساليبه، كما ظهرت الأراء نفسها في دراسات نقدية للفنون التشكيلية تبحث في موضوعاتها في الجوانب التاريخية لتعبيراتها المختلفة. وقد تميزت هذه الأعمال بأنها ركزت على الأصول والصفات الأفريقية للثقافة السودانية في محاولة لجعلها ندا للثقافة العربية أو متفوقة عليها مما أوجد ثنائية ربما هي غير ضرورية في تناول موضوع شائك مثل الهوية السودانية. كما أنها طرحت بقوة فكرة التنوع العرقي والثقافي في السودان وأحقية الأقليات في إبراز هوياتها الثقافية كمدخل للتمتع بحقوقها الطبيعية وذاعت في وسائط الإعلام مصطلحات لم يتم تحديد معانيها بدقة مثل (الغابة والصحراء) التي ترمي إلى تحالف بين الغابة التي يمثلها العنصر الإفريقي والصحراء التي تؤشر للعنصر العربي يقصد بها الأقليات الطرفية التي تسكن على تخوم البلاد والمدن من العناصر والأفرقانية.

إن عمليات التغير التي أحدثتها التطورات الاقتصادية والتعليمية والإدارية في السودان أثرت في تماسك الكيانات الصغيرة كما أن نتائج الهجرات والنزوح الداخلي الذي تمخض عن النزاعات القبلية وموجات جفاف، أدت إلى أن تلتحق بعض المجموعات الأثنية بمجموعات أخرى وتندمج فيها ثم تكتسب طريقة حياتها من حيث اللهجات والعادات وغيرها وفي مثل هذه الظروف تتبدل الهويات وتتشكل غيرها .

 

لقد كان انضمام السودان للجامعة العربية عقب الاستقلال أمرا طبيعيا لم يشكل عقبة أمام الطبقة السياسية التي قادت حركة المقاومة والتي شكلت من الأحزاب الوطنية الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني، إذ كان أغلبهم من الطبقة الوسطى التي حظيت بالتعليم والتدريب في دواوين الحكومة وكان جلهم ينحدر من المجموعات السكانية ذات الأصول العربية. ظلت معظم أقاليم السودان بعيدة عن التعليم الحديث لفترة طويلة بل أن بعضها ظل خارج مجريات الأحداث بفضل سياسات العزل التي فرضتها الإدارة الأجنبية والتي سبق الإشارة إليها. كان التوجه العربي الإسلامي بارزا لدى النخب الاستعمارية للاستقلال التي كانت وثيقة الصلة بالحركة الوطنية المصرية تميز خطابها في المقاومة بتوجيه عربي إسلامي في لغته ووسيلته في الاتصال والإعلام من خلال المقال والبيان الجماهيري حيث نجحت القطاعات الشعبية ذات الأصول العربية في التمدد اجتماعا وسياسيا واقتصاديا كما نجحت بدرجات متفاوتة في استقطاب المجتمعات غير العربية. وبمرور الوقت ترسخ تيار العروبة والإسلام في شكل إيديولوجيا للنخب وإنتاج ثقافي يتمثل في الكتابات التاريخية والاجتماعية.

إن قبول السودان كدولة وشعب في منظومة البلدان العربية كان حصيلة أوضاع تاريخية وثقافية تعود لفترات طويلة وذلك لأمر له مزاياه الحسنة بطبيعة الحال كما له استحقاقاته، ومما لا خلاف عليه فإن غالبيته أهل السودان يدينون بالإسلام ويتحدثون العربية بالرغم من تنوعها العرقي الواضح، فقد ساعد انضمام السودان للمنظومة العربية في تقوية الثقافة العربية ومكنها من استيعاب الجميع رغما عن التباين الإثني، وبمرور الوقت أصبحت الثقافة العربية تلقائيا هي السائدة في الأوساط الرسمية والشعبية ووسيلة التواصل الثقافي والاجتماعي في كافة أرجاء السودان المختلفة .

وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي تعقدت الأزمة السودانية وامتد النزاع إلى أقاليم البلاد الأخرى و أطرافها من غير الجنوب مثل دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان. ومعظم ساكنة هذه المناطق تنحدر من أصول غير عربية ولكن ليس من السهل إرجاع تفاقم الأوضاع إلى العوامل الداخلية فحسب وإنما أيضا عوامل خارجية ذلك لأن معطيات النظام العالمي الجديد ليست ببعيدة عن مجريات الأمور في السودان .

لا يختلف اليوم اثنان عن محورية التنوع الثقافي والأثني في النزاع السوداني وضرورة البحث عن حلول جذرية لمشكلات ظلت عالقة لسنوات طويلة وأسهمت في إعاقة تقدم البلاد وإزدهارها فأدبيات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني كلها تدعو إلى إعادة صياغة الأوضاع في السودان في أفق مفهوم مشترك يصطحب ذلك التنوع الأثني والثقافي. وصار الجدل صريحا وجريئا يتناول التفاصيل التي قام عليها المجتمع السوداني الحديث، وإنتبه البعض إلى أن الحوار الجاري الآن بين فئات المجتمع لم تشاركهم فيه الدول العربية بصورة ترقى للتحدي الذي يواجه السودان باعتباره المفوض للمنظمة العربية في الوقت الذي تحتفى فيه الدول الإفريقية مثل كينيا وأوغندا ودول الجنوب الإفريقي بقيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان حيث ظل السودان وحيدا في معركته. وإن كانت ثمة مشاركة فهي من منطلق مفهوم الأمن القومي العربي والحفاظ على وحدة السودان باعتباره بوابة العرب نحو إفريقيا ومعبر للثقافة العربية. ويرى بعض الصفوة في ذلك شعارا ضارا بالعلاقات الداخلية بين اثنيات السودان المختلفة، ناهيك عن كونها معبرا عن مفاهيم قديمة غير مناسبة حتى من منطلق الحرص على انتشار الثقافة العربية الإسلامية نفسها. وفي ذلك يقول الدكتور محمد عمر يشير (أن عدم مشاركة العرب الإيجابية في مشكلات البلاد تعود إلى هامشية عاشها السودان في علاقته العربية منذ فترات طويلة تترسخ تلك الهامشية في قلة الإلمام بخصوصية التكوين الإجتماعي للسودان كما أن المعطيات التاريخية والثقافية السودانية غير معروفة بدرجة كافية) .


رغم أن دور المنظومة العربية الإسلامية كان الأسبق في تشكيل الهوية السودانية فقد ظلت عملية الأسلمة والتعريب التي تمتد جذورها إلى فترات طويلة تجد الحماية والتشجيع طوال مختلف مراحل التاريخ السوداني من كافة الأنظمة كما سبق الإشارة إلى ذلك بما فيها الحكومة الاستعمارية البريطانية، غير المسلمة التي كانت تثير العداوة والكراهية بين الجنوب والشمال وتعمق من الانقسام بين شقي البلاد في ثنائية تقوم بين الشمال والجنوب من خلال سياسة فرق تسد مما أدى إلى اتساع الفجوة جراء تلك السياسات وسياسات الأسلمة والتعريب التي اتخذت منهج العنف والعمل العسكري المسلح لحل مشكلة الجنوب . يعكس ذلك كله رئيس حكومة الجنوب المؤقتة في المنفى السيد أقرى جادين خلال حديثه في مؤتمر المائدة المستديرة الذي يؤكد أنه مع انقسام السودان إلى مجموعتين عرقيتين عربية "هجين" في الشمال ومجموعة إفريقية خالصة في الجنوب. وأن هذا الواقع يكرس قيام دولتين مستقبلا وأنه ليس هناك أي أساس لتوحيدهما لعدم وجود قواسم مشتركة حسب زعمه فلا يوجد عقيدة مشتركة أو سمات موحدة وفوق كل هذا فشل السودان في أن يشكل مجتمعا موحدا وأن مطالبة الشماليين بالوحدة مبنية فقط على حدث تاريخي تم بالصدفة وفرض هيمنة سياسية على جنوب السودان. لهذا فإن أي حالة استقطاب للجنوبيين لا يحالفها الحظ لأن تجربة التعايش بين العرب والأفارقة قد فشلت ولا بد من الاعتراف بذلك . يعكس حديث جادين الذي يمثل طليعة المثقفين الجنوبيين وأحد القادة الوضع النفسي الذي يعيشه أبناء الجنوب جراء السياسات الخاطئة التي أدت إلى فقدان الثقة وتحولت الثقافة العربية الإسلامية التي كان يأمل أن تكون عامل توحيد وتكامل وطني إلى عنف ومواجهة وانقسام.

وهكذا ارتبطت هوية السودان بالإسلام والثقافة العربية باعتبار أن السياسة والدين في السودان مترابطان لا ينفصلان في معظم الأحيان. وكانت الاعتبارات الدينية تجد القدح المعلى، أصبح الإسلام مرتبطا بالمجتمع وملأ حياة الأهالي واكتسب موقفا متماسكا، وقد برز ذلك عند مناقشة قضية العاصمة القومية في اتفاق مشاكوس حيث اعتبرت الحكومة قضية الشريعة الإسلامية إحدى الخطوط الحمراء التي لا يمكن المساس بها أو التنازل عنها.

التوظيف السياسي لمفهوم الهوية

في ظل التباين في المواقف بين الشمال والجنوب حول هوية البلاد بدأت العديد من القوى السياسية والجماعات الاثنية في توظيف مفهوم الهوية لصالح أجندتها. فقد بدأت الحركة الشعبية في جبال النوبة في عقد بعض المؤتمرات تؤكد خلالها الهوية الأفريقية للبلاد بل حددت في توصياتها ضرورة تعديل المناهج التعليمية واعتماد اللغة الإنجليزية بدلا عن اللغة العربية في المراحل الدراسية وأبرز المظهر الإفريقي بالنسبة لشعب جبال النوبة. كما بدأت الأحزاب السياسية في أبرز مواقفها حول مسألة الهوية. وقد صدرت مواقف متطرفة في الشمال تدعو إلى فصل الشمال عن الجنوب للحفاظ على الهوية الوطنية العربية والإسلامية للسودان في خطوة إستباقية لمعركة الهوية القادمة التي يرمز إليها الدكتور جون قرن بالسودان الجديد .

الواقع ليس المطلوب تخيير السودان بين عروبته وإفريقيته بقدر ما هو التعامل مع حقائق الواقع في التركيز على المداخل التي توحد البلاد وتمكنها من القيام بدورها، فقد تتعرض مسألة الهوية إلى فكرتين متناقضتين ومتشابهتين في نفس الوقت، الأولى تقوم على جعل الدين في مواجهة الهوية الوطنية وتستند إلى الإسلام واللغة العربية ومعاداة الثقافات الأخرى وفرض مفهوم البقاء للأقوى أما الفكرة فهي تعاكس الأولى وتجعل من الإنتماء السوداني للهوية الإفريقية، الأمر الذي يتناقض مع الإنتماء العربي الإسلامي في الهوية السودانية. وهو توجه أحادي يعمل على نفي الهوية العربية لمصلحة هوية إفريقية مرتجاة .

 

 

 

 

 

 


النزاع ومحاولات تشويه الهوية

ارتبطت عملية ايجاد أسس جديدة للهوية السودانية بمنطق إعادة إنتاج الهوية الوطنية وفق منظور جديد للسودان و هذا المفهوم برز في أدبيات اليسار السوداني ()الحركة الشعبية. هذا المصلح الذي ظهر في الحياة السياسية السودانية مع تجدد النزاع المسلح بين الشمال والجنوب في العام 1983م. وإذا كانت المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتهميش الآخر وعدم الاعتراف به شكل الوقود الذي أشعل نار الصراع، فإن الوجه الآخر مرتبط بحقوق الأساسية والاعتراف بالتعدد الديني و اللغوي والثقافي والإثني يمثل ذلك مكونا رئيسا من مكونات إعادة إنتاج الهوية.

إن ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى هو العقل، الذي من خلاله يستطيع الإدراك والتميز والانتماء، والإنسان بطبعه كائن اجتماعي حيث تبدأ الجماعة من الأسرة ومن ثم القبيلة فالأمة والإنسانية جمعاء، وهذا ما يجعل مسألة الانتماء لجماعة ما أمرا مفروغا منه. وفي ذلك يعرف الأستاذ "طه إبراهيم" الهوية بأنها شعور بالإنتماء إلى جماعة محددة أو مجتمع معين وهو ما يحدد وطنيته. أما الوجه القانوني للهوية فقد تبلور فيما يعرف بالحق في الجنسية حيث تتطابق الهوية هنا مع معنى الجنسية . ويعتبر البعض بأن الهوية هي خصائص مادية وروحية ووجدانية تميز قوما عن غيرها، أما "روسو" فقد اعتبر الهوية نوع من احترام الذات ، واحترام الذات معناه التقرير الذي يقرره الفرد لنفسه في علاقاته الاجتماعية بمقتضى تميزه ومقامه بين أفراد مجتمعه، ويرى أرسطو في تعريفه للهوية أنها فعل ارتباط المحمول بالموضوع (هو) يؤشر فعل التطابق والتماهي وهو فعل يجيء عقليا وقد يجىء حسيا، وربما ذوقيا، بمعنى أن له قدره إجرائية شاملة في الوجود والموجود على حد السواء، وفعل المماهة أو التطابق عند أرسطو يجد الفاعلية المعرفية المطلقة فالشيء هو.. هو (الرجل هو الرجل، المرأة هي المرأة... الكتاب هو كتاب) وبعكس منطق أرسطو فإن تكريس الاختلاف في الهوية عبر نموذج هيغل يؤكد ميلاد الكينونة القائمة على الاختلاف ، كما أن الفكر الماركسي منذ ماركس عبر عن الهوية، ولكن على أساس وحدة الطبقة العاملة، بدعوى أن الدعوة إلى هوية ثقافية بعينها، إنما هي دعوة شوفينية أطلقتها البورجوازيات الأوربية للحفاظ على مصالحهم، عبر الهيمنة على الشعوب لذلك بدأوا في تسويق هويتهم الجديدة وفق شعار يا عمال العالم اتحدوا .

هناك تيارات يسارية، تنامت بشكل قوي في دعوتها للهوية، أبرزها التيار التفكيكي، ذو الخطاب المعادي للخطاب الكولنيالي الاستعماري الذي قام بنقض خطاب المركز الثابت وبتأسيس الخطاب النقيض الذي يكشف الأقنعة الإيديولوجية لخطاب الهيمنة، والتسلط، والقمع، وأبرز تيارات التفكيك ضد الهيمنة يتمثل في فكر الفيلسوف الفرنسي المعاصر (ميشيل فوكو) وكذلك المفكر الفلسطيني الأصل (إدوارد سعيد) والمفكر الهندي (إعجاز أحمد) وتبدو الحركة الشعبية لتحرير السودان قد تأثرت بهذ الاتجاه .

من جهة أخرى يعرف قاموس ويبستر للغة الإنجليزية الهوية باعتبارها تماثل الخصائص الجينية الأساسية في عدة أمثلة أو حالات، أو تماثل كل ما يحدد الواقع الموضوعي للشيء المعين: تماثل الذات الواحدية، تماثل تلك الأشياء التي لا يمكن التميز بين آحادها إلا بخصائص عرضية أو ثانوية، شمولية الحياة، أو الشخصية أو حالة التوحد مع شيء موصوف، مزعوم أو مؤكد أو حيازة شخصية مدعاة، فإذا شئت تحديد هوية الشخص فربما تحتاج لمعرفة إسمه، لونه، خلفيته الأثنية، أو الثقافية، أو الموقع الذي يحتله وسط الجماعة .

هناك إذن وجهان للهوية، أحدها أصلي، بدائي، والآخر موضوع ومختار، فالهوية في ذات الوقت ذاتية وموضوعية، شخصية واجتماعية، ومن هنا تتأتي طبيعتها المتفلتة العصية على التحديد.

وبهذا المفهوم يملك الأفراد تشكيلة واسعة من الهويات الممكنة، إذا يمكن أن تكون لهم هويات عرقية أو إثنية، قومية أو دينية، أو حتى هويات خاصة بالمدن التي يقيمون فيها.

ويرتبط الحديث حول الهويات الشخصية إرتباطا وثيقا بمجال الخطاب الجينوي، ومع الخصائص البيلوجية هي خصائص موضوعية، إلا أن الهويات الفردية التي تعنى شيئا أكثر من ذلك، فهي تشتمل على دلالة ذاتية لوجود مستمر وذاكرة منسجمة ومترابطة منطقيا.

الدلالة الذاتية هي الإحساس بالوحدانية والاستمرارية الشخصية الإحساس بالإنتماء إلى منظومة راسخة من القيم، والأخلاق للإنسان، وتعطي الأفراد خصائصهم المتفردة .

ويعرف قاموس العلوم الاجتماعية "التماهي Identifcation" باعتباره الميل للتقليد، أو عملية تقليد سلوك شيء ما، وربما يدل على عملية التمازج العاطفي، أو في حالة هذا التمازج الناجز مع هذا الشيء ذاته، وقد استخدم هذا المصطلح (فرويد) في علم النفس (إن التماهي هو التعبير المبكر عن الرابطة العاطفية مع شخص آخر) حيث يتماهى الفرد مع شخص آخر (كمثال مع الذات) بوصفه شخصا يريد أن يكون، أكثر مما يريد أن يمتلكه، وهذا ما يجعله مهما في سلوك المجموعات، و يفسر حاجة الفرد ومقدرته على الارتباط، وقوة الروابط العاطفية المشار إليها كخصائص جوهرية للبشر، وهو يذكر في نفس الوقت الأصل الطفولي لعملية التماهي، ويفترض أن هذا الأصل الطفولي هو الذي يفسر بقاءها على مستوى اللاوعي وقوتها كعامل تحفيزي، وتظاهراتها اللاعقلانية والنكوصية في بعض الأحيان .

ولكن التماهي بالنسبة لفرويد ليس مجرد محاكاة بل هو بالأحرى تماثل يستند إلى سلسلة سببية متشابة.

فالمفهوم الكلاسيكي للتماهي يرى أن الذوات الاجتماعية تمثل معطيات أصلية، أو بيئية موروثة مثل الخصائص البيلوجية، ولكن هذا المفهوم يخلى الساحة الآن لمفهوم آخر هو أن الهويات تتكون وتصنع إختياريا وهي حالة مستمرة من التكوين، ولكن اختيار الناس لهوياتهم محكومة ومحدودة بالعوامل المعطاة مثلا ملامحهم، أسرهم، جماعتهم، تواريخهم، ثقافتهم...إلخ.

ويمكن لأزمة الهوية أن تحدث على المستويين، الشخصي والاجتماعي، فعلى المستوى الشخصي تنشأ الأزمة عندما تحين لحظة إحداث التوافق بين التماهات الطفولية وبين تعريف جديد وعاجل للذات وأدوار مختارة لا يمكن النكوص عنها، يضاف إلى ذلك أن الهوية الشخصية تقوم على جهد يستمر في كل الحياة، كما يقول (أريكس) والفشل في تحقيقها يسبب أزمة ربما تكون لها نتائج مدمرة على الأفراد .

أما على المستوى الاجتماعي، فتنشأ الأزمة عندما يفشل الناس وهم يصنعون هوياتهم في العثور على نموذج يناسبهم تماما، أو عندما لا يرغبون في الهوية التي إختاروها أو أجبروها على تبنيها. ولأن الهويات الاجتماعية يتم تكوينها عادة من التشكيلة المتاحة من التصنيفات الاجتماعية، فإن ظهور المانحين يكون حتميا، كذلك أن تحدث الأزمة عندما يسود الغموض نظرة الناس إلى هويتهم، أو يفتقرون إلى هوية واضحة، وفي حالة أخرى يمكن أن تنشأ أزمة الهوية عندما يكون هناك تناقض بين هوية الشخص ونظرة الآخرين إلى الهوية ذاتها، تنشأ أزمة الهوية إذا كان مركز الهوية، أي الجهة التي تملك صلاحيات إصباغ الشرعية، لا تعترف بإدعاءات الآخر، وهو ما ينطبق على الإشكالية السودانية.


إذا كانت الأمة المبنية على فكرة التجانس النوعي للشعب الذي هو ركن من أركان تكوين الدولة، فالأمة هي التجمع البشري الذي في إطاره يستشعر الأفراد بارتباطاتهم بعضهم مع بعض، بروابط مادية، وروحية في آن واحد، ويعتبرون أنفسهم مختلفين عن الأفراد الذين يكونون المجموعات الوطنية الأخرى.

ونظرا لتعقيد العناصر التي بتأثيرها تتكون الأمم، برزت إلى الوجود عدة مفاهيم خلال القرن التاسع عشر، تعنى بالأهمية النسبية المعطاة لهذه العناصر، من بين هذه المفاهيم المختلفة يوجد مفهومان رئيسان لتعريف الأمة: مفهوم ألماني وآخر فرنسي.

يرتكز المفهوم الألماني على العناصر السلالية فقط، العرق، اللغة، الدين، مع التركيز على العنصر العرقي .

أما المفهوم الفرنسي فيعتبر أن تكوين الأمم هو أكثر تعقيدا وأنه إلى جانب العناصر السلالية، يجب إدخال الأحداث التاريخية، المصالح المشتركة وخصوصا الروابط الروحية .

في الوقت الحالي لم يعد المفهوم الألماني معمولا به، ولكن هذا المفهوم للأمة كان له أهمية بالغة في الإيدولوجية الألمانية، فمنذ الرايخ الثاني وإلى الرايخ الثالث، تبلور هذا المفهوم حتى أصبح أسطورة فاعلة، رغم عدم صحة نظرية العرق النقي لتكوين الأمة، إلا أن الإشارة إليه هنا من باب التأكيد على مدى التعقيدات التي تنتج عن تكوين أمة ما .

أما فيما يتعلق بالنظرية الفرنسية لتعريف الأمة (إرادة العيش الجماعي) فهي أقرب إلى الواقع منها إلى النظرية الألمانية، وتتلخص بأن الأمم تتكون تحت تأثير عوامل مختلفة، لاشك أنه يجب أن تؤخذ العوامل العرقية بعين الاعتبار كالقرابة العرقية، اللغة، الدين، إنما هناك مجال أيضا لإدخال العناصر الروحية في إعداد الأحداث التاريخية، كالحروب والنوازل وبعكسها، الازدهار والانتصارات الوطنية، كذلك وحدة المصالح، وبصورة رئيسية ذات الطابع الاقتصادي، وحدة تنتج في معظمها عن التعايش على أرض واحدة، وأخيرا الإحساس بالقرابة الروحية، وواقعة التصرف الموحد تجاه نفس الأحداث.

ويجدر بالمرء هنا إضافة أن عامل القرابة الروحية ا يلعب دورا داخل الأمة، يعطي للمواطنين الإحساس بأنهم داخل مجموعة مغلقة، مجموعة تختلف عن التكوينات أو الأشكال الوطنية الأخرى.

ويعتقد كثير من المراقبين للشأن السوداني أن مشكلة الهوية في السودان مردها لانعدام إيديولوجية فوقومية supra – national حسب تعبير جاك دوبنيل وهذا الفراغ الإيديولوجي تنبه إليه منذ عقود طويلة جماعة مؤيدة لقضية تعرف بـ (إعادة التسليح الخلقي moral reamament) وتعرف اختصار ب M R A حيث زارت السودان عقب الاستقلال وطرحت فكرتها المنادية بخلق إيديولوجية أخلاقية للقضاء على مشاكل الصراعات الإثنية والكراهية والبغضاء والظلم بين القوميات المتصارعة إلا أنها لم تجد سوى التكريم الشكلي والحفاوة دون الالتفات لأفكارها .

ومنذ أن رفض السياسيون الشماليون مطالب الجنوب قيام نظام فدرالي أصبح صراع الهوية يتخذ منحيين متعارضين قوى تدعو إلى النظام مركزي قابض وأخرى تنادي بنظام لا مركزي يتيح لها عكس معتقداتها وثقافاتها على مستوى محيطها الخاص وعلى المستوى المركزي، هذا الصراع أدى إلى خلق إدراك جمعي حول ضرورة قيام نظام يستوعب مطامح كل الفئات ويحقق مصالحهم المشروعة وقد عبر بروتوكول مشاكوس واتفاق القضايا المصيرية الذي وقعت عليه الأحزاب المعارضة في أسمرا مع تجمع الأحزاب الوطنية الإفريقية عن تلك المصالح.

 

عندما كانت حركات التحرر الوطني في أوج عنفوانها برزت مجموعات ثقافية عديدة أسست رؤيتها على ما يعرف بالأفروعربية كمشروع حضاري يشكل الهوية السودانية يمثل التصالح بين الثقافة العربية والثقافة الإفريقية. وقد كانت مجموعة أبادماك() إحدى إفرازات هذا المشروع بالإضافة للعديد من التنظيمات الأدبية المشابهة مثل رابطة سنار التي تنادي بالعودة إلى فكرة السلطنة الزرقاء التي نشأت كتحالف بين العنصرين العربي والزنجي. وكحل لأزمة الهوية الثقافية في السودان. كما برزت مدرسة الغابة والصحراء كرمزية دلالية للعنصر الإفريقي الذي تمثله الغابة والعنصر العربي الذي تمثله الصحراء، وهي مماثلة للواقع الجغرافي السوداني حيث تجد الصحراء الممتدة من الشمال حتى تخوم الوسط وجنوب الوسط إذ غالبية السكان من العنصر العربي، وكلما توغلنا جنوبا تبدأ السافنا المعتدلة ثم السافنا الغنية والغابات المدارية بحيث تجد الغلبة للعنصر الزنجي.
وجدت جماعةالأفروعربية ضالتها في نموذج دولة سنار تلك السلطنة السوداء التي قامت بتحالف العبدلاب مع الفونج أي تلاقي العنصر العربي والعنصر الإفريقي الذي شكل نواة السودان القائم الآن.

ظهرت فكرة الأفروعربية كمصطلح لغوي وسط الأدباء حيث ردها الشاعر الدكتور محمد عبد الحي إلى سودنة الشعر التي نادى بها الناقد حمزة الملك طمبل والتي تقوم على استحداث رؤية نقدية مميزة للأدب السوداني بعيدا عن مفاهيم الأدب الغربي التقليدي، وكانت دعوته للشعراء السودانيين ليعبروا عن البيئة السودانية والطبيعة السودانية بكل التنوع والتمايز الذي تحمله. وما لبث هذا المصطلح أن دخل عالم السياسة في السودان.

وقد تم نقد هذه المدرسة بأن شعرائها وأدبائها لم يجدوا ما يشفي غليلهم من شغف التعبير سوى الهروب إلى الفردوس الإفريقي، عرف الباحث الدكتور عبد الله علي إبراهيم الأفروعربية (بأنها مدرسة فكرية لا تهدف إلى تحجيم الانتماء العربي الصريح وحسب بل إلى إجراء تحسين جذري في المكون العربي الإسلامي من الذاتية السودانية، فاستعادة التراث الإفريقي في نظر الأفروعربية ليست مجرد تصحيح لمعادلة مختلفة، وإنما المقصود منها هو تهريب أجندتهم الاجتماعية والفكرية إلى الثقافة العربية الإسلامية الغبشاء المتشددة بقصد حملها على التلطف والسماحة) . ويصف الأفروعربية بأنها تحالف الهاربين. وقد كان قمة في الشفافية عندما أشار في نقده إلى أن خلع أو تحجم الهوية الثقافية العربية هوغش ثقافي أو يأس، فالطريق فيها أدى إلى إطمئنان الجنوبيين وغيرهم من حملة الثقافة الإفريقية إلى أن أمنهم الثقافي يمر عبر تصدي العرب للنعرات وأنواع التحريم التي تفضي بها ثقافتهم تصديا بالأصالة عن أنفسهم لا نيابة عن أحد، ويستلزم ذلك وقفة مستنيرة إزاء الذات وقدرة على تحدي النقد) وأصدق تعبير لمدرسة الغابة والصحراء أو الأفروعربية جنوبيات الشاعر محمد المهدي المجذوب التي يقول فيها:

وليتني في الزنوج ولي رباب تميد به خطاي وتقسم
وفي حقوقي من خرز حزام وفي صدغي من ودع نظيم
وأجترع المريسة في الحواني وأهزر لا ألام ولا ألوم

وهذه النزعة للتخلل والتفكك من قيد الزواجر والنواهي التي تحيط بالثقافة العربية الإسلامية.

إن مدرسة الغابة والصحراء أو الأفروعربية كانت تهدف إلى تمازج الثقافات العربية والإفريقية وإزالة العوائق بين الشمال والجنوب والدعوة للقاء في وسط الطريق، لكن هذه الدعوة وجدت الرفض من المثقفين الجنوبيين الذين رفضوا إعادة إنتاجهم كطبعة لاحقة لإنسان دولة سنار ويعتبرون ذلك نوعا من الخداع السياسي والغش الثقافي .


يرى آخرون أن بنية الهوية الثقافية في المجتمع السوداني تجد مرجعيتها من مصدرين أساسيين هما مؤسسة المسيد التي تمثل المرجعية الدينية وبيئة المرعى، فالثقافة الشمالية مصدرها المسيد والمرعى بينما الثقافة الجنوبية مصدرها المرعى فقط. فالمسيد انحدرت منه قيم وسمات شخصية محددة تعد من مميزات السلوك السوداني ومن ذلك التواضع والتسامح والزهد وتمجيد الفقر والانحياز الضعيف وعدم الاعتراف بالتمايز وبساطة الطعام والملبس وتواضع العمران وغير ذلك من مما كان يتلقاه الفرد من أخلاقيات وقيم تحولت مع مرور الأيام إلى أعراف ومحددات سلوكية تعرف عند الأنثروبولوجيين بالثقافة، وطورتها الأجيال حتى تجد تمظهراتها عند من لا صلة له بالمسيد مباشرة ، أما بنية المرعى فقد طبعت الشخصية السودانية بمعظم السمات السلوكية الأخرى على المستوى الفردي أو الجماعي مثل اعتماد الشفهية بدل التوثيق التشبت بالحرية رفض السلطة من حيث المبدأ والضجر والرسوخ والاستمرارية وعدم التكيف مع روح المؤسسية لنظام . لهذا ترى مدرسة العودة إلى المرعى بأنها تحمل الإجابة الشافية لجذور الهوية السودانية وبنية التفكير السوداني ومرجعية الثقافة وأسباب عدم الاستقرار السياسي وعدم النمو وفشل التجارب الديمقراطية واستمرار الصراع والتناحر كلها مردها على ثقافة المرعى.

يلاحظ أن هذه المدرسة الرعوية حصرت مكونات الشخصية السودانية في إطار المسيد والمرعى وهو ما ذهبت إليه بشكل أو بآخر مدرسة الغابة والصحراء أو الأفروعربية.


إلى ذلك برز مصطلح السودانوية (sudanism) كمصطلح لتعريف الهوية السودانية وهو مرادف إلى مفهوم المواطنة، طرحته الحركة الشعبية ضمن أدبياتها في إعلانها الصادر في ديسمبر 1983 (منفستو الحركة)، وفي ذلك يعرف الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان السوداناوية بأنها البوتقة التي ستأتي نتيجة انصهار التنوع التاريخي أي التركيبات القديمة للسكان الأصليين منذ ما قبل التاريخ والتنوع المعاصر دون المؤثرات الخارجية والتداخل الثقافي العالمي ولخص الدكتور قرنق السودانوية بطريقة معادلات حسابية وذلك وفق المعادلة التالية (س = (أ + ب + ج)) حيث أن (س) هي السودان أو الهوية السودانية وهي دالة مرتبطة بتغيرات أ، ب، ج حيث (أ) تمثل التنوع التاريخي و(ب) تمثل التنوع المعاصر و (ج) تمثل تأثير الحضارات الأخرى عليها، أما المتغير الثابت (س) الذي يمثل الهوية السودانية فهو المحصلة النهائية لهذه المتغيرات أو المكونات وتعد السودانوية كهوية ثقافية أكبر من مجموع الأجزاء المكونة لها .

فهي تعريفه لماضي السودان التاريخي لم يتجه قرنق إلى ممالك غانا وبنين ومالي، وإنما ذهب إلى إسهام السودان الإفريقي القديم المتمثل في الحضارة النوبية والكوشية في إثراء القيم الإنسانية وانعكاس ذلك على السودان المعاصر، وقد كانت دعوة قرنق إلى استعمال مفهوم السودان الجديد أو السودانوية وتطويرها، ليس فقط كسلاح إيديولوجي في الصراع من أجل البناء الوطني وتعميق وحدة أقوامه والاعتراف بثقافتهم المتنوعة، بل أيضا لبث الوعي بحضارات السودان القديم واستبطان أمجاد الماضي . ويرى قرنق أن الخطاب السياسي الشمالي بشأن الهوية ما هو إلا غطاء تتوارى خلفه سياسات تكرس الاضطهاد السياسي والتعصب الديني الأعمى حيث يقول (لم تنشأ الأمة السودانية عبر مسار حكمته الوقائع التاريخية والحقائق الماثلة وإنما عبر أوهام اضطهاد النفعيين الذين لا تحركهم إلا المصالح الذاتية الضيقة) . ويبدو أن اهتمام زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان بالتاريخ النوبي القديم لم تكن فيه رغبة في إحياء ذلك التاريخ بقدر ما كان المقصود به حث السودانيين على ألا يحرموا أنفسهم من التنوع الذي زين حضارتهم منذ القدم. تلك كانت رسالته إلى أهل الشمال، أما رسالته إلى أهل الجنوب فيفهم منها دحض الثنائيات الخاطئة التي ما انفكت تسيطر على أذهان الجنوبيين الذي يربطون بين الإفريقية والزنوجية في السودان ويحرمون أنفسهم من الانتماء إلى ثقافة واسعة للجميع بسبب أنها نشأت وازدهرت في الشمال.

في أوائل التسعينات من القرن الماضي روج جون قرنق لفكرة لواء السودان الجديد كواحد من وسائط التغيير السياسي والاجتماعي ودعا إلى تنظيم منتدى عام للحوار حول فكرة السودان الجديد ماهيتها والأدوات المتاحة لها كما أن هناك سببا عسكريا هدف إليه هو تكون قوة محاربة في الشمال بالقرب من مركز الحكم بعدما فشلت فكرة الانتفاضة المحمية بالسلاح. بيد أن الأهم في تكوين لواء السودان الجديد هو تعميق مفهوم السودانوية في مواجهة المشروع الحضاري الذي دعت إليه ثورة الإنقاذ والذي يرتكز على البعدين العربي والإسلامي، وقد لاقت فكرة لواء السودان استحسانا كبيرا لدى بعض العناصر المعارضة في الشمال وانخراط بعضهم فيها على الجبهة الشرقية من البلاد. واستطاع قرنق أن ينقل الصراع من الجنوب إلى شرق السودان بهدف زعزعة الأمن في مدن الشرق مثل كسلا وأحتل محافظة همشكوريب وهدد الطريق القومي الذي يربط العاصمة القومية الخرطوم بالميناء الرئيسي على البحر الأحمر ، على أن الأمور في السودان ليست بالسهولة التي كان يتوقعها قرنق في مشروعه لأن أي تمدد للحرب تجاه الشمال من شأنه أن يكرس لعملية الصراع الجنوبي الشمالي بشكل واضح مما أفقد مشروع السودان الجديد بريقه خاصة وأن النخبة السياسية في الشمال لم تنجذب نحوه ذلك لعدة أسباب منها الإيماءات العسكرية والمجاهرة بمساندة حركة عسكرية مسلحة يعتبر ضرب من الفتنة والخيانة، كما أن الإحساس الذاتي بالتفوق الذي تحس به النخبة المسيسة يصعب عليها قبول فكرة السودان الجديد من قائد جنوبي كان ينبغي أن يكون في أحسن الأحوال حليفا لها لا قائدا عليها، وفي هذا لا يختلف الوحدويون الشماليون عن الانفصاليين الجنوبيين الانغلاقيين، هؤلاء أيضا كانوا سيشعرون بكثير من الراحة لو أبقت الحركة على الأفكار التي خبروها حول طبيعة صراع الشمال والجنوب الذي يفسر على أنه صراع بين العرب ضد الأفارقة والمسلمون ضد غير المسلمين. على كل فإن مفهوم السودان الجديد والسودانوية في تقديرنا مماثلا لفكرة الأفروعربية من حيث دعوتهم إلى معادلة وسطى بين العروبة والإفريقية فالباحثون في حقل الهوية السودانية ينظرون إلى السودانوية على أنها الحل المناسب باعتبارها بوتقة لصهر الثقافات السودانية المتنوعة.

باعتبار إن القاع الاجتماعي للوطنية السودانية ليس هو الاستعراب أو التزنج وإنما هو خليط من هذا وذاك لهذا فإن الاوفق لمسألة الهوية السودانية يكمن في المواطنة لأن السودانيين ليسوا قومية واحد بالمفهوم الأنثروبولوجي أو السلالي وإنما هم شعب واحد بالمفهوم السياسي تمازجت عناصره في فضاء جغرافي محدد وأفق تاريخي معين ولكل واحد منهم مزاج. وفي القانون ترتكز المواطنة على عمدتين حق الدم وحق الأرض والولاء لدستور واحد يؤطر هذه العلاقة وهذا ما ذهب إليه دستور 1998م حيث جعل المواطنة هي المرجعية في الحقوق والواجبات .


لقد لحقت تشوهات عديدة بمعنى وجوهر الهوية السودانية جراء هذا الصراع الذي عمق أزمة البلاد حيث تمظهرت هذه التشوهات في محاولات طمس الحقائق التاريخية والمعطيات المعاصرة من خلال فرض الهيمنة باستعمال القوى لتحقيق الطموحات الفكرية لبعض النخب السودانية حتى جعل السودانيين عاجزين عن إدراك هويتهم السودانية ذات التنوع المتعدد، علي ان بروز أطروحة السودان الجديد التي نادت بها الحركة الشعبية قادت إلى استقطاب حاد بين المشروعين العربي الإسلامي والإفريقي الزنجي وقد عبر جون قرنق عن ذلك بقوله "مشكلتنا الحقيقية تكمن في أن السودان ظل دائما ومازال يبحث عن روحه عن هويته الحقيقية، وعندما فشل في ذلك اتخذ السودانيون من العروبة ملجأ لهم وعندما فشلت العروبة اتخذوا الإسلام ملاذا كعنصر موحد للأمة. نتيجة لهذا أصيب السودانيون بالإحباط لأنهم عجزوا عن إدراك حقيقة أنفسهم لهذا آثروا الانفصال" . وإذا نظرنا إلى رؤية الحركة الإسلامية في السودان والتي هي جزء من برنامج الدولة في مسألة الهوية نقرأ كلمات المفكر الإسلامي د.الترابي " لا تنشأ حياة سياسية إلا بقيام جماعة توحدها أواصر الموالاة ويعينها من دون الناس بذاتية مستقلة ثم تقوم عليها سلطة مركزية ترعى شئونها وترتب علاقاتها العامة بمقتضى نظام جامع ولكن نماء العاطفة الموحدة واستتباب النظام الحاكم تطور عسير يكلف كثيرا من الرهق والإضطراب في مرحلة بناء الأمة إذ تكون الوحدات الاجتماعية الأولية التي تأتلف في تكوين الأمة لا تزال مشربة بروح العصبية الاعتزالية ومقيمة على حال الحرية الساذجة التي تستعصي على الانضباط " . ويضيف الكاتب" إن الامة الهرم بعدم تمام التكوين تطرأ وسطها نزاعات التجزئة التي تهدد سلطانها الواحد " . تنطلق النظرية الإسلامية من تكوين هوية الامة من المشروع السياسي الاسلامي المرتكزين علي الدين والايمان كمصدر أساسي للحكم وانتشار اللغة الواحدة، ويبدو في حالة السودان عامل الدين يشكل نقطة خلاف في نظر الحركة الشعبية وليس عامل توحد وربما السبب في ذلك كون الدين اتخذ مدخلا سياسيا فاعلا وكان الأحرى ان يكون المدخل اجتماعيا تربويا للتباين الواضح في بيئة السودان المتعددة الثقافات والديانات واللهجات. لقد بلغ التشويه بمفهوم الهوية السودانية حد التطرف إذا نظرنا لمطالب مؤتمر أبناء غرب كادوقلي المنعقد في الفترة من 15-17فبراير 2004م والذي جاء في قراراته تفكيك هياكل السودان القديم وإحلالها بهياكل السودان الجديد القائمة على التوازن الاجتماعي والثقافي والسياسي تدريس اللغات المحلية واعتماد اللغة الانجليزية كلغة اساسية بدلا عن اللغة العربية في المدارس وان يكون المظهر العم للنوبة مظهرا افريقيا.

لعل تغيير الحركة الشعبية للغة التعليم والتخاطب من العربية إلي الانجليزية في مناطق إدارتها بإقليم جبال النوبة هو أكبر مؤشر على أن اشكالية الهوية أصبحت تتقدم على أجندة الصراع الاخرى الدائر بين المركز والاطراف وأن قضية الاستعلاء السلطوي الذي أبرزته الحركة الشعبية والتيارات المهمشة في سياق يماثل الاسترقاق من خلال إبرازها لمصطلح (الجلابة) الذي اتصف به التجار المنحدرين من الشمال والذين يجلبون البضائع إلى مفهوم سياسي جديد مشوه والجلابة قطاع منظم وسريع التأقلم وذلك بحكم شبكة علاقاتهم التجارية وانتشارهم الجغرافي في كل أنحاء السودان، فقد كانوا على مر العصور الوسيط لعمليات التبادل التجاري الأجنبي داخل البلاد وتصريف إنتاج الموارد المحلية مثل ريش النعام والصمغ العربي وسن الفيل وأخشاب الأبنوس والرقيق في العهود ما قبل الاستقلال. ولم يعط الباحثون بعدا لمواهبهم السياسية التقدير الكافي في احيان عديدة خاصة بعدما تحولت مراكزهم التجارية إلى دوائر وارتكاز إدارية لأنظمة الحكم المتعاقبة .

لعبت سياسات البنك الدولي ومشاريعه في السودان وسياسات الدولة دورا واضحا في توسيع عضوية شبكة الجلابة لتضم ركب التجار مجموعات متميزة من الأجيال الجديدة من عائلات الإدارة الأهلية والفئات المهيمنة وقيادات التنظيمات السياسية الحاكمة في الولايات. ومن أوساطهم خرجت القيادات الاجتماعية والدينية للمجتمع السوداني ويبدو ان فهم الحركة الشعبية والفصائل التابعة لها لهذه الطبقة يشوبه كثير من الخلط في ربط دور هذه الطبقة بدور التجار الشوام والأقباط والأرمن الذين ساندوا المستعمر البريطاني إبان حقبة الاستعمار.

وعلى الرغم من جريان مياه كثيرة تحت جسور السياسية في السودان إلا ان المفهوم الأيدولوجي للسودان الجديد الذي تتبناه الحركة الشعبية لتحرير السودان تشوبه كثير من المخاوف خاصة عند تطبيقه على الأرض في مناطق نفوذها الحالية في جبال النوبة حيث أعلنت الحركة من شعار الوحدة على أساسا للتنوع والتعدد. وقد وقع بالفعل تطور هائل في الأداء السياسي لها مما أكسبها خبرات واسعة خلال العقدين الماضيين. ورغم انتشار الوعي في أطراف السودان إلا أن السمة المميز نزاع الهوية الذي يعتبر بمثابة الجمر الكائن تحت رماد الحرب. هو اختلاط المعاني وتعارض المفاهيم حول الهوية المشتركة أو الجامعة والولايات الاخرى لدوائر الانتماء المختلفة كالقبيلة وهي الدائرة الأضيق ثم الحزب والجهة (الإقليم) فالكيان الاوسع هو الإنتماء للدائرة العربية والافريقية والاسلامية. وفي المركز تلتقي الهوية السودانية الجامعة لكل ابناء السودان إلا أن النزاع عمل علي تشويه هذه الحقيقة وجعل من الدائرة الأضيق وهي القبيلة والإقليم هي الأبرز في قضية الانتماء و حتي المشاركة السياسية و الوطنية، فالأحداث الأخيرة في دارفور كشفت عمق الأزمة السودانية وإعادة إنتاج النزاع حول الهوية من جديد، وأن أسباب بنيوية لا تشمل فقط الثروة والسلطة وإنما تطرح إشكالية الانتماء بعمق رغم التجانس الذي يعيشه الاقليم من حيث قواسم الدين واللغة سيما و أن عملية الانتماء العرقي والثقافي شكلت وقود للنزاع القائم وانتشرت حمى العرقية أو الاستعلاء في غياب المشروع الثقافي الكبير للسودان المتعدد الأعراق والثقافات الذي يمثل المرآة العاكسة الثقافات كافة وتشاهد من خلالها القوميات المختلفة صورتها بشكل مواز للآخر. فالانتماء للوطن الكبير لا يلغي بالضرورة الانتماء للقبيلة والعشيرة بل يعزز دورها ولكن في إطار البوتفة الوطنية .

أرادت الحركة الشعبية بمشروع السودان الجديد الذي طرحته ان تحجم إنتماء السودان العربي والاسلامي وإعلاء الثقافة الافريقية و تكرس هوية الأفريقية وقد استطاعت خلال جولات المفاوضات المستمرة مع الحكومة منذ العام 1983م ان تقصي الدور العربي و الإسلامي فرفضت جميع المبادرات مثل المبادرة الليبية المصرية المشتركة ومبادرة الجامعة العربية بل لم تسمح حتى بوجود مراقبين عرب اثناء المفاوضات مما يؤكد عدم ثقتها في الجانب العربي الذي تعتبره امتدادا للحكومة وسندا لها. كما يلاحظ الإدعاءات التي تطلقها بشأن هيمنة الشمال العربي المسلم على الجنوبي المسيحي الافريقي في معظم المحافل الاقليمية والدولية.

يعتقد بعض النخب السودانية في الحقل السياسي ان الدولة الوطنية تجاوزت الهويات الاجتماعية المتعددة المكونة بحيث تسود فقط الهوية الاجتماعية للمكون الأقوى أو الأكثر عددا وأن هذا يمكن أن يقود إلى ذوبان الهويات الأخرى في الهوية الكبرى او على الأقل هامشيتها وعدم تاثيرها بفضل قوة الدولة وتمكنها من عدم تحقيق هذا الدمج، عندئذ تدخل الهوية السياسية في تناقض مع الهويات الاجتماعية ويزدوج الولاء فيسود الدولة الاضطراب وعدم الاستقرار وهذا ما يماثل الحالة السودانية إذا ما أسقط النص على ما يجري حاليا.

فقضية الانتماء للوطن أخذت بعدها السياسي دون النظر إلى البعد الاجتماعي لان الهوية في المحصلة تراكم عدة عوامل ثقافية ودينية وعرقية وتاريخية وسياسية واجتماعية تتمازج مع بعضها البعض لتحقق الشخصية الوطنية التي تعبر عنها الهوية الوطنية الجامعة.


إن الوعي الانساني المعاصر يوجب الاعتراف بتباين الهويات الدينية والثقافية والبعد بها عن الصراع والاتجاه نحو التكامل والتعايش. ورغم ان التباين سنة كونية فحقوق الانسان تعترف للبشر بحقوق غير قابلة للنقض تشمل الحقوق الدينية والثقافية أو ما يسمى بحقوق الأقليات.

بالرغم من ان مبادرة الايقاد وما تمخض عنها من اتفاقيات حول إقتسام السلطة والثروة لم تضع قضية الهوية كبند قائم لذاته إلا أن مسالة الهوية السودانية كانت الأبرز في النقاش يلاحظ ذلك من خلال الاتفاقات الموقعة والاعتراف بحق المواطنة على أساس الاعتراف بالتنوع العرقي والديني والثقافي. وأن هذه الاتفاقيات في محصلتها النهائية أمام ثلاثة خيارات بعد انتهاء الفترة الانتقالية على النحو التالي:

قيام دولة سودانية اتحادية ذات هوية عربية افريقية (سودانية) أوانفصال جنوب السودان الذي سيؤدي إلى قيام دولتين عربية اسلامية في الشمال وافريقية في الجنوب وأما الخيار الثالث هو قيام دولة سودانية ذات هوية افريقية خالصة بمعنى أن يكون رئيس الدولة من غير الشمال العربي وهو ما ستنصرف إليه استراتيجية الحركة الشعبية كخيارها الأول أما خيارها الثاني والأخير هو الانفصال وقد عبر عن ذلك العقيد جون قرنق في أكثر من موقف.

وقد راهن كثير من المحللين السياسيين على خيار وحدة السودان بعد الفترة الانتقالية المحددة بست سنوات تنتهي في 2011م يعقبها استفتاء سيجري للجنوبيين حول رغبتهم في الوحدة أم الانفصال، ويعتقد كثير من المثقفين الجنوبيين أن خيار الانفصال هو الأوفق لهم لعدم إمكانية تحقيق الاندماج الكامل مع الشمال و يرى آخرون ان الجنوب نفسه لا توجد رابطة بين سكانه ولا يوجد أي أساس يوحد القبائل التي تسكن الجنوب او عناصر مشتركة بين قبائله فالجنوب مازال يضم قبائل وثنية تعيش حياة بدائية وجدت نفسها في منطقة جغرافية واحدة. وأن التخاطب لا يتم الا بما يعرف بعربي جوبا وهي لغة عربية محلية تستخدم للتخاطب بين القبائل ويستخدمها السياسيون في خطاباتهم ولقاءاتهم الجماهيرية والإذاعية.

 

يلعب البعد الاقليمي والدولي دورا هاما في الازمة السودانية بالنظر الى موقعه الجغرافي ومساحته الهائلة والامكانات الاقتصادية الكبيرة التي يتمتع بها مما ادى الى تدخل بعض الدول بشكل مباشر وغير مباشر في الصراع القائم بين الشمال والجنوب واذا كان الدور العربي ممثلا في المبادرة المصرية الليبية غير خاف على احد فان دول الجوار الافريقي المساندة لمشروع السودان الجديد الذي تدعو له الحركة الشعبية قد لا يكون بارزا من الناحية الاعلامية. الا انه من الناحية الواقعية والعملية يعتبر مؤثر بشكل واضح. حيث نلاحظ ذلك الدور من خلال مجموعة من دول الايقاد والمجموعة الاوربية الممولة التي تعرف بشركاء الايقاد. لعل ابرز الادوار في هذا الصراع الدور الاوغندي والكيني والارتيري الامريكي .


يعد العاملان الجغرافي والسياسي من اهم العوامل التي دعت اوغندا للتدخل في الازمة السودانية حيث ان اوغندا بلدا مغلقا ليس امامها منفذ للوصول للشواطئ الساحلية سوى كينيا الى المحيط الهندي او السودان عبر البحر الاحمر الامر الذي يجعلها دولة حبيسة رهينة لهاتين الدوليتين. من ثم تحاول دائما التغلب على هذه القضية من خلال التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، كما انها تلعب دور الشرطي الوسيط للقوى الكبرى ذات المصالح في منطقة البحيرات العظمى ذات الاهمية الاستراتيجية، خاصة انها منطقة تماس بين الامن القومي العربي والامن القومي الافريقي ومن هنا شكلت قلقا بالغا للسودان بدعمها المباشر لحركة التمرد التي يتزعمها جون قرنق رفيق الدراسة وزميل للرئيس الاوغندي "موسفيني" فضلا عن حركات التمرد التي تعرف بجيش الرب في شمال اوغندا والتي تتخذ في بعض الاحيان من جنوب السودان ملاذا لها. كما ان اوغندا تعارض بشدة عملية تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان كونها دولة مسيحية وتؤكد على حق تقرير المصير لجنوب السودان.

 


يمكن القول بوجود عدة اسباب تدعو كينيا للاهتمام بالقضية السودانية اذا ما تم التسليم بالواقع الجغرافي والتدخل الاثني مع قبائل الجنوب. فهناك اسباب اخرى داخلية وخارجية، فداخليا ضعف الاداء السياسي والاقتصادي للحكومة الكينية يجعلها تبحث عن دور خارجي تعزز به الوضع الداخلي. كما أن كينيا تشكل احدى القواعد الهامة لحماية المصالح الامريكية المشتركة في المنطقة. ولعل هذا يفسر دورها البارز في منطقة القرن الافريقي فهناك تنافس محموم بين دول المنطقة (كينيا-اثيوبيا-اوغندا-ارتيريا) في كسب ود الغرب والكنيسة واسرائيل الامر الذي جعل كينيا تفتح صدرها لحركة التمرد حتى يحصل على اكبر مكاسب من القوى الغربية واسرائيل حيث يوجد مقر دائم لحركة التمرد في كينيا يتيح لها الاتصال بالعالم الخارجي. كما انها تؤيد فكرة تقرير المصير لشعب جنوب السودان باعتبارها دولة مسيحية تقف مع مبدأ فصل الدين عن الدولة.

 


لا يبعد الدور الإرتيري كثيرا كما هو الحال بالنسبة لاوغندا وكينيا في كون القوى العظمى هي العامل الاساسي في تحريك هذه الانظمة فالموقع الاستراتيجي لاريتريا، مدخل بابا المندب يجعل قيمتها الاستراتيجية هامة بالنسبة للولايات المتحدة واسرائيل كما انها تشكل حاجزا للمد الاسلامي بين السودان والصومال لذلك لعبت ارتيريا دورا بارزا في دعم حركة التمرد والقوى المعارضة في مواجهة المشروع العربي الاسلامي الذي تتبناه الحكومة السودانية .

 

يصلح أن يطلق على الولايات المتحدة مقولة الحاضر الغائب في النزاع السوداني، فالبرغم من انها كانت بعيدة عن هذا الصراع الا انها في اللحظات الاخيرة تدخلت بشكل مباشر من خلال مبعوثها للسلام في السودان "جون دان فورت" وتتلخص الرؤية الامريكية في قيام دولة واحدة ونظامان. هذه الرؤية التي شاعت في ادبيات السياسة الامريكية.

وفيما يتعلق بحق تقرير المصير والتي تم التعبير عنها في تقرير جون دان فورت اوضح التقرير انه لا يجيز حق تقرير المصير الذي تضمن حق الجنوبيين في العيش تحت حكم يحترم دياناتهم وثقافاتهم مع اعطائهم الضمانات الكافية لذلك . كما أن مصالح الولايات المتحدة في السودان المتمثلة في البترول الذي اكتشفته شركة شيفرون الامريكية في خلق الاستقرار في السودان.

 

 


المراجع

1- الهوية السودانية و علاقة الدين بالدولة. طه إبراهيم
2- السودان المأزق التاريخي و آفاق المستقبل. محمد أبو القاسم
3- خطي السلام خلال عشرة أعوام. محمد الأمين
4- التنوع العرقي و السياسة الخارجية في السودان. محجوب الباشا
5- مشكلة جنوب السودان. عبد القادر إسماعيل
6- قضايا الحرب و السلام في الجنوب السودان. ابيــل اليــر
7- الفكر السوداني أصوله و تطوره. محمد المكي
8- السودان حوارات الهوية و الوحدة الوطنية. عبد العزيز حسين
9- جون قرنق يتحدث. منصور خالد
10- جنوب السودان في المخيلة العربية الصورة
الزائفة والقمع التاريخي. منصور خالد
11- السودان أهوال الحروب و طموحات السلام
قصة بلدين. منصور خالد
12- النخبة و إدمان الفشل. منصور خالد
13- أفارقة بين عالمين. دينق فرانسيس
14- دينامية الهوية أساس التكامل. حيدر ابراهيم
مركز الدراسات السودانية
15- صراع الرؤى. دار جامعة الخرطوم
16- السودان حروب الموارد و الهوية. سليمان محمد
17- أوهام الهوية. داريوش شايفات
18- السودان و الافريقانية. عبد الهادي صديق
19- مسالة الهوية العروبة و الإسلام و الغرب. محمد عايد
20- مشكلة جنوب السودان طبيعتها ة تطورها. مدثر عبد الرحيم
21-الإيمان و أثره في حياة الإنسان. حسن عبد الله
22- السودان الوحدة أم التمزق. عبد الرحمن عبد الله
23- السلطة و الثروة في السودان. فتح الرحمن عبد الله
24- مناهج و أساليب البحث السياسي. مصطفي عبد الله
25- الثقافة و الديمقراطية في السودان الافروعربية
أو تحالف الهاربين. عبد الله علي
26- السودان المأزق و الأمل. فضل الله علي
27- السودان بين التجمعات الإقليمية و تجمع
دول حوض النيل. محمد عمر
28- دراسات في الفلكلور السوداني. فرح عيسي
29- جنوب السودان و سلام القوة. أبو الحسن فرح
30- مفهوم الأمة السودانية منظور تاريخي. يوسف فضل
31- دراسات في التاريخ السوداني.
32- قضايا الوحدة و الهوية. جون قرنق
33- من ضيع السودان. عبد الرحمن محمد
34- العرب العباسيون في السودان. عباس محمد
35- السودان الوحدة و التنوع. عبد الغفار محمد
36- حوارات الثقافة و ثقافة الحوار مشكلة الهوية
في السودان. عبد الرؤوف محمد
37- تحولات الهوية السودانية العصور الجديدة. يوسف مختار
38- السودان بيم إقامة الدولة الإسلامية
والحروب المستمرة. تمام مكرم
39- صراع السلطة و الثروة في السودان. تيم نبلوك
40- السودان الدولة المضطربة. بيتر ودوارد

 

 

 

الأستاذ / احمد التيجاني محمد سوار

- ولد بمدينة كادوقلي ولاية جنوب كروفان السودان
- متزوج و أب لثلاثة أبناء
- تخرج في كلية الآداب بجامعة أم درمان الإسلامية 1988
- حصل علي دبلوم عالي للعلوم السياسية جامعة النيلين 1999م
- حصل علي ماجستير للعلوم السياسية أكاديمية الدراسات العليا ليبيا 2005م
- عمل نائب لرئيس البعثة بسفارة السودان ببيروت 1992 – 1996
- عمل قنصل عاما للسودان بالجماهيرية الليبية ببنغازي 2000 – 2005
- وزير مفوض و نائب رئيس البعثة السودانية – نواكشوط
- شارك في العديد من المؤتمرات الإقليمية و الدولية و المحلية
- لديه عدد من البحوث و المقالات المنشورة

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !