إشكالية تحديث الخطاب الديني
كمال غبريال
GMT 16:00:00 2010 السبت 11 سبتمبر
لا مناص من أن نعترف بالحقيقة مهما كانت مريرة، وهي أن العالم المتحضر كله يواجه الآن إشكالية مع ما يمكن تسميته بأيديولوجيا الإسلام السياسي، تلك التي أنجبت طيفاً واسعاً ومتدرجاً في الشدة من ممارسات وأفكار تروج للعنف والكراهية بين البشر، بعضها يمكن أن نصفه "بالفعل"، والبعض الآخر يمكن أن نعتبره "رد فعل"، ولعل أوضح وأحدث مثال على هذا، حديث قس أمريكي عن حرق القرآن، باعتباره فعل كراهية موجه لقلب ووجدان الآخر المسلم، ما يعد "رد فعل"، إزاء ممارسات القتل والذبح والتفجير التي تنسب نفسها لوصايا قرآنية.. هي معضلة محيرة، أن نجد طريقاً نخرج به من مستنقع العنف الملتحف بالمقدس هذا.
واحدة من المحاولات لتجاوز ذلك المأزق العالمي والإنساني، هي تلك الاجتهادات التي يبذلها المستنيرون تحت عنوان "تحديث الخطاب الديني"، لمواجهة الخطاب المتعصب الرائج بالشرق، والذي أنجب ما أنجب من جرائم تفوق الخيال، مُسْنَدَةً إلى الأوامر الإلهية، وإلى فضيلة طاعة الله.. خلف هذه الاجتهادات المشكورة عاملان، أولهما الغيرة على الدين، وتبرئته مما ينسب إليه من تحريض على الإجرام فائق البشاعة، والذي وصل إلى حد ما شاهدناه من أفلام فيديو، فيها يذبح إنسان أخيه في الإنسانية وهو يسمي "الله أكبر" كأنه يذبح شاة.. وهذا ما يؤدي في نظر عامة الناس إلى خلط واختلاط بين ثنائية الخير والشر، أو الله والشيطان، حيث أن الإنسان عبر العصور قد توافق على نسبة أعمال الخير إلى الله، ونسبة الشر إلى الشيطان، فإذا كان القتل العشوائي أو على الهوية الدينية خيراً ينسب لله، فماذا يتبقى ليكون شراً ينسب للشيطان؟!
العامل الثاني الذي يدفع مفكرين لتجديد الخطاب الديني، هو غيرتهم على الحضارة الإنسانية، وإشفاقهم على شعوبهم التي تسقط مغرمة بين براثن هذه التيارات المتعصبة ذات الميول الإجرامية، مخدرة بمقولات تبدو تقوية وإيمانية، خاصة مع شيوع روح التدين العميق بين شعوب الشرق، مترافقاً مع تفشي الجهل والفقر وبؤس الحياة عموماً، ما يمهد لسيكولوجية السخط على الحياة ومن فيها، فيأتي هذا الخطاب التحريضي ضد الآخر الكافر، ليكون متنفساً للمكبوت الذي لا حيلة في تصريفه إلا بممارسة العنف المقدس.
يعتمد المنشغلون بتحديث الخطاب أو الفكر الديني على تكتيك ذي ثلاث ركائز منطقية، يستعينون بها على إنتاج خطاب مختلف عن ذلك الخطاب الرائج فائق الخطورة:
• الركيزة الأولى تعتمد على فكرة التجاوز الزمني، فعلى مثال مسألة العبودية التي لم تحرمها النصوص المقدسة، ووردت في الفقه تقنينات وأحكام بشأنها، ثم تجاوزها الزمن ولم تعد العبودية مقبولة من أي أحد، رغم أن هذا يدخلها تحت بند "تحريم ما أحله الله"، يمكن أن يتم التوسع في منطق التجاوز هذا، ليشمل أموراً أخرى عديدة، منها الموقف العدائي من الآخر الكافر مثلاً.. يعتمد هذا المنهج بالأساس ليس على تقديم فهم مختلف للنص المقدس، يكون متوافقاً مع الحاضر وظروفه، ولكنه ينتهج غلق بعض الملفات، باعتبار أنها لم تعد مطروحة بالأساس، وأنه من غير المنطقي أو المقبول إعادة إحياء ما تشمله هذه الملفات من قضايا، في غياب تام للظروف الحياتية التي كانت تعالجها في زمنها.
• الركيزة الثانية هي تاريخية النصوص المقدسة، وتعتمد على فهم النص المقدس في ظل الظروف التي تناولها تاريخياً، أي "عدم الأخذ بعموم اللفظ، ولكن بخصوصية السبب"، وهذا المنهج يؤدي إلى استبعاد الكثير من الفتاوى والأحكام الفقهية القديمة أو المحدثة، التي تأخذ بمبدأ عموم اللفظ، لتطبقه على ظروف مغايرة، كما يؤدي إلى تعديل قد يكون في بعض الحالات جذرياً لفتاوى وأحكام أخرى.
• الركيزة الثالثة تحاول تجاوز القضايا الجزئية أو التفصيلية، وما يرد في النصوص المقدسة بشأنها من وصايا أو أحكام، والعبور إلى ما يعرف بالمقاصد العليا للرسالات السماوية، وهي التي تكاد تتشابه أو حتى تتطابق فيها جميع الأديان لدى جميع الشعوب، وتكاد تكون متوافقة أيضاً إلى حد ما مع ما نعرفه بمعايير حقوق الإنسان العالمية.. هي إذن محاولة جسورة لتجاوز الخلافات والاختلافات، للوصول إلى كلمة سواء بين جميع البشر.
يجمع بين هذه المحاولات لإنتاج خطاب ديني حداثي ومختلف الانطلاق من حسن النية، تجاه العقائد الدينية والحضارة المعاصرة معاً، مع ذلك نجد أنها حتى الآن لا تكاد تجد لها طريقاً إلى قلوب الجماهير المؤمنة، كما لم تجد من بين فئة من نعرفهم برجال الدين من يتبنى ذلك الخطاب التجديدي، ليقدمه للجماهير باعتباره الإيمان الصحيح والملزم للمؤمن ليصح إيمانه، بالطبع مقارنة بما يحظى به الخطاب الذي نسميه بالمتشدد من رواج وأنصار ودعاة.. يرجع هذا العجز لاشك إلى عوامل موضوعية تتعلق بهذا الخطاب، من حيث طبيعته وطريقة تشكيله أو إنتاجه:
• إذا كان خطاب التشدد المحرض على العنف، يجد له وظيفة في مجتمعات محبطة ومحتقنة تحتاج إلى تنفيس للكبت، وترحب بتنفيس مقدس، يعتبر ممارس العنف ليس مجرماً مصيره بائس في الدنيا والآخرة، وإنما مجاهداً يثاب في الآخرة بجنات الخلد، وفي الدنيا يحاط باحترام بل وتقديس جموع المؤمنين المحتسبين، فإن الخطاب التحديثي عليه أن يواجه هنا منافسة ضارية، دون سند من دواع موضوعية ملحة كتلك التي يتمتع بها منافسه المتشدد.. بل وسينظر إلى الخطاب الحداثي على أنه خطاب مصنوع وممالئ للسلطات الحاكمة، وهي التي تتميز بالاستبداد والفساد والفشل في عموم أنظمة المنطقة الموبوءة بالتشدد، ما يؤدي أن تضع الجماهير -في حالة وصول الخطاب الحداثي إلى أسماعها- أصحاب الخطاب التحديثي في عداد المنافقين، مقابل المخلصين الصادقين الذين يحرضون على العنف المقدس.
• الخطاب المتشدد بطبيعته ناتج في الأغلب عن قراءة بسيطة ومباشرة للنصوص المقدسة، ما يجعل رسالته يسهل إيصالها لجماهير عديمة أو حتى متوسطة الثقافة، كما يبدو في نظرها كرؤية إيمانية صادقة ومستقيمة وأمينة، بعكس الرؤية التجديدية، التي تتطلب لإيصالها للجماهير شروحاً وآليات عقلية منطقية، تفتقد إليها العقلية الشرقية، سواء بناء على طبيعتها البيسطة العاجزة عن إعمال الفكر، أو نتيجة لنظم تعليم لم تغادر في أحسن حالاتها حدود مدرسية العصور الوسطى، لتكون النتيجة في النهاية أن تنظر الجماهير إلى تلك الرؤى على أنها تحايل على النصوص المقدسة، لاستنطاقها بما لم تنطق به، أو حتى لإبطال مفعولها وتفعيلها، والهروب إلى الفكر الإنساني الوضعي، بما يخالف الأوامر الإلهية.
• يعيب الرؤى التجديدية أنها تكون في النهاية رؤى انتقائية تعسفية، تختار من النصوص المقدسة ما يتفق مع ما تهدف للوصول إليه من نتائج، مهملة أجزاء أخرى من تلك النصوص ذاتها، تشير بقوة إلى اتجاهات ونتائج مضادة.. هي بالطبع تشترك في هذه الصفة مع الخطاب المتشدد، الذي هو أيضاً انتقائي وتعسفي.. هذا يفقد كلا الخطابين إطلاقية حجيتهما الدينية، تلك الإطلاقية التي يدعيها كل فريق لنفسه، حين يقدم نفسه باعتباره صحيح الدين، واصماً الفريق الآخر بالجهل أو التفريط في الدين.
• هناك أيضاً ما يستدعي أن تبدو محاولات التوفيق بين النصوص المقدسة وبين حضارة وقيم العصر، وكأنها محاولات للتلفيق وليس للتوفيق، فالحقيقة أن التغير الذي شمل الحياة الإنسانية، ليس فقط في معالم الحياة وظروفها المادية الموضوعية، بل تواكب مع هذا تغير في القيم الأخلاقية والاجتماعية، يصل في بعض الأحيان والمجالات إلى درجة التضاد مع القيم القديمة، لتكون محاولات التوفيق بين النصوص المقدسة، وبين قيم مخالفة لتلك التي تشكل العمود الفقري لتلك النصوص، هي محاولات تفتقد بالفعل إلى الإخلاص والمصداقية.
• لجوء اجتهادات التجديد الديني إلى تكتيك تجاوز التفصيلات، هروباً إلى المقاصد العليا للنصوص الدينية، هو في الحقيقة تجريد للأديان من خصوصيتها، لتتساوى مع سائر النصوص والأديان، وهذا بالطبع لا يمكن أن يروق للمؤمنين المتحمسين المخلصين لدينهم، والذين يعتزون بما يتمتعون به من خصوصية دينية قوامها الاختلاف عن الأديان الأخرى، ولا نستطيع منطقياً أن نلومهم على ذلك، فذلك التكتيك التحديثي أشبه بالتراجع عن سائر الأديان، وصولاً إلى نقطة البداية، حيث بدائية ومشاعية وعمومية أسس الأخلاق والقيم الإنسانية.. الحقيقة أنه هذا التكتيك يصلح لأن يكون توجهاً عقلانياً علمانياً، لكن من غير المستساغ القبول به كرؤية دينية، أو كفهم لنص مقدس محدد.
• النقطة الأخيرة لا تتعلق بالخطاب ذاته، وإنما بشخوص المروجين له.. فالمروجون لخطاب التجديد الديني هم غالباً من الباحثين والدارسين الجادين، والذين لا يتقنون غير البحث والدرس، ويفتقدون لمواهب مخاطبة الجماهير، عبر مختلف وسائل التواصل الجماهيرية، التي ليس من بينها بالتأكيد نشر البحوث والدراسات والكتب، في مجتمعات تسود فيها الأمية، وحيث خريجي الجامعات يرزحون في أمية ثقافية قد تكون أشد وطأة من أمية بعض من لا يجيدون القراءة والكتابة!!.. بعكس ما نجده لدى الجانب الآخر المتشدد، والذي يتصدى للترويج له من يجيدون التلاعب بمشاعر وعقول الجماهير، مستعينين بوسائل تواصل غاية في خطورة التأثير، منها منابر دور العبادة.
اذا كان لابد من خلاصة نختتم بها سطورنا هذه، فهي أن محاولات "تحديث الخطاب الديني" لا مستقبل لها، لا في مواجهة التيارات الظلامية السلفية، ولا في تأسيس لحداثة حقيقية في منطقة الشرق الكبير، فمهما كانت درجة استنارة تلك الرؤى، إلا أنها تشترك مع الرؤى السلفية في الاستناد للمرجعية الدينية، وهذا يجعل حضارة الحاضر والمستقبل أسيرة الماضي، تحايله وتتحايل عليه، لكي يسمح لها بكل خطوة تزمع خطوها للأمام، ليصير حال شعوبنا وكأنها تسير رحلة تتطلب منها العدو، فيما أقدامها مكبلة بأحجار تجرجرها معها أينما ذهبت.. هل ثمة طريق آخر يمكن أن تتجاوز به الإنسانية ورطتها؟.. لا نملك رفاهية الإجابة بكلمة "لا" على هذا التساؤل، ليتبقى أن نخلص التوجه والسعي للعثور على هذا الطريق.
مصر- الإسكندرية
التعليقات (0)