النص وإشكالية الدلالة عند الشافعي.
من المعروف عند دارسي الشافعي، أنه كان من أكبر دعاة تأسيس النصوص تأسيسا شرعيا لغويا. فمن الصعب لمن يريد الانفلات من عقالها، أن يتجنب المسألة اللغوية والإشكالات المرتبطة بها؛ تلك التي استثمرها للإفادة بأن العلم هو علم بالنص وفق قواعد اللسان العربي والحديث-السنة.
لهذا يشدد هذا الإمام على البيان العربي في الفهم والعلم بالأصول؛ والأكثر من ذلك يعتبر اللغة العربية أكثر اتساعا مما يظن بها، وهذا ما يستوجب اعتبارها منبع طرق الدلالة في النصوص الدينية . وقد ساعد هذا التصور أصحاب الحديث وبعض الأصوليين على رفض طرقا أخرى للدلالة، كالدلالة العقلية والكلامية، مقتصرين على الدلالة النصية واللفظية.
إذن يتوازى العلم بالقرآن والسنة بالعلم باللسان العربي، فلا تتأتى معرفة النص إلا لمن تحققت له معرفة محيطة بالبيان. ولا يبلغ المعنى الحقيقي للنصوص الدينية إلا من جمع بين الدلالة النصية والشرعية، وهذا لا يتأتى إلا للنبي وحده.
وإذا كانت اللغة بهذا الاتساع الدلالي، فإنه لا يمكن للإنسان المجتهد أن يدرك معنى النصوص، اللهم إذا كان نبيا. وبما أن لغة القرآن هي العربية، ولسان العرب أوسع الألسن على الإطلاق، فإن هذا القرآن، صعب الدلالة معجز اللفظ، وهذا ما حدا بالشافعي ليعتبر السنة دالة على القرآن ومبينة له، ولها مشروعية كبرى في فك رموزه الدلالية، فهي تجعل المستحيل ممكنا.
ووفق هذا الربط الدلالي القائم بين نص القرآن ونص الحديث، تكتسب السنة مشروعيتها ليس فقط في اكتشاف دلالة القرآن، بل في تشكيل الدلالة الأصولية أيضا . وقد كان غرض الرسالة وضع طرق( منهج ) يمكن اعتبارها أسسا لعلم يختص بدراسة أصول الدلالة الشرعية، كما تصورها الشافعي، انطلاقا من نظريته في البيان، قصد بيان معاني النصوص الدينية.
والبيان عند الشافعي اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول، أو إجمالا في بعضه وتفصيلا في بعضه الأخر، وقد يكون بيان من القرآن للقرآن، أو بيان من السنة للقرآن. إنه يعتبر جميع معاني البيان مدركة ومتقاربة الاستقراء عند من يفهم لغة القرآن ويخاطب بها، أما إذا جهلها المرء، فإنه سيجهل أنواع البيان ومن ثم يجهل معاني النصوص.
إذن، لابد لمن يريد إدراك دلالة النص القرآني أن يمر بطرق العرب في البيان، فهي الطرق عينها المستعملة في القرآن، وإن كان بيان القرآن في نظره أحيانا من إعجازه، وهو ما لا سبيل إلى إدراكه إلا للرسول. وتكتسب هذه الطرق البيانية قوتها ومشروعيتها، حسب الشافعي، من القول بالتلازم بين اللفظ والمعنى، ولهذا فالبيان العربي جزء جوهري في بنية النص الديني . ويقسمه هذا الأخير، حسب مقتضيات تصوره، إلى ما يلي:
1- ما أبانه الله لخلقه بصورة لا تقبل الاحتمال أو الظن، وهذا هو المسمى بالنص، كفرض الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والخمر، ونحو ذلك من الفرائض والمحرمات.
2- ومنها ما قرر الله فرضه في القرآن، وترك بيان كيفيته للنبي (ص)، كتعدد الصلوات، ومقادير الزكاة ونحو ذلك.
3- ومنها ما فرضه رسول الله (ص) ابتداء وليس في القرآن له نظير، وذلك مثل فرض القرآن تماما، لأن الله تعالى فرض في كتابه طاعة نبيه (ص)، وذلك كتحريم أكل لحوم الحمير.
4- ومنها ما فرض الله تعالى على العباد معرفته بالاجتهاد والنظر وابتلاهم بذلك، كالاجتهاد في معرفة القبلة عند البعد عنها، لأن التوجه إليها في الصلاة فرض.
يظهر من هذا التقسيم، حرص الشافعي على إبراز أن للنص أوجها عدة في الإبلاغ؛ فهو يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشاكل والنوازل التي وقعت في الماضي أو يمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل . وقد نوقشت طرق البيان هذه تحت مسمى العموم والخصوص، وهو مبدأ أصولي لغوي طرح في سياق النقاش الدائر بين مدرسة الحديث والرأي، حول طرق الدلالة الشرعية. أما مدرسة الحديث، فهي تقول بأن الحلول الدنيوية والأخروية موجودة في النص ويكفي فقط اكتشافها بالبيان، بينما ترى المدرسة الثانية أن هناك ضرورة لاستعمال الرأي في بحث الدلالة( أبو حنيفة ).
وفي هذا السياق، يدافع الشافعي عن مبدأ وجود الحلول لكل المشكلات في النص، مدافعا بذلك عن مدرسة الحديث. وهكذا انصرف للدفاع عن مدرسة النص، فكان أن أقر بكثير من الجهد العقلي، أن طرق الدلالة في النص متعددة، وأن معنى النص مرتبط بالكيفية التي تؤدي بها اللغة العربية الدلالة. فمعاني الكتاب ( النص ) إنما هي مكتسبة بطرق العرب في الدلالة، لهذا نجده يقرر أنواع الدلالة حسب هذا المنظور إلى:
- العام من الألفاظ الذي يبقى في إطار دلالته على العام داخل التركيب أو السياق، مثل قوله تعالى: ( الله خالق كل شيء )، فيها خلاف من حيث دلالة كل للعموم. إنها نموذج للعام الباقي على عمومه.
- العام الظاهر الذي يدخله تخصيص جزئي لا يلغي عمومه،مثل الآية120 من سورة التوبة: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه).
- العام الظاهر، لكن دلالته هي الخصوص على غير ظاهرة، مثل الآية173 من سورة آل عمران: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادوهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). يلاحظ تراوح الدلالة بين الوضوح والغموض، فالغموض والوضوح في دلالة العموم على الخصوص لا يرتبط بطبيعة التركيب أو السياق، بل هو مرتبط أساسا بطبيعة المتلقي حسب الشافعي.
- الظاهر الذي يعرف من سياقه أنه يراد به غير ظاهره، وقد فهم هذا النوع بظاهرة الحذف أو مجاز الحذف كما درسه اللغويون كالفراء وغيره.
- تكلم العرب بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرفه بالإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لإنفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها. ويتجلى هذا في الاستعارة والكناية، ويعتبر هذا النوع من الدلالة من أعلى الأنماط لأن العلم به مقصور على أهل العلم دون الجهلة.
- ما يتعلق بدلالة الألفاظ المفردة بواسطة الترادف، فالشيء الواحد بالأسماء الكثيرة.
- ما يتعلق بدلالة الألفاظ المفردة بواسطة الاشتراك، لأن للاسم الواحد معاني كثيرة.
إن تأسيس دلالة العموم والخصوص بهذا الشكل، كظاهرة لغوية وأصولية، له فائدة كبيرة بالنسبة للشافعي في ربط تأويل معنى النص المؤسس باللسان العربي وحاجته إلى النص الشارح ( الحديث ). إنه ربط تأسيسي بين القرآن والحديث واللسان.
لكن ما يعاب عليه هنا، هو اعتماده في هذا التصنيف لأشكال الدلالة على تصنيف المتلقين، وليس على رصد آليات إنتاج الدلالة في بنية النص في حد ذاته، إضافة إلى ذلك اكتفاءه بشروح اللغويين والنحات والبلاغيين. أما الحقيقة المتوارية وراء كل ذلك، فهي محاولة تأسيس عروبة النص بالمعنى الذي يفيد أنه لا يوجد مدخل غير اللسان العربي (البيان ) لفهم حقيقة الدين الإسلامي. وهذا في حد ذاته يتنافى مع مقصد كونية الدين، وإمكانية أن يتلون بثقافات أخرى غير الذهنية العربية. ولعل ما يزكي هذا نفوره من الشعوبية وتعصبه للغة والثقافة العربية القرشية، كما يؤكد الباحث نصر حامد أبو زيد في بحثه القيم عن الشافعي .
هكذا سيعمل الشافعي على تسييج النص بسياج اللغة، ولن يكتفي بذلك؛ بل سيتمسك بحرفية النقل في مجال دلالة الحديث على القرآن، نافيا أهلية العقل في تأسس الدلالة، مكرسا بذلك مبدأ تباعد العقل والنقل وتعارضهما في مجال التأويل الدلالي للنصوص، ضاربا بعرض الحائط مبدأ الدلالة العقلية التي أسس لها بعض المتكلمة والنظار.
ولعل أكبر مفارقة تلفيقية وضعها هذا الإمام، هي أن أسس بواسطة اجتهاداته وعقله لنفي العقل، ومن ثم تأسيس سلطة النصوص وتنافي العقلانية في مجال تأويل النص الديني مع إدراك المعاني الدينية. فلا مجال للتحرر من هذه السلطة ( الثقافية ) والهيمنة الدلالية النصية، إلا بالتحرر من الفهم الشافعيي للنص الديني، وذلك بربطه بالسياقات التاريخية والثقافية التي أنتج فيها.
فالثابت في العلوم الدينية، هو أنها كلها لا تخرج عن تلك السياقات. إنها تاريخية، ولا تتعالى على الزمان والمكان والظروف والملابسات التي أنتجت فيها.
التعليقات (0)