مواضيع اليوم

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (9)

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (9)

أدت هذه الخرافات والبدع إلى تهيئه البيئة المناسبة لظهور العلمانية الغربية، بالإضافة إلى مظاهر الطغيان التي تمتعت بها الكنيسة ورجالها في تلك العصور المظلمة، والتي تمثلت في:


الطغيان الديني:
منذ أن ظهر إلى الوجود ما يسمى المسيحية الرسمية في مجمع نيقية (325م) والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهرا، وحرمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال، ونصبت نفسها عن طريق المجامع المقدسة " إلها " يحل ويحرم، ينسخ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي، كائنا من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته لأنه كافر "مهرطق".
وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله، مثل حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلة، فحق الغفران أدَّى إلى المهزلة التاريخية "صكوك الغفران" السالفة الذكر، وحق الحرمان عقوبة معنوية بالغة كانت شبحا مخيفا للأفراد والشعوب في آن واحد، فقد تعرض له من الأفراد: الملوك أمثال: فردريك، وهنري الرابع الألماني، وهنري الثاني الإنجليزي، ورجال الدين المخالفين من آريوس حتى لوثر ، والعلماء والباحثون المخالفون لآراء الكنيسة من "برونو " إلى "أرنست رينان " وأضرابه.
وأما الحرمان الجماعي فقد تعرض له البريطانيون عندما حصل خلاف بين الملك يوحنا ملك الإنجليز وبين البابا، فحرمه البابا وحرم أمته، فعطلت الكنائس من الصلاة، ومنعت عقود الزواج، وحملت الجثث إلى القبور بلا صلاة، وعاش الناس حالة من الهيجان والاضطراب حتى عاد يوحنا صاغرا يقر بخطيئته ويطلب الغفران من البابا، ولما رأى البابا ذله وصدق توبته رفع الحرمان عنه وعن الأمة.
ولتعزيز سلطتها الدينية وضمان عدم الخروج عليها ومبالغة في الطغيان أنشأت الكنيسة "محاكم التفتيش" التي لا يكاد المؤرخون الغربيون يتعرضون للحديث عنها إلا ويصيبهم الاضطراب، وتتفجر كلماتهم رعبا، فما بالك بالضحايا الذين أزهقت أرواحهم، والسجناء الذين أذاقتهم ألوان المر والنكال!
وكانت المحكمة عبارة عن سجون مظلمة تحت الأرض، بها غرف خاصة للتعذيب، وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري، وآلة على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، يلقون الضحية في التابوت ثم يطبقونه عليه فيتمزق جسمه إربا إربا، وآلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد فتقصه قطعة قطعة، وتغرز في أثداء النساء حتى تتقطع كذلك.

ثانياً: الطغيان السياسي:
أعلن البابا الطاغية "جريجوري السابع " أن الكنيسة بوصفها نظاما إلهيا خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه - بصفته خليفة الله في أرضه- أن يخلع الملوك غير الصالحين، وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم، حسب مقتضيات الأحوال".
لذلك فقد فرضت نفسها وصية على الملوك والأمراء، وأرغمتهم على الخضوع المذل لها، وجعلت معيار صلاحهم منوطا بمقدار ما يقدمونه لها من مراسم الطاعة وواجبات الخدمة، لا بمقدار ما يحفظون حدود الله ويستقيمون على منهجه.

وكثيرا ما كان ملوك أوروبا يضيقون ذرعا بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شئونهم، ذلك التدخل الذي لا يجدون له مبررا على الإطلاق، ومع ذلك فقد كان غاية ما يطمح إليه أولئك أن تكف الكنيسة عن فرض وصايتها السياسية والدينية عليهم، دون أن يفكروا في تقويض بنيانها، أو الخروج على تعاليمها؛ فلقد ظلت الكنيسة في العصور الوسطي قوية بسلطانها الروحي، وهيكلها التنظيمي الدقيق، واستبدادها المطلق، كما كانت تخرج في كل صراع يدور بينها وبين أحد الأباطرة والملوك المتمردين عليها منتصرة قوية، ولا أدل على ذلك من المثال التالي :
"فقد حصل نزاع بين الملك هنري الثاني وبين "تومس بكت " رئيس أساقفة كنتربري ، بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اُغتيل، فروعت المسيحية وثار ثأرها على هنري ودمغته بطابع الحرمان العام، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة، ووعد بأن يكفر عن ذنبه بالطريقة التي يرتضيها، وألغى الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها، وبالرغم من ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجاً نادماً، ومشى الثلاثة أميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصوان، حافي القدمين ينزف الدم منهما، ثم استلقى على الأرض أمام قبر عدوه الميت، وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه"

ثالثاً: الطغيان المالي:
لقد ساعد الكنيسة على طغيانها الديني والسياسي ما كانت تتمتع به من طغيان مالي نتج عن الروافد المالية الكثيرة التي أثرتها ورجالها ثراء فاحشا، برغم النصوص الواضحة - حتى في الأناجيل المحرفة- التي تدعوا إلى الزهد في الدنيا وحرمة اقتناء المال، وتمثلت هذه الروافد في : الأملاك الإقطاعية، والأوقاف، والعشور: وهى عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين، و ضريبة السنة الأولى: وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية، تدفع للكنيسة بصفة إجبارية، بالإضافة إلى الهبات والعطايا التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة.

رابعا : الطغيان العقلي:
مثلما هيمنت الكنيسة على الحياة الدينية والسياسية والمالية هيمنت أيضا على الحياة العلمية والعقلية، فاعتبرت الفلسفات الإغريقية القديمة - التي تأثر بها رجال الدين وعموم المسيحيين على السواء- جزءا من الحقائق العلمية المسلم بها بل جزءا من تعاليم الدين المسيحي والخروج عليها خروج على الدين نفسه، وقد بذلت جهودها للتوفيق بين معتقداتها الدينية وآراء رجال الدين الفلسفية، ونشأ عن ذلك فلسفة مركبة تسمى "الفلسفة المسيحية" وهي خليط من نظريات الإغريق وظواهر التوراة والأناجيل وأقوال القديسين القدامى، ولما كان العلم والفلسفة في ذلك العصر شيئا واحدا، فقد أدمج الفلاسفة المسيحيون في صرح فلسفتهم كل ما وصل إليه العلم البشري في عصرهم من النظريات الكونية والجغرافية والتاريخية، ورأت الكنيسة في هذه الفلسفة التوفيقية خير معين على الدفاع عن تعاليمها ضد المارقين والناقدين، فتبنتها رسميا وأقرتها مجامعها المقدسة حتى أضحت جزءا من العقيدة المسيحية ذاتها، وامتدت يد التحريف فأدخلت بعض هذه المعلومات في صلب الكتب الدينية المقدسة.
ولم يبدأ عصر النهضة الأوروبية في الظهور حتى كانت آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بطليموس في أن الأرض مركز الكون، وما أضاف إلى ذلك القديس أوغسطين وكليمان الإسكندري وتوما الأكويني، أصولا من أصول الدين المسيحي، وعقائد مقدسة لا يصح أن يتطرق إليها الشك.
ولم تكف الكنيسة عن إنزال أقسى العقوبات على من يخالفها الرأي، أو يأتي بنظرية علمية جديدة تخالف ما عليه الكنيسة، حتى ولو كانت أدلته اقرب إلى الصواب والإقناع العقلي، ولا أدل على ذلك مما فعلته الكنيسة بكوبرنيق الذي أتى بنظرية تخالف رأى الكنيسة في أن الأرض هي مركز الكون، وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، وكان جديرا بتلك النظرية بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، ولم ينج من ذلك إلا لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل؟، فلم تعط المحكمة فرصة لعقوبته، إلا أن الكنيسة حرمت كتابه" حركات الأجرام السماوية" ومنعت تداوله، وقالت: إن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.
ولكن رجلا آخر هو "جردانو برونو " بعث النظرية بعد وفاة صاحبها فقبضت عليه محكمة التفتيش وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600م، وذرت رماده في الهواء، وجعلته عبرة لمن اعتبر.
وبعد موته ببضع سنوات كان "جاليلو " قد توصل إلى صنع المرقب "التلسكوب" فأيد تجريبيا ما نادى به أسلافه نظريا، فكان ذلك مبررا للقبض عليه، ومحاكمته، فقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان، وأمر بتلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات، ولما خشي على حياته أن تنتهي بالطريقة التي انتهى بها برونو؛ أعلن ارتداده عن رأيه وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة.
تلك هي البيئة الأوروبية التي نبتت فيها العلمانية والتي تعنى بشكل مخصوص فصل الدين عن الدولة، وبشكل عام فصل الدين عن الحياة، أو الحياة اللادينية، أو الحياة المبنية على التفكير في الحياة الدنيا فقط دون التطلع إلى الآخرة
ولكن كيف تم ذلك ؟
هذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة
يتبع

محمد عبد الفتاح عليوة




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !