مواضيع اليوم

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (8)

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (8)

قلنا أنه نتج عن الانحرافات في العقيدة والشريعة المسيحية أن ظهرت في المسيحية الأوروبية بدع شتى كانت المسوغ الأساسي لظهور الفكر العلماني؛ كرد فعل مضاد لتلك الخرافات، وهذه البدع هي :( رجال الدين الإكليروس، والرهبانية، والأسرار المقدسة، وعبادة الصور والتماثيل، والمعجزات والخرافات، وصكوك الغفران )

أولا: رجال الدين :
وهم في الأصل علماء للتوراة والإنجيل كانت مهمتهم – بما أتوا من مواهب وقدرات- حفظ التوراة والإنجيل وتفسيرهما لمن أشكل عليه، لكن التحريف المستمر جعلهم فوق البشر، حتى وصل الأمر إلى أنهم بنوا وجودهم على مبدأ أنهم وسطاء بين الله والخلق، وقد اقتضى هذا المبدأ ألا يذهب الإنسان إلى رجل الدين ليعلمه كيف يعبد الله، بل ليعبد الله بواسطته، وليس للمذنب أن يتجه بتوبته إلى الله، طالبا الصفح والمغفرة، بل عليه أن يتجه إلى رجل الدين معترفا أمامه بذنبه ليقوم بالتوسط لدى الله فيغفر له.
وقد ترتب على هذا المبدأ آثار سيئة للغاية، منها: احتكار رجال الدين لحق قراءة وتفسير الإنجيل، ثم مهزلة صكوك الغفران، وكذلك الانشقاقات الدينية المتوالية التي دمرت الحياة بصفة عامة، ولقد كان هذا المبدأ إحدى الحجج التي سلها ملاحدة القرن السابع عشر فيما بعد، في وجه الأديان عامة والمسيحية خاصة.
وجريا على ذلك تزعم الكنيسة أن المسيح قال لـبطرس كبير الحواريين: " أنت بطرس ، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات" .
فهمت الكنيسة من هذا القول: أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع، وتحكمه باسم المسيح، وبما أن المسيح بطرس - كما تقول الكنيسة- مات في روما ، فإن روما هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله "البابا " المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره الكنيسة هذه هو عين الصواب، إذ أن المسيح بواسطة الروح القدس هو الذي يملي عليها تصرفاتها، ومادام أنها تعمل باسم الله، وتحل وتبرم حسب مشيئته، بل هو يحل ويبرم حسب مشيئتها - تعالى الله على ذلك علوا كبيرا- فطاعتها واجبة، وقراراتها إلزامية لكل المؤمنين بالمسيح، وليس على الأتباع إلا الطاعة العمياء والانقياد الذي لا يعرف جدلا أو نقاشا، والذنب الذي لا يغتفر هو أن تصادم أوامر الله، التي هي أوامر الكنيسة، بواسطة العقل البشرى أياً كان صاحبه، والخارج على سلطة الكنيسة أو الناقد لقرارات مجامعها كافر "مهرطق" تحل عليه اللعنة والحرمان من دخول الملكوت، مهما بلغت وجاهة رأيه، بل مهما كانت سوابقه وخدماته للمسيحية وللكنيسة نفسها.

ثانيا : الرهبانية:
ظهرت الرهبانية في المسيحية الأوروبية نتيجة عدة عوامل أهمها : عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة بسبب عصيان آدم وأكله من الشجرة، و رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة والأبيقورية الرومانية النهمة، والأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهربية القانطة، و الأوضاع الاجتماعية القاسية التي ألجأت الآلاف إلى الهروب إلى الأديرة من ظلم الأسياد، أو فرارا من الخدمة العسكرية التي فرضها الرومان.
وكان من شروط الرهبانية القاسية المصادمة للفطرة الإنسانية : العزوبة باعتبار أن المراة نجسة، وهى السبب في أكل آدم من الشجرة والخروج من الجنة، والتجرد الكامل عن الدنيا، والعبادة المتواصلة، والتعذيب الجنوني للجسد.
ولقد أدت هذه الشروط إلى مصادمة الفطرة؛ مما ترتب عليه من مظاهر فساد الكنيسة فيما يخص رجال الدين والمترهبنين ما يصفه رئيس دير كلوني: "إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتارا يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التي أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذا للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكانا تضع فيه الطفل عيسى"
هذا بالنسبة للمترهبنين، أما الفرد المسيحي فقد ضعفت ثقته بالدين، وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، كيف لا وهو يرى خصيان الملكوت ومثال الطهر يغرقون في الفجور وينالون من المتع الجسدية ما لا يمكنه بلوغه؟!

ثالثا: الأسرار المقدسة:
للمسيحية أسرار كثيرة متعددة الأصول بعضها إغريقي، وبعضها بوذي، وبعضها منقول عن المثرائية ديانة بولس الأولى، من هذه الأسرار ما يتعلق بأمور العقيدة كسر الثالوث - وهو أكبر أسرار المسيحية وأخطرها- ومنها ما يتعلق بشئون العبادة والطقوس كسر التعميد، وسر العشاء الرباني، وسر الاعتراف، وسر الزيت المقدس، وسر الصلاة الأخيرة للمحتضر وأمثالها.
ونستطيع القول: إن الكنيسة تعمد إلى تبرير كل طقس من طقوسها يأباه العقل، وتنفر منه النفوس بأنه (سر إلهي)، فكلمة (سر) كانت ثوبا فضفاضا يستر كل نقائصها ومخازيها، وسلاحا فوريا يقاوم كل اعتراض عليها.

رابعا: عبادة الصور والتماثيل:
شمل اقتباس النصرانية من الديانات والوثنيات المجاورة كل أمور العقيدة والشريعة والشعائر، كما شمل الذوق والإحساس والمظاهر العامة، فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة، رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل، وتعده من أعمال الوثنيين (سفر التثنية).
ونشأت عبادة الصور والتماثيل - كأية بدعة أخرى- محدودة النطاق، ثم نمت تدريجيا وانتشرت في أرجاء واسعة، لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقية الثاني سنة (787)

خامسا: المعجزات والخرافات:
تفتقر المسيحية المحرفة في كثير من تعاليمها إلى الإقناع العقلي والبرهان المنطقي لإثباتها؛ نظرا لتنافيها مع الفطرة، لذلك اضطرت الكنيسة إلى تعويض نقص بضاعتها من الأدلة بادعاء الخوارق والمعجزات، قاصدة التمويه على العقول الضعيفة، واستغفال النفوس الساذجة، وكانت خوارق الكنيسة وشعوذتها تتراوح بين الرؤى المنامية ذات التهويل البالغ، وبين التكهن المتكلف بالمغيبات وحوادث المستقبل، وبين تحمل الأساليب واستجداء شتى الوسائل لشفاء الأمراض المستعصية، يتبع ذلك أمور أخرى كتعليق التمائم والرقى والتمتمات المجهولة، واستعمال إشارة الصليب، وتعليق صور القديسين، ومحاربة الشياطين، وطرد الأرواح الشريرة، وصد الكوارث والأوبئة، واستنزال النصر في الحروب وغير ذلك.
وهذا غير الخرافات الكنسية عن الكون والحياة وكان لهذه الخرافات بجملتها أثر في إثارة الصراع الذي دار طويلا بين الدين والعلم (أو العقل والوحي).

سادسا: صكوك الغفران:
وهى من أشد البدع المسيحية سخافة واستهزاء بالعقول السليمة، حيث تقوم الكنيسة بتوزيع الجنة وعرضها للبيع في مزاد علني، وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة، ولم يكن ليحظى بالحصول على صك غفران إلا أحد اثنين:
1- رجل ذو مال يشتري الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.
2- رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
3- وغير هذين رجل ثالث يعتصر قلبه أسى لأنه لا يملك ثمن الصك، أو لا يستطيع أن يشترك في الحرب، إما لعجزه، وإما لكونه غير مستعد للموت من أجل الكنيسة؛ لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.

أدت هذه الخرافات والبدع التي طمرت المسيحية فأحالتها دينا خرافيا لايمت للعقل بصلة، فضلا عما يطال معتنقيها من الشعوب الأوروبية من ألوان الظلم والقهر من رجال الكنيسة، خاصة عندما تلاقت مصالح هؤلاء مع مصالح أمراء الإقطاع؛ إلى إنبات العلمانية كفكرة تقاوم كل هذه المظاهر من الفساد.
وهذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة
يتبع

محمد عبد الفتاح عليوة
Elewamohamed75@yahoo.com





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !