مواضيع اليوم

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (5)

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (5)


وتحرير العقل لا يعنى انفلاته من كل قيد، بل جولانه ضمن الحدود الطبيعية، له حتى لا يجمح به الخيال؛ فيرى الباطل حقيقة، والخطأ صوابا
فالعقل له دائرة يعمل بها، وهى دائرة النظر العقلي، وهو ما يُتوصل إليه عن طريق البحث والملاحظة والتجربة والاستقراء والاستنباط والتحليل في مسائل الكون والحياة والعلوم المختلفة... وغيرها من المسائل الدينية والدنيوية، كما يدخل العقل في بعض مسائل النظر الشرعي، وهي مجالات قطعية لا مجال فيها للتأويل والتردد مثل : الإيمان بالله تعالي واليوم الآخر والرسل والكتب وفضل شرع الله على ما سواه. فهذه مسائل قد تحدث عنها كتاب الله وسنة رسوله ، وشهد بها العقل بالملاحظة والمشاهدة والأدلة السليمة، كما يدخل العقل في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، طبقا للقواعد المرعية في ذلك (علم أصول الفقه)، وفى إثبات تواتر النصوص، وفى ترجيح أحد المعنيين على الآخر في النصوص المحتملة لأكثر من معنى.
لكن هناك دائرة للشرع لا يجوز للعقل التدخل فيها، ويختص بها الشرع دون العقل؛ لأنها ليست من اختصاصه، وليس له القدرة على الخوض فيها، ولن يصل فيها إلى شيء، ولا طائل من إعمال العقل فيها، وليس هناك ثمرة مرجوة من هذا، كالغيبيات ( الجنة والنار ، والملائكة ..) والتحليل والتحريم، حقيقة الحياة، حقيقة الروح، فهذه مجالات لا يفتي فيها العقل ويؤسسها، إنما يفهمها ويفسرها، ولهذا جاء الإسلام يعني بالإيمان بالغيب؛ حتى لا يبدد الناس طاقاتهم العقلية في ما لا طائل تحته، ولقد أتعب علماء الكلام من المسلمين أنفسهم قديما عندما شغلوا عقولهم بهذه القضايا، فلم يصلوا إلى شيء، ورجعوا بنفوس كليلة، وقالوا في آخر حياتهم كما قال الفخر الرازي: "لقد تأملت الطرق الفلسفية، والمناهج الكلامية، فلم أجدها تشفي عليلا، أو تروي غليلا، ووجدت خير الطرق طرق القرآن، أقرأ في النفي قوله تعالى "..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.."(الشورى:11) وفي الإثبات قوله "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"(طه:5) ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".

فهل يمكن بعد هذا أن تتصادم نصوص الإسلام مع حقائق العلم ؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من توضيح بعض المصطلحات:
هناك فرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية ، فالحقيقة العلمية هي التي يتوافر لها شيئان: إقامة دليل دامغ على صحتها، مع إقامة دليل آخر على استحالة غيرها، أما النظرية العلمية فلا تتوافر لها تلك الأدلة، بل تبقى مجرد رأى لا يرقى لدرجة الحقيقة.
وهذه الحقيقة العلمية بهذه الشروط لا يمكن أن تتصادم مع حكم ديني قاطع، والحكم الديني القاطع هو الذي يتوافر فيه أمران: أن يكون السند متواترا(قطعي الثبوت) ، وأن يكون المتن نصا أي لا يحتمل إلا معنى واحدا ( قطعي الدلالة)

وبالمثال يتضح الكلام:
1ـ حقيقة شرعية وحقيقة علمية : مراحل خلق الإنسان في بطن أمه . قال تعالى : "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ " (حقيقة شرعية) ونفس الحقائق القرآنية هي ما توصل إليه علماء الأجنة (حقيقة علمية).

2- حقيقة شرعية ونظرية علمية : خلق آدم ونظرية دارون . قال تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ " (حقيقة شرعية) وهناك بعض النظريات السقيمة الزائفة في خلق الإنسان تزعم أن الإنسان متطور عن سلالة من الحيوانات، وهذه النظرية تتعارض مع الحقيقة الشرعية ، فواجب على المسلم أن يأخذ بالحقيقة الشرعية، ويضرب بالنظرية العلمية الظنية عرض الحائط.

3ـ حقيقة علمية وشرعي ظني : كروية الأرض، فقد أثبتت التجارب العلمية بالبراهين القاطعة أن الأرض كروية، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الأرض ممدودة منبسطة وإلى أنها كروية، فقال تعالى "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ"، "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا" وفي مثل هذه الحالة نحمل الظني الشرعي على الحقيقة العلمية، كما تجدر الإشارة إلى أن انبساط الأرض وامتدادها لا يتعارض مع كرويتها، وذلك لأن التعبير يوضح حالتها وصورتها التي يراها الناس، وهي ولا شك تُرى مبسوطة ممدودة، أما شكلها فهي كالدحية ( كروية بيضاوية ).

وإن كانت النصوص الشرعية ظنية، والقضايا العلمية ظنية، وقفنا في صف النصوص الشرعية؛ لأنها تنزيل العزيز الحميد، حتى تستقر القضايا العلمية على حال، إما الثبوت، أو الانهيار .

يأتي بعد ذلك العلمانيون ويتركون مجال عمل العقل - مسائل الكون والحياة والعلوم المختلفة..- ويعملونه فيما لا طائل تحته، والغرض المعلن هو تحرر العقل وانطلاقه في آفاق التفكير الرحبة، وأما الغرض المبطن فهو التحلل من العقائد وتبعاتها من عبادات وأخلاق، ثم هم لم يقدموا بعد ذلك كشفا علميا أو ابتكارا حياتيا ينفعون به المجتمعات، ولم يملكوا أدوات النظر الشرعي الصحيح، فضلوا بذلك وأضلوا..

ثم يقولون لك كيف تحرمون علينا الاجتهاد في الدين وتغيير الأحكام ولو كانت قطعية الثبوت والدلالة، وقد فعلها قبل ذلك عمر، عندما عطل حد الردة في عام المجاعة، وألغى سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة رغم وضوح النص الصريح الذي يدل على ذلك، وفى الرد على هذا كلام جميل للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في كتابه " دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" يحسن نقله كما هو ففيه الغناء يقول: " جرت على الألسنة عبارة غامضة، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص، أو أوقف العمل بها على نحو ما؛ لأنه رأى المصلحة في ذلك، وهذا كلام خطير معناه: أن النص السماوي قد يخالف المصلحة العامة، وأن البشر لهم – والحالة هذه- أن يخرجوا عليه ويعدموه، وكلا المعنيين كاذب مرفوض، فلا يوجد نص إلهي ضد المصلحة، ولا يوجد بشر يملك إلغاء النص ..
وللنظر إلى ما نسب لعمر في هذا الشأن.. قالوا: منع سهم الزكاة أن يصرف للمؤلفة قلوبهم، بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم، وفهم صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ، فعمر حرم قوما من الزكاة؛ لأن النص لا يتناولهم، لا لأن النص انتهى أمده..
هب أن اعتمادا ماليا في إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين، فتخلف في المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافآتهم، فهل يعد حرمانهم إلغاء للاعتماد؟ إنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف..
وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تالفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم، بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين في العالم، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟
أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل؟
ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من سائر المسلمين..
إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة، يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم، ويزاد عنه من لا حاجة للإسلام في..
وقالوا: إن عمر عطل حد السرقة عام المجاعة، ونقول: إن الجائع الذي يسرق ليأكل أو ليأكل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء، فما الذي عطله عمر؟
إن قطع السارق المعتدى الظلوم هو حكم الله إلى آخر الدهر، ولا يقدر عمر ولا غير عمر على وقف حكم الله، ولإقامة الحد شروط مقررة، فمن سرق دون نصاب أو سرق من غير حرز لم تقطع يده، ولا يقال: عطل الحد، بل يقال: لم يجب الحد..
والذي حدث أيام عمر أن المدينة وما حولها تعرضت لقحط عام، وفى عصرنا هذا نسمع بمجاعات في آسيا وأفريقيا يهلك فيها الألوف، وليس بمستغرب أن يخرج الناس من بيوتهم يطلبون القوت من أي وجه، وقد يحملهم ذلك على الخطف أو السرقة، فهل تعالج تلك الأحوال بالسيف؟ إن عمر درأ الحد بالشبهة – كما أمرت السنة الشريفة – ولا يعاب إذا توسع في هذا الدرء، وقدر آلام الجياع في تلك المحن المجتاحة...."
تلك هي الحقائق يا أولى الألباب فهل وعيتم؟

محمد عبد الفتاح عليوة
Elewamohamed75@yahoo.com





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !