مواضيع اليوم

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (4)

 

إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (4)

 


حول إشكالية جديدة من إشكاليات العلمانيين في بلادنا وتتمثل في إشكالية إعمال العقل فقد بالغ العلمانيون في تقديس العقل حتى أعملوه في ثوابت الإسلام كما يعمل الطبيب مبضعه في جسد المريض فأخرجوا بذلك لنا فهما سقيما للإسلام وإنكارا للمعلوم من الدين بالضرورة محتجين بأنه لابد من تحرير العقل من الخرافة والخزعبلات ( يقصدون طبعا أحكام الإسلام ) ومدعين بأن هناك تناقض أزلي بين العقل والنقل ولابد من إزاحة أحدهما لحساب الآخر مؤثرين إزاحة النقل لحساب العقل.

 
وشبهة التعارض بين النقل والعقل شبهة قديمة حديثة، ابتدعها المستشرقون قديما، ويرددها العلمانيون حديثا، وإذا أردنا أن نفض هذا الاشتباك بين العقل والنقل- والذي لا يوجد إلا في عقول العلمانيين- لابد أن نقر أولا أن المقصود بالنقل هنا هو نصوص الإسلام لا عداه، ونقول إن الإسلام لم يحجر يوما على العقل بل لا نبالغ إذا قلنا انه لا يوجد دين ولا شريعة ولا مذهب أولى العقل عناية خاصة واهتم به اهتماما عظيما كما فعل الإسلام والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:


أولا: العقل مناط التكليف في الإسلام، ومحور الثواب والعقاب، فلا تكليف في الإسلام إلا لمن كان كامل الإدراك عاقلا مدركا الصواب من الخطأ والحلال من الحرام كما ليس هناك محاسبة ولا مؤاخذة على الأفعال التي تصدر عن الإنسان إما بالثواب أو العقاب إلا إذا كان الإنسان مدركا لما يقول ويفعل فقد رفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه كما رفع القلم عن المجنون والنائم والسكران لأن هذه حالات يغيب فيها العقل عن الإدراك

ثانيا: إن العقل أساس النقل، بل أساس الإيمان، فأعظم قضيتين من قضايا العقائد، قضية وجود الله، و قضية نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- أثبتناهما بالعقل، فقضية وجود الله أثبتت بالعقل عن طريق ربط المعلول بالعلة والسبب بالمسبب وكل حادث لابد له من محدث قال تعالى في سورة الطور" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ " وقضية نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- أثبتت بالعقل فقد جاءنا بقرآن، وتحدى به المعاندين، وقال هاتوا عشر سور مثله أو سورة مثله، فلم يستطع أحد أن يأتي بحرف واحد.

ثالثا: والقرآن يطالب كل ذي دعوى بإقامة البرهان على دعواه، وإلا طرحت ورفضت، ولهذا قال في محاورة المشركين: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (النمل: 64)، "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ" (الأنبياء: 24).
وقال في محاجة أهل الكتاب: "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة: 111).
فالعقائد لا بد أن تؤسس على البراهين اليقينية، لا على الظنون والأوهام. ولهذا عاب الله المشركين بقوله: "وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ" (الجاثية: 32)، "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ" (الجاثية: 24).
ليس في الإسلام إذن ما عرف في بعض الأديان الأخرى من اعتبار الإيمان شيئا خارج منطقة العقل ودائرة التفكير، وإنما يؤخذ بالتسليم المطلق، وإن لم يرتضه العقل، أو يسانده البرهان، حتى شاع عندهم مثل هذا القول: " اعتقد وأنت أعمى " أو " أغمض عينيك ثم اتبعني ".

رابعا: قرر المحققون من علماء الإسلام: أن إيمان المقلد المطلق غير مقبول، لأنه لم يؤسس على برهان، ولم يقم على حجة بينة، بل على تقليد محض، فلا بد أن يؤمن عن دليل ولو كان دليلا إجماليا. فالإسلام لا يقبل التقليد الأعمى، والقرآن حمل حملة شعواء على الذين يعطلون عقولهم لأنهم يتبعون آباءهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (البقرة:170)، والذين يقلدون السادة والكبراء "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً" (الأحزاب: 67، 68)، وكذلك أتباع العوام، ففي الحديث عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "لا تكونوا إِمعة تقولون إِن أَحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا". ( حسن غريب)

خامسا: ويحرم على المسلم أن يتبع الظنون والأوهام، معطلا الأدوات التي وهبه الله إياها لتحصيل المعرفة الصحيحة، وهي: السمع والبصر والفؤاد، قال تعالى: "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً" (الإسراء: 36) قال العلماء في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، وفي الصحيحين: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" (متفق عليه عن أبي هريرة)
إن تعطيل السمع والبصر والفؤاد ينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلا من الأنعام؛ لأنها لم تؤت ما أوتى من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرًا أن يكون من حطب جهنم: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179).
لقد عاب القرآن على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان، فيخاطبهم في شأن آلهتهم، فيقول: "إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ" (النجم: 23)، ويقول في هذا السياق نفسه: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم: 28).
وعاب على أهل الكتاب في قضية قتل المسيح ما عابه على الوثنيين فقال: "مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ" (النساء: 157 - 158).

سادسا: إن للعقل المسلم دورا كبيرا في تنقيح النقل من الشوائب، وفي تصنيف النقل، وفي فهمه، وفي تحديد مقاصده، وتحديد درجة ثبوته، ودرجة دلالته .. فقولنا أن هذا الحديث مثلا: (صحيح الثبوت) و(صريح الدلالة) هو حكم عقلي صدر عن العقل بعد تفكر وتدبر في حيثيات هذا النص أو هذا الحديث، وكذلك وصفنا لهذا النص أو ذاك بأنه (قطعي) الثبوت، أو (ظني) الثبوت، أو قطعي، أو ظني الدلالة، فهي أحكام عقلية يوجبها العقل بالإستناد إلى عدة معطيات وأدلة وعلامات في هذه النصوص .. بل إن(علم أصول الفقه) وهو علم يتعلق بمبادئ وقواعد فهم دلالات النصوص والاستنباط منها، أو ما يطلق عليه البعض بـعلم الدراية، وكذلك (علم مصطلح الحديث) وهو علم يتعلق بتصنيف ودرجات ثبوت الروايات، أو ما يطلق عليه البعض بـعلم الرواية، هما في حقيقتهما علمان إسلاميان جاءا نتيجة لإعمال العقل، ولاجتهاد العقل المفكر المستقرئ المستنبط والمحقق والمدقق في النصوص.
فهل يمكن القول بعد هذه الأدلة أن العقل والنقل لا يجتمعان؟ أو أنهما ضدان متنافران؟ وإذا كان النقل يرفض العقل ويطرده فعلى أي أساس قامت الحضارة الإسلامية العريقة، والنهضة العلمية الكبيرة، التي شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء؟ كما قدمنا قبل ذلك.
فالله هو الذي خلق لنا العقول، وأنزل على الرسل الوحي (النقل)، ولا يمكن أن تتعارض آثار الله تبارك وتعالى، الوحي من الله، والعقل من الله، فلا يمكن أن يكذب الوحي الثابت العقل القاطع، ولكن الظنون هي التي تختلف، وإذا وجدنا أن العقل لا يوافق النقل، لا بد أن يكون ما ظنناه عقلا ليس عقلا صريحا، أو ما ظنناه نقلا ليس نقلا صحيحا، أما صحيح المنقول وصريح المعقول فلا يتعارضان.
وتحرير العقل لا يعنى انفلاته من كل قيد، بل جولانه ضمن الحدود الطبيعية، له حتى لا يجمح به الخيال؛ فيرى الباطل حقيقة، والخطأ صوابا
وهذا ما سنوضحه في مقالة لاحقة بإذن الله
يتبع

محمد عبد الفتاح عليوة
Elewamohamed75@yahoo.com





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !