قلنا أن الحركة الفكرية والنهضة العلمية الإسلامية أثمرت حضارة عريقة أذهلت الأوربيين أنفسهم، فتوافدوا أفرادا وجماعات ينهلون منها، ويعبون من فيضها، ما أنار لهم حياتهم بعد ظلمة، وعلمهم بعد جهل.
ولنقرأ وصف الأوربيين أنفسهم لمظاهر تلك الحضارة:
يقول المؤرخ الأمريكي فكتور روبنسون صاحب قصة الطب:
"كانت أوربا في ظلام حالك بعد غروب الشمس، بينما كانت قرطبة تضيئها المصابيح العامة، كانت أوربا تغطيها الهوام، بينما أهل قرطبة مثال النظافة، كانت أوربا غارقة في الوحل، بينما كانت قرطبة مرصوفة الشوارع، كانت سقوف أوربا مملوءة بثقوب المداخن، بينما قصور قرطبة تزينها الزخرفة العربية العجيبة، وكان أشراف أوربا لا يستطيعون توقيع أسمائهم، بينما كان أطفال قرطبة العربية يذهبون إلى المدارس، وكان رهبان أوربا يلجئون إلى تلاوة سفر الكنيسة، بينما كان معلمو قرطبة قد أسسوا مكتبة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية العظيمة".
ويقول السير انتوني ناتنج Sir Antony Nating في كتابه "العرب: تاريخ وحضارة" وهو يتحدث عن حضارة الأندلس من خلال الحديث عن الواقع في قرطبة العاصمة الأموية آنذاك:
"..وكان تعداد سكان قرطبة يناهز 800 ألف نسمة، وارتفع عدد المساجد إلى 700، وكان في المدينة 300 من الحمامات العمومية في وقت كانت فيه الشعوب الأوربية لا تزال تعتبر الاستحمام عادة وثنية، وكانت الشوارع ممهدة ومضاءة وطولها 10 أميال
وهو تقدم كان مقدرا ألا تنعم به لندن وباريس قبل 700 عام تالية، كان المواطنون أثناءها يتحسسون طريقهم ليلا في الظلام الحالك يتخبطون في وحول تغوص فيها الأقدام حتى الكعبين، وكانت المدينة تضم 70 مكتبة عامة، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن، الذي كان شغوفا بالكتب جمعت مجموعة من 400 ألف كتاب من المكتبات العامة والخاصة في الإسكندرية ودمشق وبغداد، في حين لم يكن يوجد في أي مكان في العالم أكثر من عشرة آلاف كتاب باللغة الإنجليزية، وكان حكام ليون ونافار وبرشلونة يرسلون إلى قرطبة إذا احتاجوا إلى طبيب أو مهندس معماري، لا إلى فرنسا ولا إلى ألمانيا، وكانت قرطبة تجتذب الطلاب من أوربا وإفريقيا وآسيا.
وكانت معرفة القراءة والكتابة عامة، حتى أكد المؤرخ "راينهارت دوزي" أن كل فرد تقريبا كان يقرأ ويكتب، في حين أن معرفة القراءة والكتابة في أوربا كانت لا تزال ميزة لرجال الدين وقلة من الكتبة المحترفين . "
قصة لها دلالتها:
في القرن التاسع الميلادي (حوالي سنة 807 م) أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد، هدية عجيبة إلى شارلمان ملك الفرنجة "وكانت الهدية عبارة عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة تتحرك بواسطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد معين من الكرات المعدنية بعضها في أثر بعض بعدد الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيسمع لها رنين موسيقى يسمع دويه في أنحاء القصر ...
وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة، ويخرج منها فارس يدور حول الساعة ئم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة، ويدورون دورة كاملة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، كان هذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تعد وقتئذ أعجوبة الفن، وأثارت دهشة الملك وحاشيته... ولكن رهبان القصر اعتقدوا أن في داخل الساعة شيطانا يحركها.. فتربصوا بها ليلا، وأحضروا البلط، وانهالوا عليها تحطيما إلا أنهم لم يجدوا بداخلها شيئا"
ولقد استلبت مظاهر الحضارة الإسلامية تلك عقول وقلوب الأوربيين، فكان الذهاب إلى بلاد المسلمين والنهل من معارفهم حلما يراود الأوربيين، الحكام منهم والمحكومين على السواء.
فهذا جون دوانبورت يروى في كتابه "العرب عنصر السيادة في القرون الوسطي" هذين الرسالتين من جورج الثاني ملك انجلترا إلى الخليفة الأندلسي هشام الثالث، والجواب عليها.
رسالة الملك الإنجليزي جورج الثاني :
من جورج الثاني ملك إنكلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام:
بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أربعة أركانها. وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة "دوبانت" على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدب من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص.
من خادمكم المطيع
جورج. م . أ
جواب الخليفة الأندلسي هشام الثالث :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين وبعد:
إلى ملك إنكلترا وايكوسيا واسكندنافيا الأجلّ
اطلعت على التماسكم، فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي، أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابل أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على التفاتتنا ومحبتنا، والسلام.
خليفة رسول الله في ديار الأندلس
هشام
لقد حزن الأوربيون حزنا شديدا على توقف المد الحضاري الإسلامي بسبب هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء عام 732م اتضح ذلك الحزن في رواياتهم الأدبية وكتاباتهم التاريخية العلمية
قال أناتول فرانس في روايته "الحياء المزهرة" على لسان البطل دوبوا قائلا لسيدة أندرياس:
"ما هو أشأم يوم عرفته فرنسا يا سيدتي؟؟
قالت: هو اليوم الذي انهزم المسلمون فيه في معركة Poitier (بلاط الشهداء سنة 732)، ضد الفرنسيين !!!"
ومما يؤكد ما ذكره أناتول فرانس، ما قاله كلود فرير أستاذ اللغات الشرقية في "الكليج دو فرانس"
"..حلت بالإنسانية في القرن الثامن الميلادي كارثة لعلها أسوأ ما شهدته القرون الوسطي، تخبط من جرائها العالم الغربي سبعة قرون أو ثمانية في الهمجية قبل ظهور النهضة.
وما تلك الكارثة إلا ذلك النصر الهائل الذي أحرزته الجماعات الجرمانية بقيادة " شارل مارتل" على فرق العرب والبربر؛ ففي مثل ذلك اليوم المشئوم تقهقرت الحضارة ثمانمائة عام.
وحسب المرء أن يذكر ما كان يمكن أن تصل إليه فرنسا لو أن الإسلام النشيط الحكيم الحاذق الرصين المتسامح استطاع أن ينتزع وطننا فرنسا من فظائع لا نجد لها اسما"
لقد اعترف المنصفون من المستشرقين بفضل الحضارة العربية الإسلامية على العالم الغربي وعلى نهضته الحديثة مالم يعترف به علمانيو بلادنا
تقول زيجريد هونكه الألمانية في كتابها "شمس الله تشرق على الغرب ":
" إن أوربا مدينة للعرب وللحضارة العربية، وإن الدين الذي في عنق أوربا وسائر القارات للعرب كبير جدا. وكان يتعين على أوربا أن تعترف بهذا الفضل منذ زمن بعيد، لكن التعصب واختلاف العقيدة أعميا عيوننا وتركا عليها غشاوة، حتى إننا لنقرأ ثمانية وتسعين كتابا ومائة، وفلا نجد فيها إشارة إلى فضل العرب وما أسدوه إلينا من علم ومعرفة، اللهم إلا تلك الإشارة العابرة إلى أن دور العرب لا يتخطى دور ساعي البريد الذي نقل إلينا الثرات الإغريقي"
وقالت في نفس الكتاب: "وفي مراكز العلم الأوربية لم يكن هناك عالم واحد إلا ومد يده إلى الكنوز العربية يغترف منها، وينهل كما ينهل الظامئ من الماء العذب..ولم يكن هناك ثمة كتاب واحد من بين الكتب التي ظهرت في أوربا في ذلك الوقت، إلا وقد ارتوت صفحاته بوفرة من نبع الحضارة العربية"
فهل يعقل هذا العلمانيون في بلادنا؟ أم أنهم مازالوا على غيهم واتهامهم للإسلام بأنه يقف حجر عثرة في سبيل الإبداع والرقى الفكري؟ وهذا يقودنا إلى إشكالية أخرى من اشكالياتهم، وهى اتهامهم للإسلام بالحجر على الفكر، وتجميد العقل، والخلط بين الثابت والمتغير في إعمال العقل.
وهذا ما سنتعرف عليه في مقالة لاحقة بإذن الله
يتبع
محمد عبد الفتاح عليوة
Elewamohamed75@yahoo.com
التعليقات (0)