نقول: هل للعلمانية في العالم الإسلامي مبرر؟ هل لها ما يسوغها من الأسباب سواء أكان في العقيدة أم الشريعة، في التصور أم في التطبيق؟
وإذا استعرضنا بسرعة خاطفة ما سبق أن تحدثنا عنه سلفا، من قصة العلمانية في أوروبا بأسبابها ودوافعها، فسوف نصل دون جهد إلى نتيجة واضحة هي: أن العلمانية رد فعل خاطئ لدين محرف وأوضاع خاطئة كذلك، وإنها نبات نكد خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية.
فـأوروبا نكبت بالكنيسة وديانتها المحرفة وطغيانها الأعمى، وسارت أحقابا من الدهر تتعثر في ركابها، ثم انتفضت عليها وتمردت على سلطتها، فانتقلت إلى انحراف آخر وسارت في خط مضاد، إلا أنه أعظم خطرا وأسوأ مصيرا.
انتقلت من جاهلية تلبس مسوح الدين إلى جاهلية ترتدي مسوح التقدم والتطور، وهربت من طغيان رجال الدين والإقطاعيين، فوقعت في قبضة الرأسماليين وأعضاء الحزب الشيوعي .
وذلك الانتقال وهذا الهروب دفعت إليه ظروف تاريخية بيئية نابعة من واقع الحياة الأوروبية خاصة؛ مع العلم بأنه لم يكن ضروريا أن يتخذ رد الفعل الأوروبي تلك الصفة بعينها، وأن مجيئه على هذا الشكل ليس حتميا.
أي أنه لم يكن حتما على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينيا، بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.
فإذا وجدنا مجتمعا آخر يختلف في ظروفه عن ذلك المجتمع، ومع ذلك يصر على أن ينتهج اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة، فماذا نحكم عليه؟... وكيف يكون الحكم - أيضا- إذا كان هذا المجتمع الآخر يملك الدين الصحيح؟ إن أول ما لاحظناه في دين أوروبا هو التحريف في العقيدة والشريعة: عقيدة التثليث المستغلقة المضطربة والأناجيل المحرفة المتضاربة، ثم النظرة القاصرة التي فصلت الدين عن الدولة والحياة وحصرته في الأديرة والكنائس، فهل ذلك أو شيء منه في الإسلام؟
فالإسلام ليس فيه شيء من هذا ليس فيه تثليث، بل توحيد خالص، وليس فيه كهنوت لا بالشكل الذي رأيناه سلفا في أوروبا النصرانية ولا بغيره ذلك؛ لأن الإسلام - وهو دين التوحيد الخالص- إنما أنزله الله لتحرير العباد، وإخراجهم من عبودية العباد إلى عبادة الله وحده وطاعته دون سواه في التلقي وفي الإتباع، في المنهج والسلوك، وعلى ذلك جاء الأمر صريحا قاطعا فيما يتعلق بصرف أي نوع من أنواع العبادة الكثيرة لغير الله، كائنا من كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو طاغوتا متألها، فالأمر كله سواء، كله كفر:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:79-80).
وهذا هو الفارق الجوهري في المسألة بين الإسلام والنصرانية المحرفة، فوجود هيئة كهنوتية تشرع لخلق الله أمرا أو نهيا في العقيدة أو الفروع هو شرك أكبر بالله تعالى، سواء أجاء ذلك في صورة مراسيم بابوية، أم قرارات مجمعية، أم منشورات كنسية.
وأما ما يخص الحكم الإسلامي فإننا لابد أن نفرق بين شيئين هما : اختيار الحاكم، ومرجعية الدولة.
وبالنظر لطبيعة اختيار الحاكم في الإسلام ومرجعية الدولة نجد أن الدولة الإسلامية دولة مدنية من الطراز الأول، وليس من طبيعتها ما يسمى بالدولة الثيوقراطية أو الدينية.
فالحاكم في الإسلام يختار على أساس البيعة والشورى ومسئولية الحاكم أمام الأمة, وحقّ كل فرد في الرعية أن ينصح الحاكم ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.. فإن الحاكم في الإسلام مقيَّد غير مطلق, فهناك شريعة تقيده، وضعها له ولغيره رب العباد, ولا يستطيع ولا يملك أن يغيِر من أحكام الله الثابتة شيئا.
ومن حق أي مسلم أو مسلمة إذا أمره الحاكم بما يخالف شريعة الله مخالفة بينة أن يرفض، بل من واجبه أن يرفض, فقد قال أول خليفة في الإسلام أبو بكر الصديق في أول خطاب له: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم, إن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني".
والحاكم أو رئيس الدولة في الإسلام ليس وكيل الله بل هو وكيل الأمة, هي التي تختاره وهي التي تراقبه, وهي التي تحاسبه, وهي التي تعزله إذا استوجب العزل, وقد قال الرئيس الثاني للدولة الإسلامية "من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني".
فاختيار الحاكم يكون برضا الأمة عنه، وعقد ضمني بين الحاكم والمحكوم بشروط محددة واضحة مكتوبة معروفة سلفا بينهما، يدرك كل منهما حقوقه وواجباته، ويطلق عليه عقد البيعة، وهو عقد حقيقي يتخذ شكلا معينا.. المصافحة باليد مع التلفظ بعبارات من الانقياد والتأييد، وقد اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم- من بين المتعاقدين مجموعةً تمثل باقي الذين غابوا عن الاجتماع وتضمن انقيادهم وهؤلاء هم النقباء..
والديمقراطية الغربية قد توصلت إلى أن السيادة للأمة في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله، وذلك كان بعد عشرة قرون على التشريعات الإسلامية والتي طبقها النبي- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده، ولذلك فالدولة الإسلامية بالتعبير المعاصر دولة مدنية، وليست حكما ثيوقرطيا, فالاحتكام فيها ليس لأمر غيبي يدعمه الحاكم أو عالم من علماء الدين، فالاحتكام يكون للقرآن والسنة (أي القانون المكتوب)، ومهام رئيس الدولة أكثرها مهام مدنية، كما فصل ذلك الإمام الماوردي في (الأحكام السلطانية) نحو عشر مهام دنيوية..
وقد سبقت نظرية العقد الإسلامية( البيعة) نظرية العقد الاجتماعي التي قال بها جون لوك وجان جاك روسو بعشرات السنين.
وإذا كانت الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون أو الدستور فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع, ولا تخرج عنه, وهو القانون الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه, وهو قانون لم تضعه هي بل فرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها وأصبحت دولة غير مسلمة
فالدولة الإسلامية دولة (دستورية) أو (شرعية) لها دستور تحتكم إليه, وقانون ترجع إليه, ودستورها يتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم, وبينتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات.. شخصية ومدنية, وجنائية وإدارية، ودستورية ودولية.
وهي ليست مختارة في الالتزام بهذا الدستور أو القانون, فهذا مقتضى إسلامها ودليل إيمانها ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ( المائدة: من الآية 49).
وإذا اختارت الدولة الإسلامية الشريعة كمرجعية قانونية ودستورية، فذاك لأنها دولة تحكم مسلمين، فكما أن الدول الأوروبية قد ارتضت لها قانونا وضعيا كرد فعل لوحشية الكنيسة وطغيانها وعدم اشتمال النصرانية المحرفة – كما أسلفنا- على قواعد للتشريع، هذا بخلاف الإسلام الذي هو شريعة واضحة مكتوبة نصا "القرآن والسنة"
فمن حق المسلمين أن يرتضوا شريعة ربهم - المحفوظة من التحريف- دستورا وقانونا لهم..
فنظام الحكم الإسلامي من حيث اختيار الحاكم نظاما مدنيا، ومن حيث المرجعية الدستورية والقانونية أيضا مدنيا باقتدار؛ لأنه قائم على قواعد واضحة مكتوبة غير متروك لأهواء الحكام ..
والقول: أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، قاله من قبل الإمام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في كتابه الأصيل المعروف: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). قال الأستاذ الإمام:
(إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الإفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة - بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَل أصول الإسلام؟!) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ1 صـ107)
وقد رد الشيخ محمد الغزالي رحمه الله على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الديني)،فقال:
(يقع في الوهم أن الحكم الديني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة، فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.
ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة.
وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!
وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.
فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدين).
وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلِقة بالكتاب والسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعرفة المادية وغير المادية.
والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مرشحا للحكم في أزهى عصور الإسلام.
وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بن الجراح؟
الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم - أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدم دينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينه لا غبار عليه.
وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما.
والصورة الصادقة للحكومة - كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنون أشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم.
صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفَهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب.
صورة أفراد لهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب في الحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم وملَكاتهم في مناحي الدنيا وميادين العمل.
إن الحكم الديني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء)
(من هنا نعلم صـ27 - 29.)
التعليقات (0)