لم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، فقد أفقدت الكثيرين ثقتهم في الكنيسة، وأدت إلى التشكيك في سلامة معلوماتها، كما أنها أعطت الأولوية للتجربة والبحث العقلي في الوصول إلى الحقائق، وهزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوروبية.
وفي القرن السابع عشر تبلور النزاع، واتخذ شكلا جديدا؛ فقد أصبح نزاعا بين النص الذي تعتمد عليه أدلة الكنيسة، وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة.
وثار العلماء ودعاة التجديد مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيدا عن الوحي، إلا أنهم لم يجرؤا أول الأمر على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلا عن الآخر.
وكان مذهب "ديكارت " أبرز المذاهب الفلسفية في هذا العصر، وقد دعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة واستثنى من ذلك - لسبب ما - الدين والعقائد الكنسية والنصوص المقدسة، وكان يرى: "أن ميدان العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال القوى الطبيعية، وأدواته الرياضة والتجربة، ويختص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم، فلا مضايقة بين العلم والدين ولا سلطان لأحدهما على الآخر"
إلا أنه وجد فلاسفة آخرون معاصرون له لم ترق لهم هذه الفلسفة، بل أغرتهم تفاهة آراء الكنيسة وحقدهم عليها أن يهاجموا التعاليم الدينية هجوما مباشرا.
وجاء "جون لوك " فخطا خطوة أبعد من ديكارت بأن طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، قائلا: "من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالا فقد أطفأ نور كليهما، وكان مثله كمثل من يقنع إنسانا بأن يفقأ عينيه ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق".
واضطرب حبل الكنيسة بظهور الروح الجديدة اضطرابا واضحا، وألقت بكل ثقلها في معركة كانت في غنى عن دخولها أمام الناس - لا سيما المثقفون منهم - حيث قامت بمقاومة كل محاولة للتجديد، وإن كانت نافعة خيرة، فقد كفرت رئيس بلدية في ألمانيا، لأنه اخترع غاز الاستصباح بحجة أن الله خلق الليل ليلا والنهار نهارا، وهو بمخترعه يريد تغيير مشيئة الخالق فيجعل الليل نهارا".
فقد كان ذلك فرصة للعلماء والمفكرين في القرن السابع عشر للهجوم الشرس على الكنيسة، ولم يكن ذلك كفرا بالمسيحية لأن إيمانهم بها متغلغلا في نفوسهم، بل كان كفرهم برجال الدين - أولئك الطغاة المتغطرسين، فما قاموا به من هجوم على الدين، ليس في حقيقته سوى اندفاع أعمى، ورد فعل غير موجه هدفه الانفكاك من ربقة الكنيسة والتحرر من عبوديتها، فلم يكن همهم إلى أين نتجه؟ بقدر ما كان كيف نهرب؟.
ثم جاء القرن الثامن عشر الذي تميز بظهور روح الشك العام في كل شيء تقريبا، ومع ذلك فقد ظهرت فلسفات إيجابية متنوعة يدور محورها حول كلمتين، هما في الواقع صنمان استحدثهما الهاربون من نيران الكنيسة، ليحلا محل إلهها المخيف، وهما: "العقل والطبيعة".
أما العقل فلم يعد مقيدا بأغلال الثنائية الديكارتية، بل بدأ يبحث عن ذاته ويسلك طريقه لكي يتصرف كما لو كان "إلها" بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة ، منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء، وما عداه فوهم وخرافة، الوحي يخالف العقل فهو أسطورة كاذبة، والمعجزات لا تتفق ومألوف العقل فهي خرافات بالية، والفداء والصلب والرهبانية... إلخ، كلها أباطيل مضللة وعقائد مرذولة لأنها لا تتسق مع العقل.
والصنم الثاني كان "الطبيعة "، يقول "سول ": "صار لزاما على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة". وكتب الفكر الغربي تسمي ذلك العصر عصر "تأليه الطبيعة " أو عبادة الطبيعة.
ثم حدثت تحولات خطيرة في المجتمع الاوروبى بصفة عامة والمجتمع الفرنسي بصفة خاصة خطت بالمجتمع الأوروبي نحو العلمانية خطوات واسعة، تمثلت هذه التحولات في الآتي:
أولا: استطاع الملوك المركزيون أن يتغلبوا على البارونات باقطاعاتهم الكبيرة بفضل البارود الذي حصلوا عليه من الشرق؛ مما أدى إلى مزيد من الاستغلال للأرقاء من قبل أسيادهم، كي يعوض الأسياد عن الضرائب التي فرضتها الحكومة المركزية على إقطاعياتهم.
ثانيا: ظهور الحركات التي تزعمها (لوثر ، كالفن ، هس ) وأمثالهم، وقد استطاعت هذه الحركات أن تحطم الوحدة الشكلية للعالم الغربي المسيحي، وتضعف السلطة الكنسية المركزية؛ بكثرة ما أحدثته من مذاهب وفرق لا حصر لها.
ثالثا:ظهور الطبقة الوسطي "البرجوازية" التي تتمثل في طبقة تجار المدن البرجوازيين، الذين كانوا بمثابة الطلائع للرأسماليين الكبار، وأصبحوا منافسا قويا للإقطاعيين.
رابعا: اليقظة الفكرية التي ظهرت أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر على يد ديكارت وجون لوك وغيرهما، بالإضافة إلى ظهور الورق والمطابع اللذان ساعدا على نشرها وتوزيع ميدانها.
خامسا: احتكاك الشعوب الأوروبية بالمجتمع الإسلامي عن طريق الفتوحات الإسلامية أولا، والحروب الصليبية ثانيا، والأندلس وجزيرة صقلية ثالثا؛ ما أعطى لهم الفرصة للإطلاع على النهضة الفكرية والسياسية في الشرق الإسلامي.
كل هذه التحولات آذنت بهبوب رياح التغيير على القارة، وأنذرت بافتتاح عصر جديد مغاير للماضي في قيمه وتصوراته وأوضاعه، وكانت أحوال فرنسا الثقافية والاجتماعية تؤهلها لافتتاح ذلك العصر.
ففي الوقت الذي نفذ فيه صبر الشعب وأنهكته المجاعة والبؤس، كان هناك طبقتان تنغمسان في مختلف الملاذ هما: طبقة رجال الدين، وطبقة الأشراف، بالإضافة إلى الأسرة المالكة التي كانت عبئا ثقيلا على الجميع.
فكانت الثورة الفرنسية التى قادتها الطبقة البرجوازية، موحدة عامة الشعب بكل طوائفه ضد رجال الدين والإقطاعيين على حد سواء.
وقضت سنة الله أن ينتصر الشعب على جلاديه، وأن تحصد "المقصلة" معظم الرءوس المترفة الطاغية.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها، فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علنا وبشدة، وأصبح رجل الدين موظفا مدنيا لدى الحكومة
وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب "وليس باسم الله "، وعلى حرية التدين بدلا من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلا من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.
ولقد غزى هذه الثورة وأجج نيرانها عدة عوامل أهمها:
أولا: الفكر اللاديني الذي طبع عصر التنوير:والذي تمثل في المدارس الفكرية المتعددة في ذلك الوقت مثل المدرسة العلمية بزعامة "ديدرو " وكانوا يناصبون الدين عداوة عمياء
والمدرسة الاجتماعية السياسية والذي ترأسها "جان جاك روسو" صاحب كتاب " العقد الاجتماعي"
والمدرسة الفلسفية الهدامة والتي كانت تنادى بوجوب فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدين نفسه عندهم يجب أن يلغى ليحل محله "الدين الطبيعي، أو القانون الطبيعي" وربما كان الفيلسوف اليهودي "سبينوزا " رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة، فهو يقول في كتابه"رسالة في اللاهوت والسياسة ":
"ومن الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشئون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت، أو التدخل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين الناس"
ثانيا: وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير :
حيث كانت الكنيسة هي نفسها التى تمثل الإقطاع والاستعباد وذهن الفلاح الساذج قد لا يستطيع أن يستوعب شيئا من أفكار روسو وانتقادات فولتير، لكنه يستطيع بسهولة أن يرى مخازي الكرادلة والقساوسة وفضائحهم وثراءهم الباذخ، لقد رأى بأم عينيه ما عبر عنه توماس جفرسن بقوله:
"إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائما حليف الحاكم المستبد يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر". وكان ذلك مدعاة لأن تصب الجماهير جام غضبها على الكنيسة، وتصرخ خلف "ميرابو ": (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).
ثالثاً: القوى الشيطانية الخفية:
وتمثلت في اليهود الذين كانوا يعيشون حياة العزلة والاضطهاد من قبل المسيحيين، فضلا عن العداوة التقليدية بينهما فوجدوا في الثورة فرصة ذهبية لا ينبغي أن تفوت، وهي فرصة ساقتها المقادير إليهم، وما صنعوها كما يزعمون إلا أنهم أجادوا استغلالها.
وحين يقول فيشر "إن أرباب الأموال مولوا الغوغاء الذين قاموا بالثورة نستطيع أن نعرف أن أرباب الأموال هؤلاء ليسوا سوى المرابين اليهود؛ لأن من عداهم كانوا هدفا للثورة".
واستطاع اليهود أن يتغلغلوا في منظمات الثورة المختلفة، كـالجمعية التأسيسية ، ونادي اليعاقبة وبلدية باريس، وأن ينفثوا تلك الشعارات التي رددتها الجماهير ببلاهة - لا سيما- شعار الثورة البارز "الحرية والإخاء والمساواة " هذا الشعار الذي قامت عليه الثورة وحققته، كان له عند اليهود تفسير آخر:
فهم يقصدون بالحرية تحطيم القيود الأخلاقية والتقاليد الموروثة، التي تحول بينهم وبين إفساد الأمم وتدميرها، ويقصدون بالإخاء والمساواة كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول بينهم وبين الانسلال إلى أجهزة الدولة وتنظيماتها، وإذابة الفوارق الدينية بينهم وبين غيرهم كي تزول عنهم وصمة الاحتقار والمهانة.
وهكذا نجحوا في تحويل الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه، وجعلوا لفظة الدين عند الشعوب الأوروبية مرادفة للظلم والرجعية والتخلف والاستبداد.
تلك هي الظروف والملابسات التاريخية التى أنبتت العلمانية في مجتمع مؤهل- في ذلك الوقت- لهذه الفكرة بما ساده من سيطرة رجال الدين وادعاء القداسة لهم، واستغلالهم للدين من أجل الثراء على حساب الشعوب البائسة، وانتشار الخرافات والخزعبلات التى تتعارض مع المنطق والعقل، ووقوف الكنيسة بكل قوة ضد حركة التطور والنهضة العلمية ومطالب الجماهير، فضلا عن القوى الشيطانية التى استغلت الأحداث لسلخ الشعوب الأوروبية عن دينها
هذه هي التجربة الغربية في فصل الدين عن الدولة، وتلك أهم ملابساتها التاريخية، فهل يمكن استنساخ هذه التجربة فى مجتمعات لاتمت لتلك الظروف والملابسات بصلة؟ وماهى حقيقة الإسلام وطبيعة الحكم الاسلامى؟ وهل للعلمانية فى العالم الاسلامى مبرر؟
هذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة
يتبع
التعليقات (0)