بعد نشر المقال الذي كتبته بعنوان "أيها العلمانيون افرحوا: سيد القمنى يصوم رمضان ويصلى التروايح"، كانت لي فرصة الحوار مع الكاتبة العلمانية رشا ممتاز عن طريق البريد الالكتروني، والحقيقة أنها سيدة تتميز بعقل رصين، وتفكير منطقي، وإيمان عميق بقضيتها التي تدافع عنها " العلمانية "، ولم يمنع اختلاف الرؤى والمنطلقات الفكرية بيننا من أن يكون هناك حوار جاد متميز، يتصف بالعقلانية والهدوء، ولقد قادني هذا الحوار إلى قراءة كتابات الأستاذة رشا، خاصة ما نشر منها في موقع الحوار المتمدن، ومن خلالها بدأت تتضح لي معالم الفكر العلماني في بلاد العرب، فكانت فكرة هذا المقال..
فالعلمانيون في بلادنا يقعون في إشكال كبير عندما يكتبون عن الإسلام، فيصدرون في كتاباتهم عن الرؤية والثقافة الغربية التي غذوا وتشبعوا بها منذ نعومة أظفارهم.
ولا شك أن تلك الرؤية الغربية للإسلام تحرص على تشويهه، وتشويه تاريخه، من خلال إحياء الآراء الشاذة والتنقيب عن الروايات الموضوعة من قبل أعداء الإسلام عبر عصور التاريخ الإسلامي .
ومن خلال حركة الاستشراق، التي هدفت إلى تطويق المد الإسلامي، والعمل على انحساره، ووقف نموه، بعد أن أعيتهم الحروب الصليبية عن الوصول إلى أهدافهم، عن طريق دراسة معالم الفكر الاسلامى وحضارته، وثقافة الشرق وعلومه، وإن كانت أعمالهم تبدو في معظم أحوالها في ثوب علمي أكاديمي، فإن ذلك ينبغي ألا يحجب عن أعيننا نواياهم الخفية، التي صرح بها معظمهم في المؤلفات والمؤتمرات العلمية التي كانت تعقد بين الحين والحين لهذا الغرض .
فالهدف الديني كان واضحا في ظاهرة الاستشراق، ولقد سلك المستشرقون وسائل شتى لتحقيق هذا الهدف، كان أخطرها بلا شك التركيز على إثارة القضايا الخلافية في الفكر الإسلامي، والعمل على إحياء الآراء الشاذة للفرق المغالية؛ ليشغل المسلمون أنفسهم بها عن التفكير في عظائم الأمور؛ فعمدوا إلى إثارة الخلافات المذهبية، وإحياء الخصومات التاريخية بين المعتزلة والأشاعرة، أو بين المعتزلة والسلف.
وهذا الهدف قد أعلنه المستشرقون أنفسهم قديما وحديثا، ولم يجدوا غضاضة في التصريح به، فها هو المستشرق الفرنسي "هانوتو" يكتب مقالا بعنوان "لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسالة الإسلامية " إبان احتلال فرنسا للجزائر، وقد نشر مترجما إلى العربية في جريدة المؤيد، ومما جاء فيه "إنه لا يوجد مكان على ظهر الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرا في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إليه والتدين به كل ميل إلى اعتناق سواه .. إن هذا الدين قائم الدعائم، ثابت الأركان في أوروبا عينها ..لقد صارت فرنسا في كل مكان في صلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده..ليس الإسلام في داخلنا فقط، بل هو خارج عنا أيضا، قريب منا في مراكش..قريب منا في طرابلس الغرب..قريب منا في مصر..وهو شائع ومنتشر في آسيا..ولا يزال الهلال الاسلامى ينتهي طرفاه من جهة بمدينة القسطنطينية، ومن جهة أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى، معانقا بذلك الغرب كله..
ثم يعلن هانوتو في صراحة أنه لابد من العمل على تفكيك تلك الرابطة التي تجمع بين المسلمين شرقا وغربا على سطح المعمورة فتجعل منهم أمة واحدة، وهى رابطة الدين، لابد من العمل على إضعاف هذه الروح السائدة التي تحرك المسلمين من سباتهم..إنهم متى اقتربوا من الكعبة، من البيت الحرام..من ماء زمزم المقدس، من الحجر الأسود..وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على ترك بلادهم في أقصى مدن العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام، اشتعلت جذوة الحمية الدينية في قلوبهم..إن رابطة الإخاء الجامعة بين أفراد المسلمين كفيلة بأن تجعل المسلم في شرق الأرض يهب لنصرة المسلم في غربها، فهي عامل مؤرق لفرنسا في المستعمرات التي تخضع لها".
ومن هنا فإن العمل على إضعاف هذه الرابطة بين المسلمين، كانت ولا زالت تمثل غاية وهدفا لنشاط المستشرقين..
ثم إن أول من اشتغل بعلوم الشرق بحثا ودراسة كان راهبا وقسيسا ثم بابا لروما فيما بعد، وهو الراهب الفرنسي " جرير دي أولياك 938- 1003م"، ثم جاء من بعده "قسطنطين الأفريقي 1107م" و "بطرس المحترم 1092-1156" و"أرجو دي سانتلا 1107م" ثم "جيراد كريمون 1114- 1187م" ثم تتابعوا، وتكاثرت أعدادهم، واختلفت جنسياتهم، بحيث شملت معظم دول أوربا وأمريكا في العصر الحديث، ومعظمهم من رجال الكهنوت المسيحي واليهودي، ولا يمكن أن نتصور هؤلاء مجردين من عواطفهم الدينية.
هذه الحركة الاستشراقية في ظاهرها، التبشيرية في باطنها، خلفت وراءها كما هائلا من الدراسات المختلفة عن الإسلام والفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي، برزت فيها القضايا الخلافية بشكل واضح، وظهرت فيها الحروب الدموية والخلافات المذهبية والثورات الشعوبية ضد الدولة الإسلامية بشكل أكبر من المنجزات الحضارية التي قدمها المسلمون للعالم أجمع، وكانت الأساس الذي ارتكزت عليها النهضة الأوربية الحديثة، بشهادة المنصفين من المستشرقين أنفسهم، كما سنرى بعد ذلك..
فالعلمانيون في بلادنا أول ما يقعون فيه من خطأ، هو أنهم يصدرون في نظرتهم للإسلام وأحكام الإسلام وتاريخ الإسلام والفكر الإسلامي بشكل عام عن تلك الدراسات الاستشراقية التي سبقت الإشارة إليها، والتي غذوا بها في دراساتهم الجامعية، أو من خلال قراءاتهم لرواد الفكر العلماني الأوروبي القائم على تلك الدراسات، ومن هنا تأتى أغاليطهم وأوهامهم، التي تنضح بها كتاباتهم ومؤلفاتهم عن الإسلام والفكر الإسلامي.
والعجيب أنهم يقعون في تناقض واضح، عندما يدعون إلى تحرر العقل والفكر من الظلامية الإسلامية – كما يدعون-، ويأبون أخذ الإسلام من التراث الإسلامي المعتمد المنقح بواسطة علماء مسلمين، أهلتهم دراساتهم العربية والإسلامية والتاريخية للقيام بهذه المهمة، ويقولون نريد أن نفهم الإسلام بعيدا عن تفسير العلماء، فلنا عقول كما لهم عقول، ثم هم يقعون بعد ذلك في براثن الاستشراق، ينهلون منه كل قبيح عن الإسلام والمسلمين، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فلا تعجب إذا أن تجد أن نفس القضايا التي أثارها المستشرقون قديما وحديثا حول الفكر الإسلامي، هي نفس القضايا التي يثيرها العلمانيون في كتاباتهم ومؤلفاتهم، كأنها خرجت من مشكاة واحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة...
فمثلا أثار المستشرقون فتنة كبيرة حول ما أسموه قضايا المرأة في الإسلام، مثل قضية الطلاق، وتعدد الزوجات، والعصمة، وتعدد زوجات النبي ....
وكذلك الحديث عن التقدمية، والنهضوية، والتنوير، وقضايا مثل وجوب التخلص من الغيبيات والعقائد الدينية، والاعتماد كليا على العقل، وقضية فصل الإسلام عن نظم الحكم، والترويج لقضية أن الإسلام دين لا دولة، عقيدة لا شريعة، وحى لا دستور، وليس في الإسلام نظام لسياسة الدولة، وقضية مثل التشكيك في نصوص القرآن الكريم، وإخضاع تلك النصوص للنقد طبقا لمنهج ديكارت في الشك، كما عملوا كذلك عدة محاولات لإحلال العاميات محل اللغة العربية الفصحى، في مصر وغيرها؛ بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، ومحاولات أخرى لحث المسلمين على التخلي عن دينهم، بدعوى أن التمسك بالإسلام هو سبب تخلفهم، حيث يقولون: أن سبب تأخر الشرق الإسلامي ماديا وعلميا يرجع إلى تمسكهم بالدين الإسلامي وتعاليمه، ولا مناص للشعوب الإسلامية إذا أرادوا أن يتغلبوا على هذا التخلف الحضاري إلا أن يتخلصوا من تعاليم دينهم أولا، وأن ينحوا الإسلام بعيدا عن شئون حياتهم اليومية، ليكون قضية شخصية، يمارس الإنسان طقوسه وشعائره إذا أراد ذلك في بيته، أو في المسجد، وكفى .
وهل تعدى ما ينادى به العلمانيون في بلادنا اليوم هذه القضايا، بداية من سلامة موسى، وقاسم أمين، وطه حسين، وعلى عبد الرازق، حتى يومنا هذا؟
وتلك هي الإشكالية الجوهرية عند العلمانيين في بلاد العرب، أخذهم عن الاستشراق، وصدورهم في أحكامهم، بل حتى في مصطلحاتهم التي يستخدمونها للتعبير عن تلك الأحكام عن الثقافة الغربية، فكل ما تلوكه ألسنتهم، أو يجرى به مداد أقلامهم، إنما يصدر عن تلك الثقافة، كوصفهم للدولة الإسلامية بالدولة الثيوقراطية، ووصفهم لعلماء الإسلام برجال الدين أو الكهنوت الإسلامي، فيقع بذلك الخلط الواضح، واللبس المشين.
التعليقات (0)