مد يده لي بورقة إعلانية عن آخر مؤلفاته .. كان آخر لقاء بيننا منذ مدة طويلة .. حدثني وقتها عن إرهاصاته ومواهبه ونزوعه نحو الكتابة والتأليف ..
وقتها .. أشفقت في نفسي عليه كثيراً من الصدمة التي سيلاقيها .. ذلك لأن حماسه الشديد لا يقابله أبداً أي رصيد لديه أو مخزون من ثقافة أو لغة أو موهبة أو حتى الحد الأدنى من العلم الذي يتيح له خوض ذلك الغمار .. تنبهت إلى الورقة التي بيدي وحديثه لي عن مضمون مؤلفه الأخير ..
كنت استمع إليه ونظري معلق بالورقة .. أقرأ محتواها .. إنه هو هو كما رأيته آخر مرة .. نفس الضحالة.. نفس الركاكة .. نفس الأخطاء والتراكيب اللغوية الطفولية الساذجة .. لم يتغير فيه شيء ..
إلا أنه أدهشني بأن مؤلفه هذا – الذي تتولى مؤسسة الأهرام توزيعه !.. هو الإصدار السابع في قائمة مؤلفاته .. كما أكد لي أن مؤلفاته السابقة بيعت منها نسب كبيرة ... أغرقت في الدهشة وأنا أتابعه وهو يطعم حديثه بالتنويه عن عبقريته وكتاباته المدونة بمداد الإلهام .. وأفكاره المستوحاة من معين الإبداع...
العجيب أن أي إنسان عادي متوسط أو حتى بسيط المعرفة والثقافة يقرأ له .. فلن يحتاج إلى أي مجهود لينتهي بكل سهولة إلى يقين برادءة الفكرة لدية .. وركاكة الأسلوب .. وضحالته ..
يا إلهي : ما طبيعة الإشارات التي يرسلها له عقله ؟!
بدون وعي مني .. تذكرت يوم ذهبت رفقة صديق لزيارة مريض له بمستشفى الأمراض العقلية .. خشيت الدخول معه إلى عنبر المرضى ... ووقفت في طرقة بين قسمين من المرضي الرجال والنساء .. كانوا يقفون كفريقين متقابلين .. كل منهم في شرفة مسيجة بالحديد ..
نادت عليّ فتاة من وراء القضبان .. طلبت مني الإقتراب .. ارتعش جسدي .. وخفت منها .. (رغم أنها مقيدة الحرية) وأنا حر طليق !!.. قالت لي .. اقترب .. لماذا تخاف مني ؟.. هل تعتقد أنني مجنونة ؟! .. لا طبعاً .. أنا هنا لأن زوجي وأهله دبروا لي مؤامرة ليحرموني من طفلي الرضيع .. وجاءوا بي إلى هنا .. ثم بدأت تغني لكاظم الساهر ( إني خيرتك فاختاري .. ما بين الموت على صدري .. أو بين دفاتر أشعاري) ..
كان كاظم وقتها صاروخاً صاعداً في سماء الغناء في مصر .. أحدث دوياً كبيراً في أولى حفلاته بالقاهرة .. وبقصائده التي اجتاحت الوجدان الشعبي .. غنتها الفتاه كأجمل ما يكون .. دون أن تخطئ في حرف واحد .. وبصوت عذب رخيم ..
يا إلهي .. ما طبيعة الإشارات التي يرسلها إليها عقلها ؟!!
قطعت يد صديقي لحظات انتباهي واستماعي للفتاة المريضة ل..كما قطعت كلمات محدثي لحظات (سرحاني) .. وعدت إليه ولكن جيوش الأسئلة قد هاجمتني بضراوة ...
إن محدثي (المؤلف) يعتقد يقينا وجازماً أنه ملهم .. و ذكي .. ومؤلف عبقري .. بينما المقابل له (أنا) أراه ضحلاً.. وركيكاً .. وعادياً ويحتاج للدخول إلى المدرسة من جديد...
وفتاة مستشفى الأمراض العقلية تتصور يقيناً أنها عاقلة تماماً بينما هي "رسمياً " مريضة عقلياً أو نفسياً ونزيلة بمستشفى أمراض عقلية ..
كذلك كثيرون ( منا) يرون في كثيرين (منا) أن بهم آفة بالعقل .. وبالفهم .. وبالنفس .. وليس الأمر مرده اختلاف الرأي بل نقصان بالعقل ..
فمحدثي (المؤلف ) يعتقد أنه ملهم ومبدع وعبقري ..
بينما هو في نظري سطحي وساذج وركيك وخائب أيضاً ...
فتاة مستشفى الأمراض العقلية تعتقد يقيناً أنها عاقلة تماماً ..
بينما هي في نظري مريضة عقلياً أو نفسياً ...
فما هي نظرة محدثي المؤلف لي وفكرته عني وتقييمه لي ؟!
أوليس من الممكن أن ينظر لي بذات العين التي أراه بها ؟! وأن يكون مفهومه عني بذات مفهومي عنه ؟!.. ..أوليس من الطبيعي أن يعتقد عني بذات ما اعتقده عنه ؟! ..
وما هي نظرة فتاة مستشفى الأمراض العقلية ورأيها وتقييمها لي؟!
أليس من المحتمل بل من المنطقي أن تعتقد أنها مكتملة العقل وصحيحة النفس بينما غيرها الذين من بينهم أنا بنا آفة في عقولنا وأننا المجانين ؟!....
وهنا يأتي السؤال :
من الذي يمكن أن تطمئن إليه أنه ( الوحيد) ( العاقل) الذي يستطيع أن يلتقط إشارات العقول .. الكاذبة ؟ !!!
التعليقات (0)