إزدواج الجنسية وأثره على الأمن القومي
مصعب المشـرّف
18يونيو 2017م
من بين الظواهر السلبية المتعددة التي صاحبت وأعقبت إعتلاء الأصولية الإسلامية كراسي الحكم في السودان ؛ برزت ظاهرة إزدواج جنسية الغالبية العظمى ممن يشغلون مناصب دستورية وأخرى أمنية وإقتصادية حساسة في البلاد . وكذلك زعامات وقيادات الأحزاب والطوائف التقليدية.
وقد تفشت هذه الظاهرة بعد أن ظل السماح بذلك يراوح خانة المسكوت عنه ... ولكونها أضحت مذهب الطبقة الحاكمة والنخبة الإقتصادية ..... ثم ولكثرة المواليد الجدد لسودانيين عاشوا في دول الغرب الأوروبي سنوات ؛ وحيث تمنح تلك الدول المواليد داخل أرضها جنسياتها.
من جانب المعارضة السياسية يأتي التبرير عادة بأن نظام مايو السابق (جعفر نميري) الذي طال به الأمد . وكان شرساً في التصدي لمعارضيه وخصومه ..... يأتي التبرير بأنه هو الذي دفع بمعظم هؤلاء المعارضين للحصول لأنفسهم وزوجاتهم وأولادهم على جنسيات وجوازات سفر أجنبية وبما يكفل لهم سبل كسب العيش ، والأمن والأمان من مطاردات نظام نميري وتشريده لهم . ورفض سفارات البلاد في الخارج تجديد صلاحيات جوازات السفر أو إصدار جديدة.
ربما كانت للأعذار والتبريرات المذكورة أعلاه حجتها وموضوعيتها في حينها ... ولكن لا توجد بعد وصول الإسلام السياسي إلى السلطة عقب إنقلاب البشير في نهاية يونيو 1989م ...
لا توجد مبررات تبيح إحتفاظ الطبقة السياسية الحاكمة هذه بجنسيات وجوازات سفر أجنبية إلى جانب السودانية ... وحيث يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) ..... فما بالنك إحتفاظهم بأكثر من جنسية وجواز سفر يسيل لها لعاب المافيات أنهارا.
الواقع أن إحتفاظ هؤلاء بتلك (الأكوام) من بطاقات الهوية وجوازات السفر إنما مرده إلى رغبتهم في الإمساك بالعصا من المنتصف .. وأن يتوفر لديهم خطوط رجعة ، والإحتماء بسفارات في حالة أن حاولت القطة أمهم أكلهم .. أو غدر بهم الزمان وإستولت المعارضة المسلحة على الحكم بالقوة .. وما أدراك ما القوة وما يعقبها من ثارات ومجازر وتصفيات.
ولكن من الجانب الآخر فقد جاءت هذه المرامي الشخصية لمزدوجي الجنسية ببلاءات ووبالات على البلاد لم يكن يتصورها في السابق عقل .... فقد أصبحت تمثل خطورة مباشرة ، ومساس حقيقي بالأمن القومي للبلاد بأسرها .
على سبيل المثال فقد لوحظ أن العديد ممن تورط بسرقة أموال عامة أو قام ببيع ممتلكات البلاد من خطوط جوية وبحرية ومصانع ومشاريع زراعية وغيرها من ممتلكات عامة ..... لوحظ أن هؤلاء قد لاذوا بجنسياتهم المكتسبة وبجوازات سفرهم الأجنبية ؛ وخرجوا من البلاد سراعاً خفافاً كما تخرج الشعرة من العجين . ودون أن يتمكن الروتين الحكومي وسلحفائية القانون الوضعي من أن يطالهم بالمحاسبة أو حتى إستدعائهم للمثول أمام لجان تحقيق ووكلاء نيابة...... هذا بالطبع مع الأخذ في الإعتبار أن لهم في الداخل شركاء خلف ستار ؛ تولوا مهام التغطية والتغبيش .. إلخ. وبما يكفل تحويل الملفات للحفظ في الأدراج المظلمة.
وخلال الأسبوع الماضي .. ومع إشاعات ووقائع وإنجلاء حقيقة إقالة الفريق طه عثمان مدير مكاتب رئيس جمهورية السودان . والروايات والحكايات التي دخلت في طياتها واقع تمتع الفريق أمن طه بأكثر من جنسية وجواز سفر إلى جانب جنسيته وجواز سفره السوداني ...
وقد كانت من بين أبرز الإتهامات الموجهة إلى الفريق أمن طه ... كان من أبرزها تهماً تتعلق بالتجسس لمصلحة بلدان أجنبية ... وإشراف على مؤامرت محاكة تنتظر ساعة الصفر لإنطلاقتها وتنفيذها ؛ وتبين من تقارير الأجهزة الأمنية السودانية أنها كانت ستطيح بسمعتنا في الخارج ؛ وتضرب الأمن القومي السوداني في الصميم.
ظاهرة تمتع الدستوريين والمسئوليين الكبار . وكل من يمسك بمفاتيح موقع حساس في الحكومة السودانية يجب أن يخضع لدراسة عميقة ؛ ويعاد النظر فيه بإصدار قوانين ولوائح تمنع الظاهرة . ويتم تخيير الشخص ما بين أن يتخلى رسمياً عن (أرطال) الحوازات والجنسيات الأجنبية التي يحملها ويحتفظ فقط بجنسيته وجواز سفره السوداني .. أو أن يترك المنصب لغيره من أبناء البلاد.
وكذلك يسري الحال على كل سوداني الأصل يحمل جنسية وجواز سفر أجنبي ؛ في حالة إختياره لشغل منصب دستوري أو أمني حساس .. إلخ. من مناصب ومواقع تتيح له الإطلاع على أضابير والتعامل مع مستندات ذات علاقة بأمن البلاد ، وبناء حاضرها ومستقبلها.
وأذكر أنه في خلال عهد الرئيس السابق اللواء عبد الله خليل ... ذهب بعض الحذرون في لجان السودنة إلى محاولة الضغط على عبد الله خليل للتخلص من كادر السكرتارية الأجنبي أو ذوي الأصول الغير سودانية داخل القصر الجمهوري ومكتبه خاصة .. ولكن عبد الله خليل عارض ذلك بقوة على إعتبار أن هؤلاء لاعلاقة لهم بأولاد البلد والأحزاب الأخرى . وبالتالي تظل أسرار مكتبه بعيدةً عن متناول الصحف المحلية ، والساسة في الأحزاب الأخرى ... والشارع السوداني العام ..
وتصاعد الشد والجذب بين لجان السودنة وعبد الله خليل . وهو ما جعل هؤلاء يلجأون إلى السيد الصديق عبد الرحمن المهدي والطلب منه التدخل .. ثم وليتضح لاحقاً أن كل مستند يتم طباعته داخل مكتب رئيس الوزراء على الآلة الكاتبة ؛ كان يتم تسريب نسخ منه إلى كل من سفارات مصر وبريطانيا ، وبعض سفارات وقناصل الدول الأخرى التي كانت تهتم بالسودان ، وتضع عينها عليه بوصفه كان آنذاك (لتعدد موارده وثرواته) الدولة الأفريقية المستقبلية الحلم ، والمرشحة لتصبح أستراليا وكندا أفريقيا .....
تمتع الإنسان بأكثر من جنسية ؛ يهز في دواخله إنتمائه الوطني ويربكه نفسياً ؛ فيصبح كما يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) ....
ومن البديهي أن ندرك أن الإنسان أياً كان ؛ يكون ضعيفاً أمام سلطات البلاد التي تتكرم عليه وتمنحه جنسياتها وجوازات سفرها .... وبالتالي فلا نضمن أن تلعب أجهزة الإستخبارات المتعددة لعبتها ، وتستغل هذه السمة ونقاط الضعف . فتأخذ معلومات من هذا المتجنس بجنسيتها وتبيعها لمخابرات دولة أخرى أو تتبادلها معها نظير الحصول على معلومات أخرى في المقابل .. وهكذا مما هو متعارف عليه في علوم وممارسات التجسس والإستخبارات الدولية ؛ وبإمكان كل من رغب الإطلاع على ذلك الدخول إلى محركات البحث .. وإستدعاء مؤلفات ودراسات ومذكرات تتعلق باللعبة الإستخباراتية خرجت للعلن عقب نهاية الحرب الباردة.
إن السودان والحمد لله حَوّاءَ فيه والِدة .... وليس هناك نقص في الكوادر المؤهلة والمواهب ... بل قد بات حالياً من أبرز الدول المصدرة للمواهب ، وأصحاب المهن النادرة والنزيهة التي تتعطش لها الأسواق .....
وطالما كان الأمر كذلك من الوفرة والحمد لله في أبناء البلاد .. فلا أقل من أن نستشهد (بإسم ولسان حال السودان) بقول الشاعر:
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ ..... فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
التعليقات (0)