وحدها الكتابة مرتعنا و مضجعنا بعد طول يوم مزاجي هائج ، هي الونيس في وحدة قاتلة يملؤها الشوق والحنين، هي الملجأ بعد الله عز وجل في شدة المحن...وحدها هي تناجينا لنغسل تعبنا و وحالة الألم و العياء الداخلي الذي ما يلبث يجتاحنا.
كثيرا ما يكون الصمت ذو بلاغة رهيبة، فقد ينجح في التعبير عن ما ينتابنا أكثر من أي مصطلح أو مفرد...لكن الصمت يخنقنا أحيانا و يجعلنا تماثيل خشبية لا تقوى على الصراخ و لا الضحك و لا اللعب، لنحيى أسماء مهمشة خارج التاريخ.
نستمتع كثيرا بأفكارنا وهي تلعب في أحشاء ذاكرتنا ،لكن ما تكاد تخرج جنينة من رحم إلهامنا ، إلا وسارعنا إلى اغتيالها قبل أن تطلق صرختها الأولى على الورق...نفعل ذلك حتى لا يتكفل الرقيب شخصيا بخنقها و حذفنا معها في آن واحد ، نفعل ذلك حتى لا نرحل بلا عودة إلى منفى مستشفى أمراض العقول الكتابية.
إننا معشر حملة الأقلام كثيرا ما نكون ثلة من الخونة عندما نتنكر لنواح الكدح الصاخب في أعماقنا...عندما نتجاهل تلك الوجوه البريئة محمرة الوجنتين ، زرقاء الشفتين من شدة البرد وهي تبتاعنا "كلينكس" أو حلويات و هي ذاتها تبتاعنا قنينة ماء باردة صيفا بيدين صغيرتين متسختين..نستكبر ثم نمر..عندما ننظر بدونية لفتيات في عمر الزهور يرتزقن على أعراضهن ليس لذنب إلا لأنهن ولدن في مجتمع ربما يتفوق على الآخرين في خياطة أقنعة النفاق و الفساد السياسي..عندما نتحجج بقلة الثروات ونغض الطرف عن الظلم الاجتماعي و تفويت الثروات بين محتكري وناهبي المال العام. ونكون خونة من الطراز الرفيع عندما نكبت صدق كتاباتنا حتى نستمر في التعايش مع وجوه قهرت مشاعرنا واستباحت إراقة دماء كرامتنا...لا بل نكون خونة حتى النخاع عندما نقوم بتجميل كلماتنا فنضع بعضا من الفوندوتا على أحرفنا و أحمر شفاه لعباراتنا علها تروق لسعادة الرقيب المتذوق جدا للألوان الزاهية.
كثيرا ما يعتصر الألم بداخلنا فنتجرعه...تتفجر براكين الصمت بداخلنا فنحترق بهدوء ..نوهم أنفسنا انه الشموخ، وهو الجبن لا غيره، مهما حاولنا أن نلبسه من فساتين المبررات و الشعارات وقناع المخادعة...يبدو أن الغاب فظيع و مريع، فما عسانا نفعل في دنيا الأباطيل الموسمة زورا وبهتانا . هل نمضي عابري سبيل بلا عتاد؟ نمشي حفاة الأقدام؟ نحارب في صحراء قاحلة؟
كم مرة راودني الحلم أن أرفع رأسي شامخا متجاهلة كل العقبات ، لكن صدى ما كان يردد بداخلي : أود أن أرفع راسي عاليا لكني أخشى أن يحذفه الرقيب...أبيات للشاعر الفولاذي أحمد مطر ، الذي أعشق أحرفه الخارقة للرقابة ..قلمه البركاني الحارق لجلود المنافقين السياسيين..أشتهي ارتشاف صهارة حبره ..إنه من القلة الذين اغتالوا لعنة الرقيب فوق أوراقهم، ليشمخ القصيد ويبتسم الصمت المقيد بداخلنا.
فكم يلزمنا من أقلام رجولة إن لم تكن ناطقة بالحقيقة مناصرة للكدح المستضعفين، فعلى الأقل لتخرس عن تزيين الباطل و زخرفة أبواب استحمار المواطن و تدجينه بكتاباتهم التي سرعا ن ما تجد نفسها مغشيا عليها في مزبلة التاريخ.
التعليقات (0)