إذ يُساء فهم أصل أصول المعتزلة: تقديم العقل على النقل.

بسم الله الرحمان الرحيم

إذ يُساء فهم تقديم العقل على النقل

تُقَدِّم المعتزلة العقل على النقل، ولكن مِن الباحثين مَن أساء فهم هذا الكلام عن قصد أو عن غير قصد، والذي أراه أنهم أساءوا فهم مقولة "تقديم العقل على النقل" بسبب قلَّة تحصيلهم علم المنطق الذي يَتَعَلَّق بهذه المقولة وما تطابقها – من مقولات -، قلنا " وما تطابقها – من مقولات -"؛ لأنَّ "الذي يَصْدُق على المساوي يَصْدُق على مساويه"، وسوء فهمهم أدَّى بهم إلى القول بـ"أفضلية العقل على النقل". قولهم هذا يلزم عنه "أنَّ العقل متقدم على العقل، والعقل أفضل من العقل، حيث العقل في الأحوال الأربعة واحد"، و"أنَّ النقل متقدم على النقل، والنقل أفضل من النقل، حيث النقل في الأحوال الأربعة واحد"، وهو خطأ، لأنَّ الشيء نفسه لا يمكن أنْ يكون متقدم على نفسه، ولا يمكن أنْ يكون أفضل من نفسه، كما أنَّ المساوي في الفضل لا يمكن أنْ يكون أفضل من مساويه في الفضل.
الذي يتقدم على نفسه بالضرورة متأخر عن نفسه؛ وبهذا يكون العقل متأخر عن نفسه، وبثبوت أنَّ النقل معقول؛ فيلزم أنَّ النقل عقل تُعْقَل به الأشياء؛ فيلزم "أنَّ النقل متقدم على العقل"، هذا إذا تواصل حُكْم تقديم العقل على النقل بعد ثبوت أنَّ النقل عَقْل تُعْقَل به الأشياء، وهذا بلا شك تناقض ممتنع يقع فيه الذين لا يفهمون أصل أصول المعتزلة هذا “تقديم العقل على النقل”.
وبناء على ما سبق، فإنَّ الذي يلزم عن تواصل "تقديم العقل على النقل" بعد ثبوت أنَّ النقل عقل تعقل به الأشياء؛ هو اتحاد تقديم العقل وعدم تقديم العقل!، واتحاد تأخير النقل وعدم تأخير النقل في المكان والزمان نفسه!، وهذا "دور قبلي"، وهو "دور ممتنع"، وأحد أهم اللوازم التي تلزم عن هذا الاتحاد؛ هو بطلان "تقديم العقل على النقل"، وهذا يتجاوز النقل - بمعنى الدين - إلى غير النقل، حيث يدخل العلم التجريبي في هذا، فلا تعود مبادئ العلم التجريبي ذات جدوى بناء على الفهم السقيم لأصل أصول المعتزلة، فإذا دخل عالم تجريبي لتجريب شيء ما، وكرر التجريب تحت الظروف نفسها، وكانت النتائج تطابق المبادئ التي تعلمها قبل الدخول إلى التجريب، ومع ذلك أصَرَّ على تقديم المبادئ التي تعلمها على النتائج التي توصَّل إليها بالتجريب وهي مطابقة للمبادئ التي تعلمها؛ فيلزم من تقديمه هذا؛ أنْ تتقدم النتائج التجريبية التي توصَّل إليها على المبادئ التي تعلمها وهي مطابقة للنتائج التجريبية؛ وبهذا يلزم أنْ تكون النتائج المتطابقة التي توصَّل إليها متقدمة على نفسها ومتأخرة عن نفسها، كما يلزم أنْ تكون المبادئ التي تعلمها متقدمة على نفسها ومتأخرة عن نفسه، وهذا "دور قبلي" وهو باطل كما لا يخفى، وهذا "الدور القبلي" ينطبق على فهم الذي يسيء فهم أصل أصول المعتزلة، حيث يُلزم المعتزلة ما لا يلتزمون به، وهو أنَّ العقل المتقدم على النقل، يصير هو نفسه متقدم على نفسه، والمتقدم على نفسه بالضرورة متأخر عن نفسه، وإذا كان العقل متقدمًا على نفسه ومتأخرًا عن نفسه؛ فيمتنع أنْ يُعْقَل به (العقل المتقدم على نفسه والمتأخر عن نفسه)، ومن ثم فلا يمكن للإنسان أنْ يَعْقِل شيئًا؛ وبهذا يصير الإنسان دون الحيوان مرتبة، بل يكون مثل أي جسم غير مُزَوَّد بآلة تعقل الأشياء، ولا يوجد إساءة للمعتزلة أكبر من هذه الإساءة، فأي إنسان يُقدِّم العقل على أي شيء يريد أنْ يَعْقِله، فتتبيَّن المطابقة بين العقل الذي عَقل به وبين الشيء الذي عَقَلَه، فالزمه بالإساءة الشنيعة السابقة.

لنُمَثِّل على هذا باعتراض الوليد بن المغيرة والرد عليه، فقد أخبر الله عن "وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم"، فقال تعالى "قل يُحْييها الذي أنشأها أول مَرة..”.
الرد على اعتراض الوليد بن المغيرة هو رد معقول ومنطقي، فإنْ قلنا: أنَّ الوليد بن المغيرة لم يكن يَعْلَم هذا الرد قبل الرد عليه. نقول: لا يوجد هنا معقول يَسبق منقولًا، بل المنقول هو نفسه الذي جعله يَعْقِل الأمر على ما هو عليه، والذي يجعل هذا الأمر معقولًا هو نفسه معقول – وإلَّا فيلزم عنه تناقض ممتنع -، وهذا المعقول لا يوجد قبله غيره ليسبقه، وإلَّا فكأننا قلنا "العقل يسبق العقل، والذي سبق هو المسبوق"، وهذا "تناقض ممتنع" كما هو واضح.
فإنْ كان الوليد بن المغيرة يَعْلَم الجواب المعقول، ولكنه أراد التشويش فقط، فنقول: تقديم العقل على النقل غير مطلق بل مُقَيَّد؛ ذلك أنَّ النقل في هذا السياق يطابق العقل، فبمجرد أنْ يُعْلَم التطابق يتوقف "تقديم العقل على النقل"، فإنْ امتنع أحد عن التوقُّف فيكون ملزومًا بـ"تقديم العقل على العقل حيث السابق ليس غير المسبوق، وهو محال”، فيُلَزم بمحال. ثم إنْ هو تقدَّم في الزمان فلا يمكن أنْ يتقدَّم في الفضل، فالأفضل الذي يطابق الأفضل، ليس أحدهما بأفضل من الآخر.