لقد استشرى الفساد في كل نواحي الحياة في وطننا العربي على اختلاف في الدرجات والمظاهر بين دولة وأخرى، وهذا مما يكمد النفوس ويملأها بالحسرة والغيظ ، إلا أن الأكثر كمدا وغيظا خاصة للمنشغلين بالهم العام، هو عملية التغييب العقلي للشعوب؛ حتى غفلوا عن الأسباب الحقيقية للفساد، وباتوا يلعن بعضهم بعضا، في سلبية مقيتة وبلاهة لا يحسدون عليها .
وإذا حثثتهم على الحركة والعمل والوقوف في وجه المفسدين الكبار قبل الصغار، قالوا لك: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وكأن هذه الآية أصبحت تكأة عندهم للسلبية والجمود، والتنصل من تبعة التغيير وضريبة الإصلاح، ونسوا أو تناسوا أن تغيير النفوس يبدأ بتطهيرها من الجبن والخور والذل والمهانة، ومواجهة الحقيقة التي نتعامى عنها ..الحقيقة هي أن أصل الفساد هم الحكام، وأصل البلاء هو الاستبداد السياسي، وأساس الإصلاح هو الإصلاح السياسي، وتغيير الأنظمة قبل كل شيء.
يقولون لك: وهل يستطيع الحاكم أن يراقب كل مواطن؟ أو يجعل خلف كل موظف حارس يمنعه من الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والمحسوبية والتربح الغير مشروع .
أقول لهم: هو حقا لا يستطيع ذلك لاستحالته، ولكن يستطيع أن يمنع نفسه، فإذا امتنعت، امتنع الناس.
وقديما قالت الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر.
ومن أمثالهم في هذا قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها.
ولما أوتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: إن الذي أدى هذا لأمين، قال له رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله، يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا .
واطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة، فأنكر منها شيئا، فقال لوكيله: ويحك إني لأظنك تخونني، قال : أفتظن ذلك ولا تستيقنه؟ قال: وتفعله؟ قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله ،فلعن الله شر الثلاثة.
وهذا ابن الأثير، يسجل في موسوعته التاريخية (الكامل): كان الوليد بن عبد الملك -الخليفة الأموي- صاحب بناء، واتخاذ المصانع والضياع، فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء. وكان سليمان بن عبد الملك صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن النكاح والطعام. وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، فكان الناس يسأل بعضهم بعضها عن الخير: ما وِردُك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ وكم تصوم من الشهر؟
وأنا أقول: الأنظمة الحاكمة في بلاد العرب تتربح من المال العام، وتقدم أهل الثقة لا الكفاءة، وتبيع الأوطان بأبخس الأثمان، وتسعى لتوريث الحكم لأبنائها، وتكدس الأموال والثروات في بنوك أوربا؛ فلا غرابة إذا أن تجد الرشوة، والفساد، والمحسوبية، وتوريث الوظائف لأبناء العاملين، ونهب المال العام، من القيم المعتادة في حياتنا اليومية.
يقول الأستاذ فهمي هويدى في كتابه (التدين المنقوص) :" إن ممارسات السلطة قد تبدو في ظاهرها جولات سياسية أو حسابات اقتصادية أو أهدافا تنموية تتعجل بلوغها بشكل أو آخر، وهذا حق، غير أن ذلك يظل فقط الوجه المرئي منها والمحسوس.
الوجه الآخر هو أن تلك الممارسات تشكل منهجا في تربية الجماهير من ناحية، ومدرسة تتخرج فيها كوادر السلطة المبثوثة في كل مكان من ناحية ثانية.
فإن وجدت بين الناس فضائل شاعت، أو رذائل ومعايب تفشت وذاعت ففتش عن الحكومة، ودقق فيما تقول وتفعل؛ حتما ستجد ذلك الحبل السري الذي يربط فيما بين الاثنين؛ حتى ليخيل إليك أنك بإزاء نهر واحد، السلطة منبعه والناس مصبه". وقد صدق المثل " إذا صلحت العين صلحت سواقيها "
التعليقات (0)