إدراك الإرث الجمعي بوعي الخيال في مجموعة "عينان في الأفق الشرقي" للقاص حسن غريب أحمد الصادرة عن سلسلة كتاب الاتحاد2009. بقلم/ سمير محسن للقارئِ مجموعة (عينان في الأفق الشرقي) القصصية للأديب حسن غريب أحمد ,سوف تأخذه الدهشة إلى آفاقٍ رحبةٍ من الغوصِ في أعماقِ التراثِ ,فتجلس على أريكتك متحليًا بالصبرِ تارةً وأخرى بنهمِ المعرفةِ لماضٍ يُمثلُ الحاضرَ, ومستقبلٍ يتوقُ لمجدهِ العريقِ,ولما لا وهو يقول"الشمس تُرسل أشعتها الذهبية على المنزل العرايشي الواسع الفناء ص7"حيث يأخذك إلى جملةٍ من التفاصيلِ في حيزٍ ضيقٍ لا يتسع إلا لخيالك المتشدقِ لمزيدٍ من العودةِ بالحنين والشجن لذاك المنزل وتلك الصيغة المعيشية التي تعج بكل صنوف المودة والرحمة في فناءٍ لا يهدأ من كثرة الأعمال التي تجمع الأهل والخلان في وقتٍ تضاءلت المنازل إلى صناديقٍ تضيق بساكنيها, ثم يسترسل "وعلى مقربة من الساحل وسط النخيل تجلس النساء يضعن الأسبتة والكراسي والشنط المصنوعة من السعف وكذا القبعات ص8" وهذا يحيلنا إلى ما كانت تصنعه النساء يدًا بيدٍ مع الرجال مشاركةً إياه كل شيء, تعيش نبضاته لإقامة صرح الحضارة في عمل دءوب كما هو الحال في "قبعت المرأة على الأريكة أخذت تتفرس في وجه زوجها 00فأحست بعض الحمرة تكسوه ووجدته يتلعثم في كلامه فسألته :وين بقية الرجالة؟"قال سالم"مازالوا في القيادة استعدادًا لتخطيطٍ جديدٍ على اليهود وضربهم في معاقلهم ص 9-10" ثم تتوالى الأحداث من منطقة إلى أخرى ناقلةً زخم التراث المصري إلى الدنيا بأسرها وليس هذا فحسب بل والكفاح والتخطيط للعبور ووو, ولكن المهم أن الأديب حسن غريب تأرجح بنا في مجموعته (عينان في الأفق الشرقي) ما بين الواقع حيناً ثم الجنوح الشديد للخيال حيناً آخر ,بشكل يُعد من أساسيات العمل القصصي في حبكةٍ فنيةٍ يقل فيها ألحكي وتزداد الحالة الدرامية التي هي في مجموعته نفسية مزاجية ذابت في المكونات الداخلية للنص القصصي ,فظهرت الوطنية في أعلى مستوياتها متمثلةً في معدن الإنسان السيناوي الأصيل المتمسك بوطنيته بشكلٍ يستحيل أن تقارنه بأحدٍ من العالمين وهذا ما أتضح في"سار المناضلون بجمالهم نحو الجنوب الشرقي للعريش- انطلقوا كالسهام- لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى كانوا قد تلاشوا في ضباب الظهيرة الذي غطى مرتفعات الوادي ومخفضاته ص 21" وكذلك في"عندما حاصر العدو مدينة العريش 00 أخذن في إعداد النساء والأهالي للحرب وتدريبهم على الدخول والخروج من المدينة لضرب الأعداء في معاقلهم والعودة سالمين ص23" ولما لا وأديبنا استطاع أن يخرج من هذه الحالة النضالية إلى مرحلة التوازن ألأنيني "أسماء وحدها كسرت كل الحواجز وعبرت كل الجسور , وشقيقتي تجزم أني أحبها لأنها تشبهني تمامًا وصديقي يؤكد أن أواصر الشبه بينها وبين من كانت حبيبتي وأنا أسرح وأفكر وأستبطن ذاتي لأدفع عن نفسي اتهاماتهم ولكن لا جدوى00أضمها لصدري وأضحك فتتعلق بعنقي وتشتم وتضحك؛ لأنها جاءت لعالمي في الوقت المناسب جدًا قبيل الخروج من أزمتي الحادة التي امتدت سنوات ,وكدت أفقد ذاكرتي للأبد ص 25 - 26" لتضح الرؤيا على قدرة القاص حسن غريب أحمد على التشكيل الذهني والتعبوي لما يجيش في خلجاته بما لا يدع مجالاً لتأويلٍ قيد أنملةٍ باستطاعته الخروج ثم الدخول في الحالة القصصية مرتديا ثوب الحكمة والانبهار, متماسكاً تمامًا وقت النكسة بتذكر معشوقته ثم العودة جلدًا بمجرد احتضانه للصغيرة,ملقيًا باللوم على محيطٍ لم يستوعب تكوينه الذهني الذي واعده بالخروج مستقبلاً بهذا العمل القصصي المتميز, في لوحةٍ تعج بالحركة وترابط الأحدث كما يتضح في"استيقظت من النوم وأخذت أفتش عن جدتي في كل حجرات منزلنا القديم وأطلب منها بإلحاح نصيبي من لحم سعد وأضحك وبدأ الكل يضحك, وجدتي تمد يدها في القدر وتدعو لمولانا وتحملق في وجهي وتضحك ومازلت أهضم وأضحك ,ومازالت الصغيرة أسماء تسألني :وتصرخ أنا لا أستطيع الجواب ولا أجرؤ على قتل حبيبتي أسماء ص27- 28" حيث تكثيف جملة من الرؤى يجب التوقف حيالها كثيرًا فتجد السماح والصراع والندم والخوف والبراءة ووو, كل هذه الأشياء لابد قطعًا أن تختلج في باطن أي قاصٍ وُهِبَ الحالة القصصية ,وهو في أوج انكساره ونشوته,حالة لا يعلمها إلا هو,حيث نراه رأي العين يقول"أعبث بأصابعي00 أشكلها معًا00 أحركها برتابة00 وأسير وحدي000 أردت لحظات أسرقها من هذا الضجيج كي أكون وحيدًا ص 29" طبعًا وحدته المختلفة عن وحدة باقي المحيط وإلا تشابهت الأشياء ,وأصبحت بلا معنى ,وحاشى على أديبنا القاص حسن غريب أن يركن إلى هذا الجانب لأنه مدركٌ تمامًا مقدار عطاء الله له من زخمٍ إبداعي قصصي لا يضن به على إنسانيته , فتضافرت لديه الرؤيا كما تتلألأ أمواج البحر في شكل عنقودي يستحيل معه إلا أن تدقق النظر رغم صعوبة المشهد, ولا نبتعد كثيرًا فنستشهد بقوله "كنت أنساب بخطواتٍ تتماشى وإيقاع البحر الممتد جانبي 000 أضيء دمعاتي فيه أعمد روحي به00لكن البحر بعيد يعتنق كآبةً وحزنًا غريبين ص9" وهو يتأرجح ما بين النفور من ذاته تارة وبين صدقه الفني وثباته الانفعالي تارة أخرى كي لا تحال القصصية إلى عجزِ بيتٍ يقول "كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ من علِ" مع تقديرنا لإمرؤ ألقيس, ولكن حسن غريب يغرد في أفاق تلاحمت معها كل صنوف الآلات الموسيقية الوترية منها والشجرية في سيمفونية قصصية تفوق فيها على صعوبة الواقع ونكبات الدهر فيقول:"بلا تردد تشابكت يداي00 ذهبت أستشعر دفء ما بعد الصقيع00 تاهت في غمار الشعر يداها00 وكنا على موعدٍ أن نلتقي 00 كذبنا على الموعد بالصدفة والتقينا ص66" حيث يأخذك إلى مقطع شعري لا ينفصل عن العمل القصصي ولا انفكاك عنه ليختم به حالته القصصية استكمالاً لرؤيته وإلا سارت الأمور عكس الاتجاه , ولكن بوعيه الإبداعي وتمرسه جنح لهذه الحيلة المدركة ,منطقة الشعر واللا شعر أو منطقة القصة والحالة الدرامية ,فكان الاختيار الأمثل لتستقر جوارحه وترسو السفينة في خضم هياجٍ من تلاطمٍ لا ينقطعُ يمزق تارةً ويقلقل تارةً في مجهولٍ حجمه القاص حسن غريب وأمسك بلجامه فيقول:"بسرعةٍ نقلت عينيها إلى عينيه الغارقتين في وجهه الطويل ونظرت فيهما نظرة جعلت الشارع يمتلئ بالمارة لتصبح أصواتهم في أذنيها وتضرب حركاتهم السريعة واللامبالاة جسدها النحيل وليمر بينهما فلا تعود قادرةً على رؤيته في هذا الزحام ص69-70" تجول القاص حسن غريب بسرعة غير معهودة في محيط كوني حمل فيه دمار الدنيا وزيف نعيمها , بحبكة فنية في مجموعته القصصية (عينان في الأفق الشرقي) التي وصلت إلى 70صفحة ضمن 9مجموعات قصصية وكتب متنوعة ,دون ترهلٍ أو إسفافٍ متقنًا ومدركًا قدراته الإبداعية فخرجت بانسيابيةٍ شديدةٍ دون تكلفٍ ,ولما لا وقد تمرس طويلاً وعاصر الكثيرين ,فكان أروع ما فكر.
التعليقات (0)