بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
"إحنا ما عندناش بنات تتطلق" عبارة تعتبر في بعض العائلات أكثر إلزاما من أي نص قرآني أو حديث نبوي أو حكم شرعي.. ..وقديما تهكم أحد الأئمة – وهو على الأرجح الإمام الشافعي – على من يتطاولون على الشرع بإعلان أن هذا جائز وهذا غير جائز فقال في بيت شعر شهير:
يقولون هذا "عندنا" غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم "عند"!!!
لكن مجتمعنا أصابته حالة من الكبر والغرور جعلت كل من هب ودب يقرر أن يطلق أحكاما من نفس النوع تصبح أكثر قداسة من حكم الشرع وكلمة العلم وخلاصة الخبرة الإنسانية. وأمثال هؤلاء غالبا يتسلحون بثروة كبيرة من الجهل، ويجمعون إليه الغرور. فعندما ينفخ أحدهم أوداجه ويقول: "إحنا ما عندناش بنات تطلق" غالبا تكون حصيلته من المعرفة بالأحكام الشرعية الخاصة بالطلاق أقرب إلى الجهل التام، وهو كما قال عبد الرحمن الأبنودي واصفا أحد ضباط مباحث أمن الدولة في قصيدته الشهيرة "القلعة":
ربنا رازقه بجهل
غانيه عن كل العلم!
وعندما يصل البؤس قمته فإن الجهل والكبر يغنيان عن العلم، حتى لو أخذا صاحبهما إلى الجحيم!!!!.
والقضية بالطبع ليست الطلاق بل هو مجرد حالة تبين حالة الغرور الاجتماعي التي استشرت في المجتمع المصري وصولا إلى عبارة مصرية سيئة السمعة هي: "انت عارف انت بتكلم مين". والموضوع وإن بدا ساخرا إلا أنه لا يجوز أن يعالج بهذا التبسيط فالمشكلة فعلا من مشكلاتنا الخطيرة لأنها أصبحت عبئا على علاقاتنا الاجتماعية والعلاقة بين المواطن والموظف الحكومي.... وغيرها.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحذر من شيء قدر ما حذر من الكبر، فهو أخطر من السرقة وشهادة الزور والزنا، لكننا صرنا نتعايش بألفة مدهشة مع منظومة "كِـبر" شاملة فيما نسفك الدماء لأقل شبهة ولأي شائعة باسم الدفاع عن الشرف. ومن الأحاديث النبوية التي تكشف حجم هذا الخلل قوله صلى الله عليه وسلم نقلا عن رب العزة: "أبُـغِض الغني المتكبر وبغضي للفقير المتكبر أشد".
فلماذا اجتاح الكبر حياتنا ونحن شعب أغلبه من الفقراء بكل ما في الكلمة من معنى؟ ومن الذي أزال من أذهاننا الخيط الفاصل بين الاعتزاز بالنفس كشعور فطري مقبول وبين الكبر كمرض أول من أصيب به إبليس!
وللكبر الاجتماعي صلة مباشرة بالكبر السياسي، وكلاهما يساهم في ظهور الآخر واستمراره. وعلى هذا فإن رافعي شعار "الخصوصية الحضارية" في مواجهة المطالبات المشروعة بالإصلاح السياسي حتى نصبح مثل بقية خلق الله، هم الوجه الآخر لرافعي شعار "أحنا ما عندناش كذا". فالتطبيق السياسي لهذا للخصوصية الحضارية هي شعارات من نوع: "إحنا ما عندناش رقابة دولية على الانتخابات"، و"إحنا ما عندناش تعددية نقابية"، و"إحنا ما عندناش مستقلين يترشحوا لرئاسة الجمهورية".. .. .. ..
ومع الإيمان بقداسة الوهم المسمى "الخصوصية الحضارية" تهدر قيمة الحقوق الأساسية للإنسان كما أتت بها الأديان، وترفض المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتطلق أبشع التهم على كل محاولات الاستفادة من خبرات الأمم الأخرى، لأننا – للأسف الشديد – تمت ترتبينا على قاعدة أكثر إيغالا في الضلال وهي: "إحنا حاجة تانية" (وهو عنوان مقال رائع عن هذه الظاهرة كتبه المفكر الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي في جريدة الأهرام).
ومن الناحية العملية فإن التشدد في تصنيف الطلاق محرما اجتماعيا لم يضيق دائرة الطلاق بل وصلت نسبته إلى ما يساوي النسبة في أكثر المجتمعات الغربية انفتاحا، ما يعني أن الشعارات الاجتماعية مجرد شعارات. وفلاسفة الخصوصية الحضارية استدرجونا للدفاع عن وهم وخاضوا حربا هدفها الحقيقي حراسة تخلفنا بسيف من نار، فتزوير انتخاباتنا البرلمانية والرئاسية، وتعذيب مواطنينا في مسالخ وزارة الداخلية، وتبديد غول الفساد لإمكاناتنا الاقتصادية، وإذلالنا صباح مساء أمام البيروقراطية العريقة، و.. .. ..كل هذا موضوعات جانبية بل ربما تافهة، المهم ألا نفرط في خصوصيتنا الحضارية. وأن نضحي بأروحنا دفاعنا عن "الكِـبر المصري العريق"!
يا سادة ثقافتنا السياسية وتقاليدنا الاجتماعية كلاهما تحتاج شيئا من التواضع.
التعليقات (0)