إحالة العم سام إلى التقاعد...إبراهيم أبو عواد...جريدة القدس العربي... لندن ، 7/7/2010م .
إن أية قوة في التاريخ البشري تفتقد إلى الغطاء الأخلاقي الشَّرعي ، تؤسس منطقاً سياسياً جديداً وهو اللامنطق . إذ إن دخول السياسة المعبَّأة بالأيديولوجية المتطرفة ضمن إطار حياتي منفعي، من شأنه دعم وجهة نظر المحافظين الجدد ( سواء كانوا أصحاب بشرة بيضاء أو سوداء )، والذين يقودون الغرب ( وعلى رأسه أمريكا ) إلى بؤرة الصدام مع نفسه. وهذا يتنافى مع قيمة حوار الحضارات ، والأخوةِ البشرية بغض النظر عن الدين أو العِرق . فلا يجوز السماح للمتطرفين من أتباع الديانات أن يعيدوا تشكيل الدِّين من وجهة نظرهم ، ومصالحهم الشخصية . فالانكماش الحضاري هو صورة المتوازِيات المتطرفة، والعدميةُ المجازية الموغلة في هلامية الأكذوبة الحضارية. فغيابُ الأخلاق عن المسار البشري العالمي من شأنه نفي قيم الحقيقة عن الكيانات السياسية ، فتصبح الحضارة كقيمة تاريخية لا تملك وجوداً حقيقياً على أرض الواقع ، بسبب تحولها إلى كيان مصطنَع ، وقطارٍ منحرف عن السكة . إن نفي الخديعة المرتدية قناع الحضارة هو أساس فكري إنساني ضروري من أجل تفتيت المتمركِزات الوجودية لهالة الانبعاث الحضاري الوهمي المكرَّس. ونحن إذ ندعو إلى خارطة جديدة للأرض متعددة الأقطاب ، فإننا نهدف إلى إعادة أنسنة الإنسان ، وانتشاله من قاع التوحش والسادية الذي دخلت فيه الحواسُ البشرية بفعل حجم الاستهلاك الضاغط على حياة الكائن الحي المدجَّن الذي كرَّسته الأمركة ( العولمة ) كمرحلة وجودية مستمرة حتى نهاية التاريخ المحاصَر في قبضة القوة العمياء . وهذا الوهم المتراكِب الذي يفترض استمرارية الفوضى الرأسمالية التوسعية حتى نهاية التاريخ، ما هو إلا حِراك انتكاسي لصيغ متوازيات انكسار الوعي العلمي ، وانتحارِ المنهجية المعرفية الشاملة. وبالقطع فمثل هذا الوهم قد نتج بفعل غياب القراءة الواعية لأنساق الحِراك التاريخي ، وطبيعةِ التحرك الأفقي والعمودي للحضارات ( الولادة ، الشباب ، الشيخوخة ، الموت ) . والإشكالية الحقيقية في عقول المفكرين الداعمين لمشاريع المحافظين الجدد الأيديولوجية الفكرية ذات الخلفية النفطية هي التموضع في ذروة النشوة الإمبراطورية الوقتية ، والتخندقِ في بؤرة اللذة الآنية ، ونسيانِ النار الكامنة تحت الرماد نتيجة عدم إيجاد حلول جذرية للقضايا الإنسانية، وعدمِ التفكير في تموضعات المسؤولية المترتبة على إشكالية اللذة . فغياب تشريح نسقية " الهدوء الذي يسبق العاصفة " ، والاكتفاء بالتموضع في ذاتية الهدوء المرحلي المؤقَّت قاد الإمبراطورية الأمريكية إلى أزمات وجودية حرجة . وهذا يظهر جلياً في انعدام الاستعداد للأزمات الشرسة بمختلف مستوياتها، فصارت ثنائية الروح _ المادة هي إشكالية الأضداد والتمزق والفراغ الموحش . فالكيان الأمريكي الإمبراطوري تنعدم فيه المرونة شيئاً فشيئاً من خلال أبعاده السوسيولوجية المتضاربة ، لذا تتوالى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل صادم ذي تأثير قاتل للروح والمادة ، لكن النسق الاجتماعي قد يحيا _ بعد الأزمات _ في فترة حلاوة الروح ، لكن هذه الحياة تكون مضطربة ، وسائرة نحو الطريق المسدود . ونحن نعلم أن النظام السياسي الأمريكي _ رغم كل السلبيات_ نظام مفتوح قادر على إعادة تصحيح مساره _ نظرياً على الورق_ ، لكن الواقع ضاغط في مركزية الصميم ، لذلك فإن القطار انحرف عن السكة ، مما أدى إلى ضعف قبضة أمريكا بدليل وجود دول متمردة على الإرادة الأمريكية مثل تركيا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا . وهذا تهديد مباشر للفكر الأمريكي الرامي إلى بسط نفوذه على العالم . ومن خلال التنظير الفلسفي للسياق التاريخي ، نجد أن غياب الوعي الإنساني حصر مشاريعَ الاحتلال الأمريكي في خانة ردة الفعل لا الفعل . وبما أن تأسيس متواليات المعرفة الجزئية في بنائية التجريد الانسحابي يتماهى مع الفوضى الخلاقة التي صنعتها الآلةُ العسكرية الأمريكية، فإن نتائج السياسة التوسعية تتماهى مع تكثيف الخرافة السياسية . وبالتالي فإن التجسيد الدلالي لمدى تطابق معارف السياسة الإمبراطورية مع أنسنة المعاني المجتمعية قد أُصيب بانتكاسة شرسة تتمثل في تعرية أمريكا أمام نفسها والآخرين . وهكذا فقدت الغطاءَ الذي كانت تتخذه لشَرْعنة أفعالها غير القانونية . فمع تزايد الأزمات العاصفة بالكيان الأمريكي، تكرس مأزق الوجود التأسيسي المقنَّع . فالعم سام تشظى إلى أعمام قبيل تقاعده ، فلم يعد النظام الحياتي الأمريكي سوى مركزية استهلاكية ، لأنه قائم على استنزاف الموارد ، ومصادرِ الطاقة ، وتأطيرِ الآلة الإعلامية القوية في دغدغة مشاعر الناس . فالإعلام _ كأيديولوجية_ يعمل على إحالة المعنى التأصيلي إلى مستويات معيشة هلامية في عوالم الأحلام والخيال والحب والثراء والمجد . وهذا التأطير الوهمي نتاج طبيعي لتكثيف اللامنطق كنسق حياتي . ومن خلال مفاهيم انكسار الحاجات المرحلية لوجودية التمركز العاطفي حول المعنى ، صارت الأنساق المجتمعية في الأطر الجغرافية السياسية تنتج كائناً مسخاً ، وهو المجتمع المتشكل على صورة إقطاعيات ، ولا يستند إلى النماء والانتماء . لكن المسألة لم تقف عند حدود تجذير الإقطاعيات في المجتمع المسيَّس المبني على متواليات الفراغ العدمي وفق أشكال المستوى المادي الرأسمالي فحسب ، بل تكرَّست الإقطاعيات في عوالم الأنسنة المعرفية . فصار هناك بشر درجة ثانية وثالثة وعاشرة ضمن إطار كياناتٍ جسدية منبوذة لا تاريخ لها . فلم يعد الأمر مسألة من يملك ومن لا يملك . بل وصل الأمر إلى مقاومة أنسنة الإنسان بصورة تعكس اضمحلال التفكير الإنساني الراشد . وهذا زرع في قلب المجتمع تاريخاً من الانكسار والتمييز العنصري بدءاً من لون البشرة حتى الشطط الطبقي .
التعليقات (0)