فضاء الكلمة..
بقلم: خليل إبراهيم الفزيع..
إثبات الذات.. لا يعني إلغاء الآخر..
ثمة مبدأ يسيطر على معظم الناس ويتلخص هذا المبدأ في جملة تقول: إن لم تكن معي فأنت ضدي، وهو مبدأ عقيم يؤكد ضيق الأفق لدى من يملكون قناعة تامة بصحته، فهم أشبة بالقابضين على الريح، كما أنه مبدأ يتجاهل الآخرين وقناعاتهم الذاتية وحقهم في إثبات الذات، وهو الحق الذي نسعى إليه جميعا، على ألا يدفعنا هذا السعي إلى احتكار هذا الحق المشروع للجميع.
قد نسعى بكل ما نملك من قوة أو أسباب لنتبنى موقفا نحقق من خلاله قدرتنا على إثبات الذات، لكن عندما نصطدم بمواقف مغايرة من قبل الآخرين، تدفعنا الحماسة وربما التعصب إلى عمل المستحيل لشجب وحجب كل ما يتعارض مع مواقفنا.. وكأننا فقط الوحيدين الذين نملك الحقيقة الكاملة دون غيرنا، وهذا نوع من النرجسية التي قد تصل إلى حد المرض ـ والعياذ بالله ـ وحقائق الأمور تفرض علينا أن نوطن أنفسنا على قبول المواقف المضادة، حتى وأن لم نتحمس لها بنفس درجة حماستنا لمواقفنا الذاتية.
هذه الظاهرة تبدأ معنا منذ الطفولة فسلطة الفرد في الأسرة أو القبيلة تلغي أي سلطة أخرى، فلا رب الأسرة ولا رئيس القبيلة بقادر على استيعاب حقيقة أن غيره يمكن أن يشارك في الرأي لصنع مواقف مغايرة تسهم في اتخاذ القرار الصائب، وتحديد المواقف الثابتة وفق قناعات وإن تكن فردية لكنها لا تتجاهل الآخر، وهذه الظاهرة تمتد من محيط الأسرة والقبيلة إلى محيط المجتمع، عندما تسيطر آحادية التفكير على صاحب القرار، خاصة في غياب مؤسسات المجتمع المدني التي تستوعب كل الأفكار والمواقف، وتسخرها في سبيل الإسهام في تنمية المجتمع وخدمة الوطن، وغالبا ما تفرز آحادية التفكير نتائج كارثية يدفع ثمنها المجتمع، لما تجلبه من أخطاء تصاحب عادة تنفيذ أي قرار لم يبن على أسس علمية في أجواء يتمتع فيها الجميع بحرية الرأي للإدلاء كل بما لدية، ولمناقشة ما هو مطروح بشفافية تضمن الوصول إلى أجدى وأنجع الحلول، وصواب الرأي ليس حكرا على فرد بعينه، بل هو متوقع من الجميع، بحسب درجة الوعي والإحساس بالمسئولية من قبل كل فرد.
ما ينطبق على الأفراد في علاقتهم بالآخرين، ينطبق على الدولة أيضا في علاقتها بغيرها من الدول الأخرى، ورغم أن سياسات الدول مرتبطة بالدرجة الأولى بمصالحها الخاصة، لكن ثمة عوامل أقوى من المصالح ـ الآنية ـ وهي ذات دلالات قومية أو أممية تتجاوز الحاضر للنظر إلى المستقبل بواقعية أكثر، وعالم اليوم بما فيه من تكتلات اقتصادية وسياسية وتجارب وحدوية مختلفة، هذا العالم.. جدير بالنظر إليه بشيء من التفكير الإيجابي، الذي يمنح على المدى البعيد فرصا أكثر قوة وثباتا في تحقيق تقدم وازدهار الشعوب.. وما من دولة يمكن أن تحقق تقدمها بمعزل عن الدول الأخرى، خاصة بين الدول ذات العوامل المشتركة التي تزيد من توثيق الصلة في علاقاتها الأخوية، وتعميق الروابط بين مواطنيها، ومد المزيد من جسور التعاون والتنسيق في مجمل مواقفها الداخلية والخارجية، وتحديدا بين الدول التي تشكل عمقا استراتيجيا لبعضها، مما يفرض بالضرورة ردم أي هوة قد تعيق مثل هذه المساعي والجهود.
في الأزمنة السحيقة من تاريخ الإنسان كان الفرد مسئولا عن نفسه، ثم مسئولا عن محيطه الأسري أو القبلي، وعند تكوين المجتمعات الحضرية اتسعت هذه النظرة لتشمل من حوله من أفراد المجتمع، وإن اختلفوا معه في التفكير أو المذهب أو الدين، لتمتد هذه النظرة الشمولية إلى آفاق أكثر رحابة في علاقات الشعوب والأمم، وهو أمر كثيرا ما تجاهلته الأمم القوية في نظرتها للأمم الأقل قوة، وهذا ما تمثله سيطرة القطب الواحد، ووقوفه مع الباطل من منطلق القوة الغاشمة، وهي قوة تكونت على حساب تلك الشعوب والأمم الأقل قوة، وهذه السياسة إن دامت زمنا فلن تدوم في كل الأزمنة.
التعليقات (0)