أحياناً يراودني سؤال عن الحَدّ الأدنى والأسفل الذي يمكن أن تصل إليه النفس البشرية وهي في كامل وَعْيّها فأجدني عاجزاً عن تصور عمق الانحدار الخُلُقي والروحي الذي تسقط فيه فتنقطع صلتها تماما عن تلك السلالة من الطين التي استمعتْ لرب العزة يقول كن فكانت أبانا الأول.
في ذهني آلافٌ من الصور والمشاهد والحكايات والوقائع التي تتقاطع مع صور الجمال والايمان بعظمة الانسان والنغم والحب والخير وكلمات الكتب المقدسة وحِكَم الأنبياء والمصلحين وضحكات السُعداء ووجوه الأطفال البريئة.
كلما استدعيتُ واحدةً جاءت في ذيلها عشرات أخريات.
أتذكر حكاية مجرم اختطف طفلة في السادسة من عمرها، وظل يغتصبها ويعذبها بعدما استأجر غرفة في أحد البنسيونات القديمة في بلد عربي لأكثر من شهرين.
شهران كاملان وهذا الذئب ينام، ويستيقظ، ويسمع الآذان ويختلط به نحيب الطفلة، وتتقيح جروحها، وتجف دموعها، وتتوسل إليه، ثم يراها بعد يوم أو أسبوع أو شهر حطاما بشريا لجسد غض بريء جفت الدماء في عروقه.
لكنه يستمر في تعذيبها، واغتصابها للمرة المئة أو المئتين أو أكثر.
ظننت لبعض الوقت أن الجزائريين تفوقوا على القساة في العالم خلال الحرب الأهلية، ففيها حكايات عن تفجير أجساد الأطفال، وتعذيب نساء في المقابر، وسلخ جلود، وجز رؤوس.
وظننت أيضا في فترة موازية لها أن الروانديين حصلوا على أوسمة القسوة وشرف الحيوانية عندما قتلوا من أبناء شعبهم مليونا من البشر حتى أن السيارات كانت تسير فوق الجثث كأنها تسفلت الأرض بأجسادهم.
قرأت عن عمليات التعذيب في المغرب في عهد الحسن الثاني وبمباركة منه ولذة عجيبة كان يشعر بها وهو يستقدم علماء مسلمين ، يستمع إليهم وذهنه مشغول بدرجات التعذيب التي أمر بها حتى أن أحد المعتقلينفي سجن تزمامارات ظل نائماً على ظَهره لعامين، وقد اختلط بولُه بِبُرازه متجمداً ليصنع طبقة سميكة على جسده لا يستطيع أنفُ أن يقترب منها على مسافة طويلة.
أعترف بأن العراق الآن حالة لا تقارنها بأخرى في العصر الحديث، وأنا لا أبحث هنا عن المجرم لكن البحث يضنيني عن غير المجرم!
لا أشير لسُنّة أو شيعة أو أكراد أو تركمان أو بعثيين أو صداميين أو قوات احتلال.
كل الجرائم البهيمية والدموية التي تصغر بجانبها أفلام الرعب وخيالات الساديين منفصلة أو مجتمعة وجدت مرتعا خصبا لو لم تتجدد مياه الرافدين لتحولت لدماء قانيةٍ تلعن الانسان وطِيَنه وروحه ودوره في تخريب تلك الأرض التي لو بقيت على حالها بحيواناتها المفترسة لأضحت جنة مقارنة بانسان اليوم.
شاهدت عشرات من صور المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب ولم أستطع نشر أي منها حفاظا على مشاعر القراء.
قرأت تفاصيل ذبح أطوار بهجت، وثقب جسدها بالدريل، وعن كل درجات التعذيب التي مرت بها.
في كل يوم يمر تعلن مئة امرأة عراقية أنهن ترملن، وربما لن تمر سنوات قليلة حتى يصبح أيتام العراق هم الأغلبية.
من ثلاثة عقود تحت أحذية شيطان بغداد وأجهزة الرعب التي صنعها، إلى احتلال أمريكي ينهب الخيرات، ويسرق أموال الدولة، ويهين العراقي، ويستبدل بسجون طاغيته السابق سجونا أكثر رعبا من بيوت الأشباح.
العراقيون أصحاب واحدة من أعرق وأهم وأقدم حضارات الدنيا وأكثرها ثراء يقررون الانتحار بوطنهم، ويقعون كلهم بدون استثناء في فخ لا يخطئه أحمق أو ساذج أو متخلف ذهني، فتظن كل فئة أنها الناجية من النار، وأنها الأكثر عطشا لدجلة والفرات، وأنها الضمان الوحيد لعراق المستقبل، والحقيقة أنهم جميعا الضمانالمشترك لجعل العراق كله، من بَصّرَته إلى سليمانيته، مدافن جماعية لن يعرف دود الأرض وهو يأكل أجسادها أنها كانت شيعية أو سُنّية أو كردية أو تركمانية أو ارهابية أو مناضلة.
العراقيون فقدوا رؤوسهم قبل أن يعدوا لأنفسهم وطنا في مقبرة.
بعد قليل ستنفجر سيارة أمام مستشفى، أو في وجوه الخارجين من صلاة الجمعة، أو في جسد طفل في السوق يجلس بجوار أمه يبيعان ما يسد رمق أفراد الأسرة ليوم واحد.
وصل أعضاء الحكومة في حماية أمريكية للحديث عن الديمقراطية، ولكن لا أحد منهم يهمس في أذن الآخر وهم يتناولون طعام الغداء في مأدبة فاخرة عن الاعتداءات الجنسية المهينة في أبو غريب على رجال كان الشرف عندهم قبل ملء المعدة، فسيد البيت الأبيض يتحدث عن المن والسلوى قريبا .. أي بعد أقل من مئتي عام.
المظلوم الوحيد فيما يحدث في العراق هو إبليس الذي لم يوسوس للعراقيين بأكثر مما يتبرعون به لاسعاده.
حالة من البلادة والغباء وإخصاء العقل وتخدير الضمير تعصف بالعراق فيتوهم كل عراقي أنه يعرف مَنْ هو المسؤول، ومن يفجر أجساد الأبرياء، ومن يتعاون مع الاحتلال، ومن يقاوم، ويستطيع أن يفرق بين المجرم والشريف!
سيقول عراقي يظن أنه أحد الناجين من عذاب الدنيا والآخرة أن كلماتي تلك تشهد بجهلي بما يحدث، وأنني لا أعرف المجرم الحقيقي، أو أعرف وأغض الطرف.
منذ أكثر من أربعة عقود قرأت قصيدة للجواهري فأدمعت عيناي على إثرها، ولعل مطلعها كان: طال شوقي للعراق فهل يدنو بعيد باشتياق. الآن وبعدما تابعت، وقرأت، وشاهدت، وسمعت على مدى السنين الماضية أستطيع أن أشهد مع إبليس إذا تبرأ يوم القيامة من كل العراقيين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم. أيها الشيطان الرجيم عليك بالرحيل فورا عن العراق فأنت أطهر وأشرف من أن توسوس لأحدهم!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)