مواضيع اليوم

إبرة في كومة قش 1ـ 4

يوسف رشيد

2012-03-19 12:02:14

0

  ( قصة ) (1) :

ـ 1 ـ 

 كان إلحاح عصام ، وطلبه أن يسافر معي إلى دمشق ، سببا رئيسيا ، جعلني أسافر بسيارتي ، قاطعا مسافة طويلة في الذهاب والإياب ، وكان من الممكن أن أوفر ذاك العناء ، لو سافرنا بالقطار أو بالحافلة ، أو بالطائرة ، حتى ..

فليس لي من العمل الكثير في دمشق ، وتكفيني سويعات أقضيها في اجتماع عمل قبل الظهر ، وسأعود بعدها فورا .. 

وقد أفضى لي عصام ، بأنه يريد أن نسافر بسيارتي ، كي تساعدنا على البحث عن " لبنى " ..

سألته : من تكون لبنى هذه يا عصام ؟

لم يجبني وقتها عن سؤالي ، لكنه قال : سيكون لنا متسع من الوقت ونحن في الطريق ، وسأحكي لك بالتفصيل الممل ..

قلت : لا أريد مفاجآت يا عصام .. خبرني شيئا الآن ..

 

قال : انقطعت أخبارها عني بعد عاشر رسالة منها .. ولا أعرف سوى اسمها ونسبتها وعنوان المراسلة ..

وبعد أن قرأ ملامح وجهي ، أضاف : أتكفي هذه المعلومات للسؤال عنها في الجامعة ؟؟ أو ، لعلنا نتمكن من الحصول على عنوان سكنها من ملفها الشخصي في شؤون الطلاب ..

قلت وأنا أستدير عنه : لأن دمشق أكبر من قريتنا بقليل ، فإننا ـ وبسهولة فائقة ـ نستطيع أن نعثر على الإبرة في كومة القش الكبرى !!

استاء من سخريتي ، وأرغى وأزبد ، وغادر المكان ..

ولم أرغب في مزيد من استفزازه ، لكني ـ أمام حماسه واهتمامه وعصبيته ـ لم أضع العصي في عجلات المركبة ، كي لا يتهمني سلفا بتسفيه آرائه ، أو الاستخفاف بمشاعره ، للتهرب وتجنب مساعدته ..

وكنت حريصا أن أستمع منه لدواعي اهتمامه بـ " لبنى " ، مادام ليس بينهما سوى المراسلات البريدية .. وهو لم يحدثني عنها مسبقا على غير المألوف بيننا ..

ضحكت في سري وأنا أتذكر قول بشار بن برد ، الشاعر الكفيف :

" والأذن تعشق قبل العين أحيانا " ..

ومنذ أن ركبنا طريق الشام ، لم يكن يفعل شيئا سوى التدخين ، والاسترخاء على كرسيه إلى الوراء ، واستحضار حواراته معها ، كأنه في عيادة طبيب نفسي ..

وقد أذهلني بمقدرته على التسلسل السردي واستعراض الأحداث ، وإن كان يستعين أحيانا بقراءة مقاطع محددة من الرسائل ، حين يريد أن يكون دقيقا في إيصال الفكرة إلي .. وكأنه يوثق شيئا ما للتاريخ ..

في الحقيقة ، أسعدني ذلك ، وإن وجدتُ في طريقته شيئا من المبالغة في الاحتراس والتوثيق .. فالأمر بالنسبة لي واطئ السقف ، كون الحكاية مسدودة الأفق حتى الآن ، ولا أريد أن تكون أكثر من مجرد حكاية نتسلى بها ونحن في الطريق إلى الشام ..

وطالما سافرنا كثيرا معا .. وقطعنا مسافات ومسافات .. لكني لم أره على هذه الهيئة من الترقب والقلق والحيرة ، حتى كدت أتركه في إحدى استراحات الطريق وأمضي لشأني ..

فهو في كلامه عنها ، يوحي لك وكأنهما ( شرَقـَا صحن الزليطة معًا ) كما يقولون .. لكن الوقائع التي سمعتها تنفي ذلك .. وهيهات !! ..

 ............

 

قال عصام بعد أن اتخذ وضعيته المناسبة على المقعد بجانبي :

خذ مني ما سأرويه ، ولك أن تفعل به ما تشاء .. لكن ، وبالنتيجة : أريد أن أجد لبنى اليوم .. فأنا أعرف نواياك ، وجهدك في البحث عن سيناريوهات حياتية ، تجعل منها أساسا للتندر والقص .. ولك علي ألا أخفي عنك شيئا ، لا من الخوافي ولا من القوادم ..

صمتَ قليلا كأنه غصّ بدخان سيكارته ، ثم اعتدل ، وقال :

رغم أني لم أكن أنتظر وصول رسالة لي من أحد ، لكن سعادتي كانت كبيرة جدا بالرسالة الأولى التي وجدتها في صندوق بريدي الجديد ، ولم ينتقص من فرحتي أنها ليست موجهة لي ، وبدا ـ فيما بعد ـ أن مرسلتها " لبنى " لا تعلم بتخلي أختها عن صندوقها منذ فترة .. وهنا بداية حكايتي معها ..

أخذتُ الرسالة مدفوعا بفضول ساذج لقراءتها .. كانت عادية ، من أخت لأختها ، تطمئنها وتطمئن عنها .. ثم أعدت إرسالها إلى عنوان المرسِلة : كلية الاقتصاد والتجارة في جامعة دمشق ، معتذرا لصاحبتها عن قراءتي لها ..

 فأرسلتْ لي بتاريخ 13/06/1986 ، شاكرة صنيعي ، ومعتذرة عن جهلها بتخلي أختها عن الصندوق ..

وفي التفاتةٍ لبقةٍ منها ، ولكي تخفف عني عبء فضولي ، قالت : إنها في حالة مشابهة ، كانت ستفعل بالرسالة مثلما فعلت أنا .. وعلقتْ على عبارتي : ( كوننا شرقيين ) ، التي سوغتُ بها فضولي ، مستنكرة لصق تـُهَمِنا بالشرق ، وألا نجعل شرقيتنا مسوِّغا لتصرفاتنا الخارجة عن إرادتنا ، كالفضول مثلا ..

وقالت : إن العلم والعقل كفيلان بمساعدتنا على محاكمة مشاكلنا محاكمة عقلية ، ومحاولة حلها ، وبالتالي التغلب على ظروفنا الاجتماعية القاسية ، وإلا ، فالنسيان عزاؤنا ، لا الخضوع والاستسلام ..

في الحقيقة ، لم أكن أتوقع ردا كهذا ، بل ، لم أكن أتوقع ردا على الإطلاق .. أما أن يأتيني مثل هذا الرد الدسم ، فذاك ما دفعني للكتابة إليها من جديد ، لشعوري أنها حشرتني بين المطرقة والسندان ، وهو مكان لا يعجبني ، ولا أحسد نفسي عليه ..

 

ووصلتني رسالتها الثانية مؤرخة في 12/07/1986 ..

وقالت : إنها قررت الكتابة إلي ، رغم اعتراض صديقاتها ، لأنها وجدت مني تشجيعا غير مباشر لاستمرار تبادل الرسائل ، ولم تذكر لي شيئا عن اعتراضات صديقاتها .. ( لكني سألتها عن ذلك فيما بعد ، في ردي عليها ) ..

وأضافت شارحة سبب قرارها بمراسلتي قائلة : من الممتع بالنسبة لها أن تكتب ما يجول في خاطرها وتناقشه مع رجل على درجة من كذا وكذا وكذا والاحترام ..

لكنها ـ بعد أن استشفت من رسائلي أني سريع الغضب ـ اشترطت : " الصراحة التامة ، وبدون أن أغضب " .. وأنها لا تريد أن ترد على كلامي لمجرد الرد ، بل هي تود مناقشته حتى ولو كان رأيها غير صحيح ، المهم أن يكون مقنعا .. وتضيف : إذا وافقتَ على هذه الشروط ، فيمكنك متابعة قراءة رسالتي ..

طبعا هي تعرف أنني سأقرأ الرسالة سواء وافقت على الشروط أم لم أوافق .. لكني وافقت ضمنا ..

وحين أوغلتُ بالقراءة ، وجدتها (تفصفص) رسالتي بحِرفية الجزار الذي يسلخ جلد الشاة عن لحمها ..

قالت : تقول في رسالتك : إنك لم تتوقع رسالة " دسمة " مني ، ولم يكن في ذهنك أنني حقا من هواة كرة القدم وأنني أتابع مباريات كأس العالم .. هل السبب برأيك أنني فتاة ؟! إذا كان الأمر كذلك ، فهنا يكمن مفهوم " الشرق " ، وأتركُ هذا الأمر الآن ، لأن فهْمَنا للشرق يبقى نسبيا .. وأنا كثيرة المناقشة إلى حد يثير الملل أحيانا ، وكثيرة السؤال ، وأرغب في معرفة معظم الأمور .. لست فضولية .. لكن في رأسي أفكارا كثيرة وتساؤلات عن حياتنا القصيرة .. أستغرب ما يفعله الناس ببعضهم .. فليتذكروا دائما أن الموت يهمس باستمرار : " عِشْ حياتك ، فأنا قريب منك " ..

أقرأ الجرائد اليومية .. وأعشق فيروز .. وأحب كل أغنية تعبّر عن معنى ما .. أحب الرياضة وأهوى المطالعة وقراءة الشعر ، حتى إنني أقرأ قصص الأطفال أحيانا لأعرف ما الذي نقدمه لأطفالنا ..

عمري ثلاثة وعشرون عاما ، من مواليد 1963 .. وأعتقد جازمة ـ وهذه استعارة منكَ ـ أنني سبقتكَ في كثرة الكلام ، وأرجو رجاء حارا أن تتحلى برحابة الصدر والصبر .. وأكرر رجائي ـ يا سيدي ـ بقبول اعتذاري عما جاء في الرسالة ، ولك الحرية في أن تجيب عن تساؤلاتي ..

وقالت : أسلوبك ممتع ومشوق فعلا ، ولقد حاولت الكتابة مثلك ، ولكن بعد أن قرأت كتابتي أدركت فشلي ..

 

انتهت هنا رسالتها الثانية ، وبقي أن أخبرك أنها في الرسالتين السابقتين ، كانت تخاطبني : السيد عصام ..

 

في رسالتها الثالثة إلي  07/08/1986 ، كتبتْ في مقدمتها : إلى الصديق أبو غالب ..

 

هذا يعني أنها وافقت على طلبي بأن نكون أصدقاء ..

وبدأت رسالتها بالاعتذار عن التأخر في الرد ، فمسؤولياتها بعد سنوات من رحيل أمها ، حتـّمتْ عليها القيام بواجباتٍ لا يمكن أن يؤديَها غيرها ، وهذا ما يجعل وقتها ضيقا لا يسمح لها بكتابة رسالة تعادل ـ على الأقل ـ ما يصلها مني ..

وتقول : إنها من جديد ، ردت علي متجاهلة اعتراض صديقاتها ، اللواتي نصحْنها بعدم التورط ـ وهي المِكلامة ـ مع رجل مجهول لا تعرف عنه شيئا ، ولا تعرف نواياه ولا خلفياته ولا توجهاته ..

ثم سردت لي رأيهن قائلة : إن طيبة قلبها ، وسرعة ثقتها بالناس ، ونوع تفكيرها ، كل ذلك سيجلب لها أوجاعا ومشاكل هي بغنى عنها ، ولاسيما حين يتعلق الأمر بمراسلات مع مَن لا تربطها به أية صلة .. ووصفت لبنى ذلك بأنه : من باب النصح لها والحرص عليها .. ليس إلا .. لكنها مقتنعة بما تفعل ، ولن يؤثر رأيهن على موقفها مني .. 

وقالت : إنها موافقة على كل ما كتبته لها ، لأنها وجدت فيه تشابها كبيرا بما يجول في خاطرها ، لكنها تحتاج إلى قدرة التعبير عنها مثلي ، إلى درجة أن إحدى زميلاتها طلبت إعادة قراءة رسائلي لإعجابها بها ، فعلقت لبنى مازحة : أعتقد بأنني سأنسخ عدة نسخ من رسائلك وأبيعها ..

توقف عصام عن الكلام وهو يشعل سيكارته ، وبدا كأنه يريد مني تعليقا ما .. وحين لم أعلق ، قال لي بنزق : أرأيت كيف يتلقف الناس المثقفون آرائي ؟!

ابتسمت ، وقلت له : ادع ربك ألا نتأخر عن إنجاز أعمالنا ، وإلا سنضطر للمبيت في الشام ..

قال : وماذا وراءك ؟! وإن بتنا !! لن يتغير نظام الكون ..

قلت : لا بأس .. الأفضل أن نعود ، والأفضل أن تكمل كلامك .. فيجب أن أعرف كل شيء قبل أن نبدأ البحث عنها ..

قال : وكان الجزء الأكبر من رسالتها هذه ، محاضرة عن المرأة في سوريا ودورها ومكتسباتها في الحياة العامة والبيت ..

ومن هذا المنطلق ، تحدثت عن نفسها : بأنها لا تخشى على نفسها من كلمة " عانس " إذا أطلقت عليها .. لأنها تعيش تناقضا داخليا بين أن تخوض تجربة زواج ناجح يرتب عليها مسؤولية أن تكون ربة بيت ناجحة ، وهذا ما يتناقض مع ثقافتها وعلمها وصحتها النفسية ، وفي نفس الوقت ، هي لا تستطيع تخيل فارس أحلامها الذي سيخلصها من حالة الكبت الاجتماعي والشخصي .. وعليه : فهي تفضل العنوسة مع العلم والثقافة ، على زواج فاشل يحطمها ويحطم أولادها وأسرتها ، أو يتركها أسيرة المنزل الزوجي ..

كما أخبرتني أنها الثالثة بين أربع أخوات .. تزوجت الكبرى من شاب لبناني وتعيش معه في صيدا ، وانخطبت الثانية لأخيه .. وبقيت هي والصغرى ندى ، التي نالت الثانوية العامة هذا العام .. واستقالت لبنى من عملها في إحدى الشركات بعد رسوبها العام الماضي في السنة الثالثة ، نتيجة انهماكها في مسؤوليات البيت ورعاية أختها ندى التي تعاني شيئا من البدانة ، أثر على نفسيتها وصارت تميل للانعزال ، واهتزت ثقتها بنفسها ، ونتج عن ذلك بعض المتاعب مع المحيط الأسري والعائلي والاجتماعي ..

لكنها تقول : إنها الآن تجاوزت أصعب مراحل الأزمة ، وصارت تبحث عن عمل من جديد بعد تحسن أحوال وظروف أختها ..

وسألتني في ختام رسالتها : برأيك ، هل الإنسان مخير أو مسيّر ؟ وأضافت : إن صديقتها وصفتني بأني مغرور ، لكن لبنى دافعت عني قائلة : بل هي الثقة بالنفس وإخفاء الجوانب الشخصية ..

بالله عليكَ يا صديقي : أتراني كما قالت لبنى ، أم كما قالت صديقتها ؟!..

قهقهت وقلت : أنا لا أراك .. لكني سأدخل إلى سراقب ..

ما رأيك بهيطلية أبي أيمن ؟ ألا تريد أن تأكل دوبل هيطلية ؟ ..

 

ـ 2 ـ

 بعد أن تجَنـَّبَت الطريقُ الدولية المرورَ في سراقب ، صار الوصول إلى محل أبو أيمن عويصا .. لكن لذة مرطباته التي يقدمها ، تستحق مغامرة الدخول إليه ، وتستحق أن يتناول الزائر صحنين منها ..

بسرعةٍ ، أنهى عصام صحنه الأول ، وأشار لأحدهم بإحضار اثنين آخرين ..

لا أعرف كيف يستطيع أن يلتهم بوظة الهيطلية سريعا ، دون أن يتصدع رأسه كما يحصل لي !!..

وضع العامل صحنا ثانيا لكل منا .. وقبل أن ينتهي عصام من صحنه الثاني ، دفعت صحني أمامه ..

نظر إلي متسائلا ، فقلت له : لا حيلة لي معه في هذا الصباح ..

أشعل سيكارته مذ ركبنا السيارة ، واستلقى إلى الوراء .. لم يكترث بتنحنحي ، ولا بمحاولتي إخراجه عن صمته .. كأنه يريد أن يشعرني باستيائه .. لا بأس ، لكن صار بي شوق لسماع بقية الرسائل ..

انتظرت انتهاء سيكارته ، فانتهت ولم يتكلم ..

لزمتُ الصمت وتشاغلتُ بسماع المذياع .. فأغمض عينيه كأنه يريد النوم ..

أطفأتُ المذياع ، وفرملتُ بقوةٍ نوعا ما ، فأدرك أني محتج على نومه ..

قال : ماذا تريد ؟

قلت : لا تنم على الأقل ..

قال : وعلى الأكثر ؟!

قلت : أكملْ كلامك .. دعنا نتسلَّ ..

قال : إذا كان كلامي لمجرد التسلية ، فيمكنني أن أسرد لك حكايات أخرى تسليك من هنا للمريخ ..

نظرت إليه كأني أعتذر ، فأشاح عني ..

قلت له : كلي آذان مصغية ..

 

اعتدل قليلا ، واستخرج من حقيبته مظروفا ، استل أوراقا منه .. تنهد ، ثم قال :

هذه رسالتها الرابعة ، مؤرخة في 23/08/1986 .. 

وقد عبرتْ فيها ـ بعد الأسف المعتاد عن التأخر في الرد ـ عن غضب إحدى صديقاتها الشديد من كتابتي عنها ، لأني وصفتها بالسطحية وبعدم تقليب الأمور ومحاكمتها بما يجب من الوعي والنضج .. ولأنها تتدخل بما لا يعنيها محاولة فرض آرائها على صديقتها ..

لكن لبنى تقول : ليزعل من يزعل أنا لن أتوقف عن مراسلتك ..

وحين قرأتُ رسالتها هذه لأول مرة ، انتابني عجب من كلام لم أرَ له مناسبة ، وجاء في الترتيب مباشرة بعد الكلام الذي سردته لك .. لذلك ، لا تعجب ـ مثلي ـ من سماعه الآن .. ستعرف مناسبته فيما بعد ..

قالت لبنى ، وبدون مقدمات :

الشاب عموما ، مسكين وضعيف ، يتخفى وراء الدين والعادات ، ثم أتى القانون لحمايته ، ولإثبات تفوقه على الفتاة التي لا يفضلها بشيء ..

بينما مجتمعنا ، مجتمع امرأة ، وليس مجتمع رجل ..

فمعظم القرارات التي تتخذ في المنزل ـ وخاصة المتعلقة بشؤون الأسرة ، والهامة منها ـ يتحرك بها لسان الرجل ، لكن المحرك الأساسي لها هو المرأة التي تكون قد أصدرت القرار ، إما من المطبخ أو من المهجع ..

وتقول : أعجبتها كتابتي عن " التقدمية " وعدّتها الأجمل في رسالتي إليها ..

ثم ، وعن مطالعاتها واهتماماتها ، أجابتني : أنا أبحث الآن عن كتاب يتحدث عن المافيا ، لأعرف شيئا عنها ، كما أني شغوفة جدا بالمواضيع السياسية والتاريخية ..

وتهتم بالقراءة كثيرا ، وتعشق المسرح ، وتجمع العملات القديمة والطوابع .. وتحب السباحة والمشي باكرا وتحت المطر ..

تجيد لعب الشطرنج .. وتلعب التنس مرتين أسبوعيا ..

توقف عصام ، واستلقى كأنه تعِبٌ من شيء ما ..

قلت له : ما هذه الصديقة يا عصام ؟! أيعقل أن تكون صادقة في كل ما تقول ؟! أي فتاة تستطيع أن تكون كل تلك الفتيات ؟! ألا ترى معي أنها سوبرمان في كل شيء ؟! كيف استطاعت أن تهتم بكل تلك الاهتمامات ؟! من المافيا إلى السياسة ، إلى المطالعة والشعر والمسرح والفلسفة والتفلسف والعملات والطوابع ، إلى الرياضة والشطرنج والتنس والسباحة إلى الدراسة والعمل والصداقة والحب ، إلى البيت ومسؤولياته وأختها ؟!

أنا لا أستطيع القيام بربع تلك الأشياء .. هل تستطيع ذلك أنت ؟! إنها تبالغ كثيرا يا عصام ، ووجدَتْ مَن يُصغي إليها ..

صاح عصام : يا أخي أنا لم أجبرْكَ على الإصغاء .. انتهينا .. قف هنا .. سأنزل وأعود إلى حلب ، وسآخذ رأيك هذا على محمل الجد : لن أذهب إلى الشام ، ولن أبحث عنها .. لو سمحتَ ، قف سأنزل ..

طبعا لم أقف ، ولم يكن سهلا " استعادة النظام " ـ كما يقال في اللغة الكومبيوترية ـ بعد ذاك التوتر ..

المهم .. تمت السيطرة على الموقف ، وتجاوزناه مع المتابعة الحثيثة مني ..

..............

قالت مجيبة على سؤالي عن أحوال أسرتها :

وراح يقرأ : لي أخوان من أبي وأخت ، هي التي تسكن في حلب ..

أبي أكبر من أمي بثلاثين سنة ، وهو حي ، يسكن في بلد عربي آخر ..

كان يحب أمي كثيرا إلى درجة أنه تعذب بحبه لها ، وتعذبت أسرتنا كلها بعد أن كثرت مشاجراتهما ، فانهارت أمي ، ورحل أبي وأولاده ، وتركنا صغيراتٍ وحيداتٍ مع أمنا المريضة ..

أبي الآن في الثمانين ، ولم نره منذ ثماني سنوات .. ومنذ ثلاث سنوات ماتت أمي بعد سنوات من المرض واعتزال الناس ، لأنهم كانوا قساة جدا عليها كما تقول .. وكانت تحمل في قلبها من الحب والطيبة ما يكفي البشر جميعا ..

أنا الآن مشتاقة إليهما كثيرا ، وأفتقدهما كثيرا ..

وإخوتي من أبي لم نرهم منذ سنين ..

صمدنا نحن البنات الأربع ، وصبرنا ، ولم تقصّر أختنا الكبرى في رعايتنا حتى تزوجت ، فبتنا أنا والصغرى ندى ، كابنتين لأختنا الأكبر رندة ، حيث عوضتنا عن كل شيء في غياب والديْنا ..

رندة عظيمة بحق .. تتمتع بشخصية قوية وهادئة .. تصرفاتها دائما متزنة ومحسوبة ، وقدّمت تضحيات ومساعدات من أجلي لن أنساها ما حييت ..

واعتمدنا على أنفسنا في كثير من الأمور ..

هل تتصور أنني أنا ورندة قمنا بتدهين الصالون على خير ما يرام ؟؟!!

ولمَ لا ؟! كان ذلك ضروريا جدا قبل أيام من حفل خطوبتها .. 

إن أكثر ما يعذبني حاليا يا صديقي ، أن علاقتي بـ ندى ليست حميمة .. فقد ازدادت انطوائيتها بعد خطوبة رندة ، كونها متعلقة بها إلى حد كبير ، ولا أعرف كيف سأستطيع تجاوز هذه المشكلة بعد زواج رندة ..

ندى لا تثق بي كوني أكبر منها بثلاث سنوات فقط ، فهي لا تجدني أهلا لتحمل المسؤولية وحمايتها .. ولا تشعر أني مصدر عاطفي هامّ لها ، بل ترى أني أنا أحتاج لكل ذلك مثلها وأكثر ، وأن فاقد الشيء لا يعطيه ..

وما زالت حساسيتها الفائقة تعذبني وتقض علي كل أوقاتي ..

وهي في قلبي وعقلي دوما .. وحين أزور الصديقات أو الأقارب تكون معي ..

ولي صداقات من الجنسين ، وقد استطعنا اكتساب احترام الجميع وثقتهم .. وصادفت شبانا حاولوا التقرب مني ، بيد أني كنت أهرب لأن صدى كلمات رندة يتردد في عقلي ..

وقد لقبني أصدقائي وصديقاتي بـ ( الموناليزا ) ، لأنني دائما مبتسمة ، وحزن العالم يطل من عيني حسب قولهم ..

أنا لا أشعر بالفراغ أبدا ، بل على العكس تماما .. فإن الأربع والعشرين ساعة لا تكفيني لأقوم بكل ما عليّ ..

وكما قلت سابقا ، أنا أؤمن بوجود الخير في داخل كل إنسان إلى جانب الشر .. لكنني أحيانا أنصدم ، فأقرر أن أكون أنانية حسب القانون الساري في علاقاتنا الاجتماعية هذه الأيام ..

في النهاية .. ليس هناك مطلق .. وأنا لا أطلب ثوابا أو شكرا من أحد .. يكفيني أن أنام مرتاحة البال والضمير ..

لا أحب الكذب ولا أمارسه ، ولا أتقنه .. وثقة رندة بي حمّلتني مسؤوليات مضاعفة ..

بعد الثانوية العامة ، التحقتْ ندى بمعهد الآثار والمتاحف .. لكني لا أدري ماذا ستتخرج منه ، مسلّة أثرية مثلا ؟!

أخوالي يزوروننا ويساعدوننا عند المقتضى .. وقد أدركوا أننا صرنا فوق سن الوصاية ..

ذهبتُ في رحلة إلى معلولا .. وكنت سعيدة جدا لولا مصارحة أحدهم لي بحبه ، وبأنه يريد الزواج والهجرة إلى أستراليا .. هو طبيب أسنان وشقيق صديقتي ، وأنا أحبه أيضا ، لكنني قلت له : لا .. فغضب الجميع مني ، وأنا مصرّة ألا أترك ندى لتعيش في غير بيتها ( عند أخوالي مثلا ) ..

إحدى صديقاتي قالت لي : ممَّ تخافين وأنت بلا أم ولا أب ؟!

قلت : أخاف من نفسي ، وأخاف على نفسي .. وأنا لن أخون واجبي وثقة أختي رندة ولو على حساب قلبي ..

لست متشائمة إطلاقا .. ولكنني دائما أتذكر همسات الموت ، وخوفي من الشيخوخة ، وأتمنى أن أموت وأنا في قوتي ..

بعد أن استلمتُ رسالتكَ ، وجدتُ نفسي ناجحة في إحدى مواد السنة الرابعة ..

أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك .. لكنني طامعة في رحابة صدرك ..

رسائلك صارت أكثر تداولا ، وكثر محبوك وقراؤك ومنتقدوك بعد انتشارها كالمتوالية الهندسية ، وحتى بين صديقات رندة ، وإحداهن نسختْ معظم فقراتها ..   

 

لم يلتقط أنفاسه لأن تدخينه متواصل ، ولم أعترض حين استل أوراق الرسالة التالية ، وراح يكمل بلا توقف ..

 

الرسالة الخامسة ـ 09/09/1986

 

فيما مضى ، كنت لا أقوى على الاعتذار من أحد .. لكن رندة والأيام علمتاني أن الاعتذار شجاعة لا يقوى عليها الجميع .. خاصة حين أكون على خطأ ، كما أنا عليه الآن ، فأعتذر بروح رياضية ..

وكنت لا أود أن تكون أولى كلماتي اعتذارا عن التأخر في الرد ، بما يتنافى مع حبي الشديد للدقة في التزاماتي ..

لكن ، صدقني يا صديقي ، لقد تأخرتُ في استلام رسالتك ، لغيابي عن الكلية ، وسارعت فور استلامها للرد عليك ، وأنا آسفة جدا ، وأعلم أنك ستقبل اعتذاري ، لأنكَ ـ وربي ـ رحب الصدر وواسعه ..

وأعتقد أن المقدمة في رسائلي ستكون واحدة ، وهي الاعتذار دوما ..

وبعد يا صديقي .. فآخر ما كنت أتصوره ، أن أكون كاتبة أو قاصة .. إذ سبق أن كتبت بعض الخواطر ، لكني استبقيتها لنفسي .. ولم يطلع عليها أحد ..

ولم أعد أتذكر مضمون رسالتي السابقة ، وحاولتُ أن أتذكر شيئا من سردها بعد أن قرأتُ توصيفكَ لها ، ومع ذلك ، أستبعد أن أكون " قاصة " كما قلت ..

اليوم ، حضرتُ أمسية شعرية للشاعر اليمني الكفيف " عبد الله البردوني " في المركز الثقافي ..

وقبل ذهابي للأمسية ، اشتريت ديوانا له ، وقرأته ، وقرأت ما نشرتْ عنه الصحفُ ، لكني ذهبت وحيدة إلى الأمسية بعد أن رفض الجميع الذهاب معي بذريعة " عدم معرفتهم بشعره " ..

هناك ـ يا صديقي ـ كنت سعيدة جدا جدا .. فالشاعر البردوني على درجة هائلة من الذكاء ، يصدق معه القول : كل ذي عاهة جبار .. 

فهو يحفظ جميع قصائده غيبا .. وكنت أحاول أن أسجن في ذاكرتي كل كلمة تقال ، وأحسست أني تقدمت خطوة على طريق " الشاعرية " ..

أيرضيك هذا يا صديقي ؟؟

حضر الأمسية وعقب عليها الكاتب شوقي بغدادي الذي أصر على أنه : بانتهاء الشعر العمودي ، يموت الشعر الجيد ..

أما أنا فكدت أقول له : لا يهمنا إذا كان الشعر عموديا أو غير ذلك ، لأنه في النهاية أسلوب وشكل .. المهم : هو الكلمة الصادقة التي تهزنا من الأعماق ، وتجعلنا نصحو من سباتنا ، لنرى ما يراه هذا المبدع الكفيف ..

لكنني لم أقل ذلك .. ولست بآسفة بمقدار انزعاجي من صديقتي فدوى التي أذهب إليها يوميا لمساعدتها في تعزيل وتوضيب البيت قبيل عودة أمها من السفر ، ولم تشأ أن تذهب معي إلى الأمسية ..

وصحيح أن رندة مستاءة مني لغيابي الطويل اليوم عن البيت بسبب ذلك ، وصحيح أني منزعجة من فدوى ، لكني لن أتوانى عن تقديم ما أستطيع في سبيل الصداقة .. وهذا مبدأ لا يمكن أن أحيد عنه ..

أما وقد سألتني عن حبي .. آآآآآه يا حبي .. ماذا أقول لك يا صديقي العزيز ؟؟

إنه حديث انتهى ، وليس له بقية .. سأحاول نسيانه في غمرة الأيام ، وهذا أفضل .. لأن الشاب يريد أن نتزوج بأقصى سرعة .. فمن سيبقى لـ " ندى " ؟!

على كل حال ، ربما هذه فرصة لي ، وربما يأتي غيرها ، وريما لن يأتي .. فللجحيم .. لا فرق عندي ..

فالزواج الناجح لا تتوفر عوامله حاليا .. ولا أستطيع تقبل احتمال النجاح أو الفشل فيه ..

وفي الحقيقة : أنا أخاف من الزواج ، ولا أحبه .. إن مفهومه ومجرياته يؤديان إلى القيد والعبودية .. وسأترك أمره لحينه .. أما الآن ، فلا .. ولا أريد مناقشة أو تفكيرا فيه ..

أنا أعي أن في كلامي تناقضا .. ولأني اعتدت على الوضوح ، فكيف أقول : الآن ، لا ، وأترك مجالا للغد لأقول : نعم ؟!

أهي علاقة مؤقتة تنتهي بالزواج ؟!

يريدون مني أن يبقى حبنا سرا ..

وأنا لا أستطيع أن أعيش حياة سرية لثلاث سنوات على الأقل ، بانتظار تغيّر مجموعةٍ من الظروف المعيقة ..

كما أني لا أستطيع إعلانه حاليا ..

فقلت لهم : لن أهدم ما بنيناه من ودّ وصداقة طوال هذه السنين ، من أجل عاطفة تغلب على العقل الذي أحاول أن يكون دائما مرشدي ودليلي ..

ولا تزال محاولات الشاب مستمرة ، وأنا مشفقة عليه .. لكنه سينسى .. وفي النهاية : بعض من العذاب لا بد منه لكلينا ...

أنا مضطرة للعمل معلمة في مدرسة خاصة بدلا من أختي رندة .. وهو عمل رائع  وأحبه كثيرا ، لكني لا أفضّل ممارسته لأنه يسبب لي تعبا نفسيا وجسميا ، وقد سبق أن جربته في نفس المدرسة .. وأذكر أنني كنت في معظم الأحيان ، أعود إلى المنزل بلا نقود ، لأنني أشتري للأطفال الذين لا يكون معهم ساندويتش ولا نقود ..

فتعلق عليّ رندة : أصبحت عائلتنا كبيرة .. أتمنى أن ترزقي بأطفال ..

أنا ـ يا صديقي ـ شديدة الإخلاص في عملي ، فكيف الحال إذا كنت أتعامل مع أطفال أحببتهم دائما ؟!..

سأقوم بإعطاء بعض الدروس الخصوصية ، حتى أستطيع أن أحافظ على مستوى معيشتنا الجيد ، ولكي تبقى ندى مرتاحة ، متفرغة للدراسة وغير قلقة ، فلا أحرمها من شيء ، وأنا سأحاول التخرج هذا العام ..

تريدني أن أزور حلب ؟! وزيارتك ؟!..

ألا ترى معي أن طلبك صعب قليلا ، وأن زيارتك لدمشق أسهل بكثير ؟!.

ثم ، لماذا هذا الاندفاع والرغبة في رؤيتي ؟!.

اطمئن يا صديقي .. فأنا لست دميمة أبدا ..

وأرجو أن تدع لي المبادرة في طلب بعض الأشياء .. ولن أتردد في طلب أي شيء حين أجد نفسي مدفوعة لمعرفته .. فحين أرغب بلقائك ، أو برؤية صورة لك أو بمعرفة رقم هاتفك ، تأكد أنني أنا سأطلب ذلك منك .. ولن أنتظر مبادرتك .. فتلك من شأنك .. ومبادرتي أنا من شأني أنا ..

ولو بادرتَ ـ مثلا ـ بإرسال صورتك دون أن أطلبها ، فسيسعدني ذلك ، لأنك صديقي ، يا صديقي ..

وصوري تشبهني تماما .. وجهي بيضوي ، وعيناي سوداوان ، وأنفي ليس مدببا .. وبشرتي سمراء فاتحة .. وفي قامتي تناسق مقبول .. 

في الصباح ، حين أذهب للتسوق ، أرتدي الجينز وحذاء رياضيا ، وأسرع في مشيتي ، وأعقد ما بين حاجبي .. وأختلف كثيرا عنه في المساء ، حسب الوجهة والمكان والأشخاص .. لكني أعتني بمظهري أكثر .. ( نبقى إناثا ) ..

وعلى العموم ، ملابسي بسيطة فعلا ، وغالبا ما توافيني بها أختي من لبنان .. وهي تناسب ذوقي بساطة وأناقة وألوانا ..

محفظة يدي كبيرة ، وفيها الكثير من الأوراق والصور ، وزجاجة كولونيا ، وتذاكر لحافلة النقل ، وبعض المناديل الورقية ونقود حسب المتوفر ..

أنا وندى نشكرك لتهنئتها بالنجاح ..

مشكلة ندى ـ يا صديقي ـ أنها بدينة قليلا ، ولكن ، بتناسق .. ووجهها لا يخلو من الجمال والنعومة ، بل هي أحلى مني ( إذا افترضنا أنني حلوة ) .. ونجد صعوبة في اختيار ملابسها ، لعدم التناسب بين سنها وجسمها ..

لذلك ، فإن حساسيتها زائدة ، وردّ فعلها عنيف تجاه القريب ، وتلجأ للانطوائية والبكاء مع الغريب .. أحتاج لوقت طويل حتى أندمج معها .. إنني أجاهد في سبيل ذلك فعلا ، لأنها صعبة المزاج بالرغم من أنها مرحة وطيبة في حالات صفائها ..

جميع صديقاتي يقرأن رسائلك .. ولهن آراء مختلفة ..

ورندة ، تركت لي مسؤولية مراسلتي لك : وإن كانت ترى أنها قد تؤدي إلى متاعب مستقبلية ..

وأرجو ألا تطلب مني مزيدا من الشرح حول رأيها ..

يقولون : إن كلام الليل يمحوه النهار .. وبما أنني أكتب لك رسالتي ليلا ، أخشى أن تصلك بيضاء بلا كلمات .. وسيكون ممتعا أن تتخيل ماذا كنتُ سأكتبُ لك ..

أعرف أن رسالتي فوضوية كغرفتي .. لكني لن أعيد ترتيبها لأن الساعة الآن الثالثة ليلا ، وأشعر بالنعاس والإنهاك .. وعليك أن تتحملني يا صديقي العزيز .. وأرجو أن تتحلى بالصبر وتتخلى عن عصبيتك الواضحة تماما بين سطورك ..

صديقتي فدوى ترسل إليك بسلامها وتحيتها ، لكنها لا تريد الآن الكتابة إليك ، ولا تستغربْ إذا وصلتكَ رسالة منها فيما بعد .. وتقول : هي لن تدع لك مجالا للكشف عن بواطنها ..

 

رمى عصام الأوراق جانبا ، وطلب أن نقف في استراحة مناسبة ، يريد قهوة ..

قلت له : تكرم عيونك .. تستاهل أحلى قهوة ..

 

ـ 3 ـ

" رُبَّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد " ..

كان هذا هو حالنا ، حيث بدا عصام هادئا ونحن نحتسي قهوتنا ، فيما أعاد ترتيب أوراق الرسائل ، وغاصت عيناه بين السطور كأنه يستذكرها ..

سألته : ما رأيك أن نأكل شيئا ؟

قال : أنا لا أريد ، ولا أستطيع ..

طلبت فطائرَ بالجبن وشايًا ..

قلت له : أسمِعْني شيئا مما تقرأ ..

قال : إن للقراءة طقسًا لا تتوفر شروطه في هذا المكان ..

كان يجلس قبالتي وظهره للباب الرئيسي ، حين توقفت حافلة متوسطة ، نزل منها مجموعة من الشبان والشابات ، في مرحلة عمْرية متقاربة ..

راقبتُ اجتماعا سريعا لهم قبل الدخول ، متحلقين حول ثلاثة منهم ، فيما ظل عصام سارحا بين سطور لبنى ..

أعادوا بأنفسهم ترتيب الطاولات ، فجعلوها على شكل قوس ، وجلسوا حولها ، باستثناء شاب وفتاة انفردا قربهم ..

ضجّ المكان بأصواتهم ، وترطبَ الجوُّ بالأصوات الأنثوية ذات النكهة الشآمية اللطيفة ..

وحيث جلسوا ، صار جلهم ورائي ، فاعتدلتُ لتوسيع زاوية الرؤية ، ولذنا بالصمت أنا وعصام على وقع موسيقا الضجيج الصاخبة ..

شاب وفتاتان ـ هم نفس الثلاثة الذين تحلقوا حولهم قبل الدخول ـ جالوا مستمزجين آراء الآخرين فيما يرغبون من طعام وشراب ، ثم ذهب الثلاثة إلى البوفيه وأطالوا الوقوف والأخذ والرد ..

لم ألحظ انعكاسا ذا أهمية في وجه عصام .. كأن كل شيء عادي أو أقل .. وكنت أتوقع أن يعلق بشيءٍ ما على الفتاة والشاب اللذين انزويا يغردان خارج السرب ، لكنه لم يفعل ، بل قال حين سألته عن رأيه : لكلٍّ ظروفه ..

وحين سمعنا صوتا ينادي : لبنى .. لبنى .. سقطت الأوراق من يد عصام .. ولم أكن أقل منه مفاجأة ..

تحركت عيوننا كالرادار النشط باتجاه البوفيه .. التفتتْ إحداهما إلى مصدر الصوت ، وحركت يدها بإشارة استفهام ، ثم خطت باتجاهه ..

اغتنم عصام لحظات وجودها في المدى المجدي لعينيه ، متفرسا في وجهها وقوامها وثيابها ، كأنه يحاول أن يقارن بينها وبين الأوصاف التي وردت في الرسالة ..

ومع لحظات الاكتشاف ، ازدادت ملامحه ذهولا واندهاشا .. وتمنيتُ حقا ، أن تكون هذه هي لبنى التي سنبحث عنها في الشام ..

" أ يُعقل ؟! لِمَ لا !! ..

" كنت أتساءل حذِرا ومرتابا في إمكانية تحقق صدفة بهذا الحجم والنوع .. فليس لأي منا حظ يسعفه في لحظةٍ مفصليةٍ نادرةٍ كهذه ..

" لو ، لو تحققت ، ستوفر علينا كثيرا من الوقت والجهد والعناء المرتبط بكيفية الحصول على التفاصيل التي ستقودنا إلى حيث لبنى .. فأين ستكون ؟! .. ألله تعالى وحده يعلم ..

" ولو تحققت الآن ، لسَعِدَ الجميع ، وذهِلوا بالمفاجأة ، مادامت معظم صديقاتها يعرفن كل شيء عن مراسلاتها مع عصام ..

تحدثت لبنى مع الشاب الذي ناداها لدقائق ، وكأن جزءا من حديثهما يتعلق بالشخصين اللذين انزويا ، ثم عادت إلى البوفيه ..

كنت أتخيل وقع تحقق المفاجأة حين استفاق عصام مما هو فيه ، وسألني : ما رأيك أنت ؟

قلت : بمَ ؟

قال : أليست الأوصاف هنا ـ وأشار إلى الرسالة ـ متطابقة معها ؟

استجمعت قواي الذهنية مما كنت فيه ، ثم قلت : لو كان الأمر كذلك ، كان يجب أن تنتبه أنتَ لتطابقها معها قبل أن تسمع باسمها .. إن سماعك لاسمها دفعك للمقارنة ، وهذا غير كاف يا عصام ..

قال : صحيح .. وماذا لو كنا نمشي في الطريق ؟ هل كان علي أن أبحث عن تطابق أوصافها مع كلِّ من سأراهنَّ ؟! .. لكن قرينة الاسم صارت دليلا ودالـّة لا يمكن تجاوزها مع تطابق أوصافٍ ذكرتْها لبنى في رسائلها ..

ثم ، وهو يختلس النظر إليها ، قال : انظر يا أبا وائل إلى وجهها وعينيها وأنفها وشعرها وقامتها ولباسها .. إنها متطابقة .. إنها هي .. هي بشحمها ولحمها ..

قلت : ألا يمكن أن يكون ما كتبتْه عن نفسها مجرد وصف خيالي ، ليس إلا ؟!

اهتز غاضبا وصك أسنانه ، ولاذ بالصمت مرتشفا آخر ما تبقى في فنجانه .. وحين أراد وضعه على الطاولة ، سقط من يده ، فتناثرت بعض محتوياته اللزجة على الأوراق والطاولة ، والتفت الجميع صوبنا ، بينما أسرع عاملٌ ليزيل الآثار ..

تكهرب عصام أكثر .. فحمل مظروف إحدى الرسائل ، ومشى ـ يتصنع الهدوء ـ باتجاه البوفيه ..

وقف جانب لبنى منتظرا انتهاء العامل من حديثه معها ..

أقلقني تصرفه المفاجئ ..

هل سيسألها إن كانت هي صاحبة الرسالة ؟!

لكنه ما لبث أن عاد ، كمن نسي شيئا ، تاركا الظرف أمامها ..  

كان يحدثني وعيناه هناك ، مترقبا : هل ستنظر إلى الظرف ؟ هل ستقرأ الكتابة ؟ كيف سيكون رد فعلها ؟! ..

هل ستعتقد أنه نسي الظرف ، فتعيده إليه ؟! ..

لو كان الاسم المكتوب اسمها لانتفضت باتجاهنا بكل تأكيد ..

حاول أن يعطيَ فضولها فرصة أطول ليتأكد من أنها قرأت الكتابة جيدا .. وحين تأكد ، ولم تهتز من مكانها ، أسقط في يده ، ونهض باتجاه البوفيه كالمهزوم الهارب ، وهو يقول : هيا ..

همَمْتُ بالقول : ماذا لو كانت هي لبنى ، وقد عرفت الرسالة وعرفتك ، لكنها تجاهلتْ كل شيء لأسبابها الخاصة ؟!

لكني بلعت لساني ، فلم يكن عصام في وارد احتمال أكثر مما هو فيه ..

وفي السيارة ، قال معزيا نفسه : حظي ، وأعرفه ..

ثم ضحك ساخرا : كيف لي الظن بأن شيئا من هذا يمكن أن يتحقق لي بهذه السهولة ؟!

قلت : أسْمِعنا المعزوفة السادسة يا صديقي ، لعل فيها ما يهدئ روعك ..

 

 الرسالة السادسة 01/10/1986

 

قرأ عصام :

أمسكتُ القلم لأخط لك ، لكنني لم أدر ماذا سأكتب ..

نظرت حولي ، فتعلقت عيناي بلوحة على جدار غرفتي ، كتب عليها : اتق شرَّ مَن أحسنتَ إليه .. تساءلت :

كيف يمكننا اتقاءَ شر من أحسنا إليهم ؟! أيكون ذلك بدوام الإحسان إليهم أم بالحذر منهم ؟! ..

تذكرت مناسبة عيد ميلادي حين جاءتني إحدى صديقاتي بهذه اللوحة الصغيرة .. هي تعرف أني أكره هذه الأقوال وغيرها ، مثل : عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة .. والقناعة كنز لا يفنى ... 

أشعر أن هذه الأقوال وُضِعت خصيصًا لوَأدِ الطموح في نفس الإنسان ، ولجعله يبتعد عن المغامرة تحسّبا للفشل ..

بعدئذ ، انتقلت عيناي إلى صورة أمي .. أحسستُ بمشاعر متناقضة تتجاذبني تجاهها ، من حبي واشتياقي الشديدين لها ، إلى كرهي الشديد لضعفها ، وخوفي أن يصيبَني مصيرُها ..

بجانب صورة أمي رحمها الله ، عُلقت صورة شهيرة بالأبيض والأسود لجندي يُقتلُ في الحرب ، كتب في أعلاها :

لماذا ؟؟

why ??

ردّدتُ هذه الكلمة في أعماقي طويلا ، وحاولت إخراجها من داخلي لتصل لكل الناس ، لكنها بقيت صرخة مكتومة ..

ولطالما مثـّلتْ هذه الكلمة جزءًا من تفكيري ، حتى غدت مفتاحا لبوابات عقلي وسلوكي ..

على الجدار المقابل لسريري ، صورة قديمة للعائلة قبل الزلازل .. كانت وجوه الجميع مشرقة مبتسمة .. ابتهلت إلى الله أن تظل الابتسامة على وجوه إخوتي دائما ، حتى في أشد لحظات الحزن والكآبة ..

أما صورة ندى ، فقد ذكرتني بالموناليزا ، فابتسمت لها ، وقلت في نفسي :

كم أحب هذه الطفلة الكبيرة !!

هنا ، انتهت لحظات شرودي حين تذكرت ندى .. فقد نامت مبكرا ، وهي تشكو من ألم في يديها وقدميها ( روماتيزم ) ..

أسرعتُ إلى غرفتها .. غطيتها جيدا ، وعدت ، فوجدت ورقتي لا تزال بيضاء ..

ولأني لا أدري ما الذي سأكتبه إليك ، نقلت ـ وبصدق ـ ما جرى معي قبل شروعي في الكتابة ..

التحقت ندى بقسم اللغة الإنجليزية في الجامعة ، وبدأت تعمل معلمة بدلا عني ، وأنا سأعمل مؤقتا في مشروع طبي يديره خالي الطبيب ، ريثما أجد عملا يناسب دراستي في كلية الاقتصاد والتجارة ..

لي صديقة متزوجة في حلب ، جاءت إلى دمشق قبل أيام لزيارة أهلها .. اتصلتْ بي ، وكنتُ حريصة أن ألتقيها ، فثمة شيء يشدني إلى كل ما يتعلق بكلمة " حلب " .. لقد صارت تتقن اللهجة الحلبية ، وحدثتها عنك ، فدعتني لزيارتها .. ربما أذهب إذا سمحت الظروف ، فأزورها ، وأزور أختي .. وبالتأكيد ، سأتصل بك ..

تستغرب أختي رندة من تشعبات علاقتي بصديقاتي .. فهي تعرف الكثيرات منهن ، وترى أنه لا يوجد أي قاسم مشترك بين أي اثنتين منهن سوى علاقتهن بي .. فكيف أستطيع مصادقة جميع تلك المتناقضات ؟! ..

وبالفعل ، هن سبع صديقات ، كل واحدة منهن تعتقد أني الأقرب إليها ..

والطريف ، أن هؤلاء الصديقات مختلفات عن بعضهن اختلافا كبيرا ، فلم تتصادق أي اثنتين منهن .. بينما أجد أنا في كل واحدة توافقا مع جزء من شخصيتي ..

لكن ، تبقى صديقتي فدوى الأقرب إلى نفسي دائما ، ولو أن رعايتي الدائمة لها ، وخوفي عليها ، صارا بمثابة حق طبيعي لها ، فنسيَتْ أن الأنانية مقبرة الصداقة ..

هل سترسل لي صورتكَ مع الرسالة القادمة ؟؟ ..

 

أشعل عصام سيكارة مما قبلها ، وكذلك فعل بالرسالة التالية :

 

الرسالة السابعة ـ 18/11/1986

 

أعلم أن كلمة " آسفة " ربما لن تكون كافية للصفح عني ، ولكنك حين تعلم الأسباب ، فأنا واثقة بأنك ستسامحني ، وتغفر لي ..

باختصار : أمضيتُ عشرة أيام في صيدا لأن أختي كانت مريضة جدا ، وحين عدت ، وجدت ندى مريضة ومتعَبة أيضا من عملها كمعلمة ، فتبادلنا .. أنا عدت إلى المدرسة ، وهي أخذت مكاني عند خالي .. وعدت من جديد إلى دوامة لا تهدأ منذ الصباح حتى آخر رمق في الليل ، بين دوامي في الجامعة والمدرسة وإعطاء دروس خاصة واللوازم والأعباء والأعمال المنزلية ...

لقد توقفتُ ـ مكرَهة ـ عن مزاولة كل نشاطاتي واهتماماتي ، ومررتُ بفترة عصبية عصيبة جدا ، وانهرت تماما ، وعرف اليأس طريقا لقلبي .. مما انعكس علي ألمًا وصداعًا في رأسي يشبه الشقيقة ، فانطرحت ستة أيام في السرير ..

تحسنتُ بعدها جسميا ، لكنني ما أزال متعَبَة نفسيا .. وأشعر بالعجز التام عن الاستمرار في كل ما كنت فيه ..

قهرني الروتين القاسي والرتيب ، وجعلني ضعيفة وعاجزة .. وبدأت أدرك ما كانت تقوله ندى عني ..

حقا ، أنا الآن ، أفتقد الشيء الذي يجب علي أن أقدمه لندى .. حقا ، إن فاقد الشيء لا يعطيه ..

لم يعد لدي وقت حتى للتفكير بنفسي .. عندما يحين الليل أُهرَعُ إلى سريري منهكة مرهقة ، لأصحو باكرا ، فتتكرر يومياتي ..

ذهابي إلى الجامعة فقط هو الذي يذكرني بأنني لازلت شابة ولست عجوزا تنتظر مرور الأيام بسرعة حتى يأتيها الموت ..

كان لا بد من حلٍّ في الأيام العصيبة السابقة ..

نظمت وقتي قدر المستطاع ، مما سمح لي بالقيام بعملي وواجباتي ، وتفرغت قليلا للدراسة .: باتت الأمور الآن تحت السيطرة إلى حد كبير ، مؤملة في اضطراد تحسنها مع الوقت رويدا رويدا ..

أشعر أنني مكبلة بقيود اجتماعية تفرض علي العيش وكأني في الستين ..

مسؤوليتي تجاه نفسي ، وبالتالي ، تجاه المجتمع ، تتطلب مني حسابا دقيقا ودائما لكل خطواتي ..

عقلي لم يعد يحتمل ، وقلبي في نداء مستمر .. ربما يخرجني ـ من هذا الروتين ، ومن وحدتي ـ حبيبٌ .. لكنني أرفض أي شاب يود إقامة علاقة معي لمجرد إعجابه بشكلي الذي لا يدَ لي فيه ..

وذاتي ، هل هي ثانوية ؟! ..

لأول مرة يا صديقي الكبير ، أشعر بالضعف والانهيار ..

لقد حملت المسؤولية دون استعداد حقيقي لها ..

أشعر بأن أشياء كثيرة تنقصني ..

أعود للمنزل باكية حين أرى فتاة تمشي مع أمها أو حبيبها ..

وحين أسمع كلاما عن عطفِ وخوفِ أمٍّ على ابنتها ..

لا أدري .. أ أبكي نفسي أم أبكي أمي ؟! ..

حتى دموعي باتت محرّمة .. فعليّ عدم إظهارها أمام أختي ندى ولا أمام أي أحد آخر .. يجب أن أبدوَ قوية .. فالقوة قانون هذا العصر .. وقوتي ـ ولو كانت ظاهرية ـ قادرة إلى حد ما ، أن تحمي هذا البيت .. أعترف أني أحتاج إلى قوة جبارة لاستيعاب ندى ومزاجيتها وحساسيتها الفائقة ..

لقد اعتادت على نمطٍ حياتي معين .. فحين تطلب ، يجب أن تطاع .. حاولت إفهامها الفرق بين الواقع والممكن والمستحيل .. وأنها كبرت ونضجت ، فاتهمتني بالقسوة ..

أنا واثقة أنها ستفهم سبب تصرفاتي هذه ، حين تتحمل المسؤولية وتصطدم بالحياة ومشاكلها .. حينها ، لن تعاتبني ، بل ، قد تندم ..

وربما لا يكون كل هذا كثيرا على غيري .. لكنني أجده كثيرا كثيرا بالنسبة لي مقارنة مع غيري من الفتيات ..

أين راحتي ؟!

هل ستكون في بيت الزوجية ؟! ..

ذاك احتمال ضعيف ..

لذا ، لا زلت أرسم البسمة على شفتيّ لأبدوَ متفائلة .. فليس من عادتي البوح بمشاكلي .: لكن بعض الأصدقاء والصديقات لاحظوا ذلك واضحا في عيني ، كما قالوا ..

فأقنعتهم بأنني متفائلة وقوية ، وأنه مهما كانت الظروف قاسية ، فعلينا أن نكون أقوى منها ، وأن نواجهها ونتغلب عليها ..

وحين أخلو بنفسي يا صديقي ، أعرف أنني كاااااذبة ..

لو كنتَ مكاني ، ماذا ستقول لأصدقائك ؟؟ أ تقول الحقيقة أم تكذب كما فعلتُ أنا ؟؟

لا أنتظر جوابا منك ، لأنني أرى هذا الكذب ، واجبا وضرورة وفرض عين ..

لا عليك .. وإليك هذه البرقيات :

ـ ماتت منذ أيام جارةٌ لنا ، وبكاها ابنها كثيرا .. أ تدري أنني لم أحزن عليها ؟! ..

لقد صار الموت حدثا عاديا في حياتي ، وقدرا لا بد منه ..

ـ صارحت صديقتي فدوى بما جال في خاطري تجاهها .. فمن طبيعتي ألا أحقد على إنسان ، لكنني لا أنسى أبدا ..

حاليا تسير الأمور على ما يرام بيننا ..

ـ السنة الدراسية الرابعة ثقيلة وصعبة جدا ..

ـ صورتك كانت تقريبا كما تخيلتك ، بفارق واحد ، هو لون العينين ..

ـ لا يوجد ـ يا صديقي ـ إكراه فيما بيننا ، ليسمع أحدُنا الآخر .. فنحن قبلـْنا بصداقتنا ، وعلينا أن نفهمَ بُعْدَ هذه الكلمة وواجباتها تجاهنا ..

ـ عجبتُ لأمرك !! لماذا لم ترسلْ لي ـ طيلة المدة الفاصلة ـ رسالة تطمئن بها عليَّ ؟؟!! ..

مع تحيات صديقتك لبنى ..

 

وقبل أن ينتهي من قراءة تلك ، تجَهّزَ ليقرأ رسالة أخرى ، كمن يريد أن يرميَ الأثقال عن كتفيه دفعة واحدة ..

 

قال بلا توقف :

الرسالة الثامنة : 31/12/1986

 

قاطعته : أرجوك عصام .. توقف ..

نظر إليّ منتظرا تتمة لكلامي ، وكأنه أدرك ما يجول في رأسي ، فسألني : أ لديك ما ستقوله عن صورتي التي أرسلتها لها ؟؟ ..

وعندما لم أجبه ، أطرقَ ، ثم أدارَ وجهه عني ، وقال : معك حق ..

 

 ـ 4 ـ

  الرسالة الثامنة : 31/12/1986

 

 أخشى أن تكون قد ضقتَ ذرعًا بتأخري الدائم عن الرد ، ولكن ، صدّقني ليس باليد حيلة .. فقد كتبتُ لكَ مراتٍ خلال هذه الفترة ، ولكنني كنت دائما أعيد كتابتها حين أفقد الأمل بشراء طوابع البريد ، أعرف أنه سبب تافه ، لكنها مفقودة حاليا في محيطنا الجغرافي ، لذلك ، ذهبت إلى المركز الرئيسي واشتريت أكواما منها ..

إضافة لانشغالي الدائم بعد وصول أختيّ وآخرين من صيدا للإقامة عندنا مدة شهرين ..

لا جديد في روتين حياتي .. بل ، أنا أحاول أن أتناسى مشاكلي في غمرة أعمالي اليومية ، وقد تأقلمت معها تقريبا ، وإن كان التأقلم احتاجَ مني إلى ضغطٍ كبير على أعصابي .. فإلى متى سأحتمل قبل الانفجار ؟! ألله أعلم ..

لا أريد الخوض في التفاصيل التي مللتُ منها ، وأوجعتُ بها رأسَك ..

صدقني ، أشعر بالخجل من نفسي لتأخري ..

ولعل السبب الأهم من كل ذلك ، هو أختي ندى ..

فأنا أخفيتُ عنها رسالتك الأخيرة ، كونها بدأتْ بتقليدي في كل شيء .. فإذا كانت محاسن الصُّدَف ـ على ندرتها ـ خدمتني معك ، فكنتَ جديرا حقا بثقتي ، فإن ندى بدأت تتصرف بصبيانية ، وحجتها : مراسلتي لك ..

لا مانع لدي أن تصادق ندى شبابا في الجامعة ، لكن ، أن تنجرف بدافع طيب ، أو بعدم اهتمام ، فذلك شيء خطير .. لذلك ، حاولت إفهامها أنني انقطعت عن مراسلتك .. وبتّ في كل مرةٍ أكتبُ فيها إليك ، أشعر كأنني لصة ، وخائفة من شيء ما ..

عندما قرأت رسالتك الأخيرة ، شعرت ببعض الراحة .. وأحسست أنك تحاول تهدئتي ، فكانت كلماتك ذات أثر وصدى طيبيْن في نفسي .. فهناك شخص في هذا العالم قدّر عطائي .. أنا لا أطلب مقابلا ، لكنني أطلب عدلا ..

حاليا ، لا أشعر بالحزن ، ولا بالسعادة .. بل أعيش حياة اللامبالاة .. وهي مريحة جدا ..

أعلم أن رسالتي هذه ربما تكون غير واضحة تماما ، لكني أتمنى أن تكون قد فهمتني .. بل ، أنا واثقة من ذلك ..

أشعر بالتعب الآن .. وعذرا لهذه الرسالة القصيرة ، لكنها تؤدي المَرجوَّ منها بتهنئتك بالسنة الجديدة ، وهي ما سمحتْ به الظروف ..

وتبقى أفضل من لا شيء .. أليس كذلك يا صديقي ؟!

كل عام وأنت بخير  .. وبانتظار ردك ، أتمنى لك عاما جديدا سعيدا ..

 

الرسالة التاسعة : 07/01/1987

 

لا أدري كيف يمر الوقت سريعا ، فينتهي الأسبوع ، ثم الشهر .. وهكذا ، لأجد نفسي مقصِّرة في حقك .. لكنك تعلم حتما أن هذه الأيام صعبة بامتحاناتي وبأعباء الدروس الخصوصية التي زادت وتيرتها وصارت شبه يومية ، وبعملي في المدرسة ..

أريد أن أقول لك سلفا : لم تكن رسالتي السابقة مجرد " رفع عتب " كما أعتقد أنك ستفهمها .. لكنني أرسلتها لأقول لك : إنني بخير ، ولا زلت أعيش ، لتطمئن عني ، تلافيا لما حدث من اضطراب حول هذه المسألة سابقا ..

أنا ـ يا صديقي ـ لا يهمني أن تكون المراسلة بيننا واحدة بواحدة .. بل ، يكفينا شعورٌ بالاطمئنان المتبادَل عن أحوالنا ، وخاصة عند الاستشعار بالقلق .. ( هل أنت موافق ) ؟؟ ..

سأحدثك عن الأيام الأخيرة من العام المنصرم ..

تلقيت دعواتٍ كثيرة لقضاء سهرة ليلة رأس السنة الجديدة .. كان معظمها من الأهل ، وقليلها من الأصدقاء الممنوع الذهاب معهم في هكذا مناسبة .. المهم ، فضلت السهر وحيدة في البيت متذرعة بالدراسة والامتحانات ..

وفي تلك الليلة ، راودتني أفكارٌ غريبة ، واعتراني اكتئابٌ مرير ..

تساءلتُ : هل مشكلتي في أنني كل سنة أكبُرُ سنة ؟!

وأجبتُ : مشكلتي أنني أكبُرُ عشر سنوات في كل سنة .. 

بكيتُ ليلتها .. فقط بكيت وبكيت ، ولم أتحرَّ عن السبب ..

لكنني اليوم ـ وبعد تفكيري جديا بالذي يحصل معي يوم ميلادي ورأس السنة في كل عام ـ عرفت سببا ، بل ربما أسبابا لذلك .. منها : أن أكبُرَ عاما ، يعني أن أحمل مسؤولية أعوام ، وأن تضيع سنوات شبابي هباء بالرغم من جهودي المتواصلة لأتجنب تلك الكارثة .. وأن .. وأن .. 

أفكار كثيرة تتملكني الآن ، لا أريد أن أزعجك بها ( أعرف أن هذه الجملة لا تروقك ) .. لا بأس صديقي .. إني أخاف أن أكتب لك أكثر من ذلك ، لأني أتخيلك الآن عصبيا ومنرفزا ، وتكاد لا تطيق نفسك ..

لكن ، ما العمل إذا كان لديك صديقة مزعجة مثلي ؟! 

على كل حال ، كل عام وأنت بخير ، وأتمنى أن يأتي العام المقبل وقد حققت أمانيك كلها ..

وبعد صديقي العزيز ..

بعد اكتمال " مجلس العائلة " بوصول أختيّ والآخرين من صيدا كما أخبرتك ، اتخذ المجلس قراراتٍ كثيرة بشأننا أنا وندى .. أهم ما يمسّني منها : عدم ضرورة تخرجي هذا العام .. فالأولوية لندى كي تنجح ، وبعدها لكل حادث حديث ..

أعلم أن هذا ليس عدلا ..

لكن تضحيتي واجبة هنا ، فوافقت ، لأن نجاح ندى هو نجاح لي وأعتز به أيضا .. وندى الآن ليست مسؤولة عن أي شيء ، بل أنا المسؤولة حتى عن قيلولتها .. وبالرغم من ذلك ، أحاول أن أدرس لأتخلص من أكثر عددٍ من المواد ، وهذا يتم على حساب راحتي ونومي .. وكلما أنجزتُ أكثر ارتحتُ أكثر ، وأصبحتُ أكثرَ سعادة ، لأنني استطعت مواجهة نفسي على الأقل ، وأثبتُّ شيئا كنت خائفة منه ..

جميعهم يفكرون ، وتدخل لبنى في مدارات تفكيرهم .. ولكن ، من يفكر بماذا تريد لبنى ؟!..

كنت راغبة بالاتصال بك ، لكن هاتفنا ليس مباشرا ، والسنترال يوجع القلب بعدم الرد أو بطول انتظاره ..

أشعر الآن بالخوف من شيء ما .. ابتسامتي على وجهي ، وقلبي منقبض ومرتجف ..

ومع أنني أحزن عندما أكبر عاما ، لكنني أشعر بالسعادة لاقتراب هذا المجهول الغامض المسمى مستقبلا ، وهذا المنقذ المسمى موتا ..

أعرف أنهما شعوران متناقضان ، لأنه لا تفاؤل بوجود الموت ، ولكن سعادتي مصدرها شعوري بانتهاء الحياة يوما ما ..

العزيز أبو غالب ، هذا مجرد حديث عادي ، أو شرح لشعور يلازمني .. ولكن ، صدقني ، إنني بخير حتى الآن ..

أنتظر ردك سريعا .. راجية لك ولمن حولك كل الخير والتوفيق ..

 

الرسالة العاشرة والأخيرة (2): 21/03/1987

 

الصديق العزيز أبو غالب :

لقد كتبت لك كثيرا خلال مدة الانقطاع السابقة ، لكني مزقتها بعد أن وجدتها موجَّهَة لنفسي لا إليك ..

كنت أكتب أشياء كثيرة ربما لا أحب الاعتراف بها ، ولكن مجرد إخراجها ووضْعها على الورق ، كان يريحني ..

أرجوك يا صديقي ، أرجوك أن تتحملني ، وتوسع صدرك وتسمعني جيدا ، لأشرح لك ظروفي ..

أظنك تعرف تماما ، أن في نفس كل فتاة ، مخاوف معينة من الزواج .. ربما بسبب التربية ، أو بسبب البيئة ، أو بسبب تعرضها لحوادث معينة في صغرها ، فيتضخم الخوف داخلها مع مرور السنين ودخولها مرحلة الزواج ..

هذه المخاوف ظهرت عندي بدرجة كبيرة ، لكنني لم أواجهها إلا حين طلبني " رسميا " للزواج أخو صديقتي فدوى .. ( وكنت حدثتك عنه سابقا ) ..  

هو شاب هادئ ومثقف ، يدرس في الدبلوم بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة .. أعرفه منذ ستة أعوام ، لكنه كان في نظري الرجل الكبير المَهيب الذي يستحق الاحترام .. فهو وحيد ، وأكبر من أخواته الأربع ، ويعد بمثابة الأب لهن بعد وفاة أبيهم ..

عمره أربعة وثلاثون عاما .. ولديه مزايا كثيرة أخرى ..

أسرته تحبني ، وأبدت ترحيبا كبيرا بالحدث ..

وعندما حدثني ( سعد ) عن الموضوع ، صُدِمْتُ .. وألجمتني الدهشة ..

ففي الأساس ، علاقتي به جدِّيَّة ولا مزاح فيها ، ومبنية على الاحترام المتبادل .. لذا ، لم أفكر يوما بالارتباط به ..

( وكنت شرحت لك شيئا من ذلك ) ..   

والأكثر غرابة ودهشة بالنسبة لي ، أنه أثناء حديثه معي ، لم ألاحظ عليه أي تغيّر سيكولوجي أو بيولوجي أو سمّه ما شئت ، يوحي لي بأنه قريب مني ، قربَ رجلٍ من أنثى يطلب يدها ..

ولأسباب اجتماعية عائلية واهية ، لم يُترَكْ لي مجالٌ للتفكير .. فوضعوني تحت الأمر الواقع الذي يتمنونه لنا ، وأعلِنَتْ خطبتنا المبدئية لحين حضور عمه من الكويت ..

حاولت إفهامه أنني لا أرفضه كشخص ، بل أنا خائفة من الزواج إلى حد كبير لما تخزنه تلافيف ذاكرتي من صور مريعة ..

فأمي ـ بمتاعبها وآلامها ـ لا تفارق خيالي .. وكل امرأة أصادفها ، أجدها عانت من الآلام ما تتصدع له الجبال .. فلماذا أتفاءل ؟! وفيمَ ؟! ..

حدّثته بصراحة ، وطلبتُ منه مرارا طيَّ الموضوع كما حصل سابقا .. لكنه " ألحّ إصرارا ، وأصرَّ إلحاحا " ، وقال : يكفيه أنني لا أرفضه ، والباقي تتكفل بحله الأيام ..

الجميع حاولوا إقناعي ، لكن خوفي كان أكبر مني ، وكان يكبر كلما أحسست أنني بدأت أحبه ..

وهنا ، حاول سعد أن يجعلني معتادة على وجوده في حياتي ، من خلال ملازمتي في كثير من الزيارات والمشاوير ، فبتّ أخاف منه أكثر ..

إلحاحه المستمر ، وتلازمنا شبه الدائم ، رسّخا في أعماقي خوفا من ( الرجل ) إلى حد ( العقدة ) ، وتسبّبا لي بما يشبه الانهيار العصبي ، وحمّلاني مزيدا من الأثقال ..

وفوق ذلك ، ساءت الأحوال النفسية لأختي ندى ، لأن زواجي سيضع حدا لحياتنا المشتركة ، وستضطر للعيش في بيت خالتي ، فصارت مزاجيتها أكثر تقلبا .. فهي لا تطيقني ولا تطيق سماع اسم سعد حينا ، وأحيانا هي بمنتهى اللطف والمحبة ..

عندما أفقت من صدمتي ، عرفت أن مشكلتي صعبة جدا وعويصة ، وأن الظروف تقتضي مني إعادة رسم الخريطة وتحديد الأولويات ..

فذهبت إلى طبيب نفسي .. والطب النفسي في بلدنا " كفاك لا رواك " مع الأسف ..

الطبيب الأول حاول مضايقتي على قاعدة : " وَدَاوها بالتي كانت هي الداء" .. فازداد خوفي ، وتفاقمتْ مشكلتي ، وانعكس ذلك سلبا على علاقتنا أنا وسعد ، الذي تحمّل مني أشياء كثيرة ، ومع ذلك ، صرختُ في وجهه : لا أريدك .. لا أريدك .. وأسْمَعته كلماتٍ جارحة ، وصلت حدَّ الإهانة ، لكنه كان يدرك حجم معاناتي ، وما يدور في ذهني تماما .. 

الطبيب الثاني ، كان رائعا ، وبفضل إرشاداته التي أنفذها ، تجاوزتُ كثيرا من الصعوبات ، واستوعبني سعد ، وساهمتْ معاملته الرائعة لي في تحسن حالتي النفسية .. وما زلت أتردد على العيادة ..  

أنا في أوضاع لا أحسَدُ عليها الآن ، بعد أن " راحت السّكرة وجاءت الفكرة " .. فأنا موزعة بين ندى ، والمدرسة ، ودراستي ، وأعمال البيت ، وسعد وأهله ..

أين سأجد وقتا للتفكير ، ثم للراحة ؟!

وأنا ـ بصراحة ، وحتى الآن ـ لا أدري إن كنت أحب سعدا أو لا ..

لازلت في حالةٍ من القلق والحيرة .. أحيانا أحبه ، وأحيانا أتمنى موته .. وبين هاتين أتمزق وأتمرمر ..

هل أنتظرُ مرورَ الوقت ؟!

أنا أسأل نفسي صديقي العزيز ..

ولست في وارد إغراقك بمتاهاتي ..

لقد تقرّرَ موعد خطبتنا بعد شهرين ، وأنا ما زلت أتأرجح ..

نتائجي الدراسية سيئة جدا ، ولديّ في الفصل الثاني اثنتا عشرة مادة يستحيل معها تخرجي ، ( وهو ما ليس مُدرَجا في قانون احتمالاتي بالأساس ) ..

فقط ، ذلك هو ما يؤرقني ليل نهار ، حتى استوطن الأرق في كياني واستبدّ فيه بلا منازع ..

مرت علي ثلاث ليال لم أذق فيها طعم النوم ، وكنت أبكي حظي العاثر الذي ساقني ـ أيضا ـ إلى رجل وحيد سيضطرني أن أتساكن في بيتهم الكبير مع أمه وأخته ..

وأنا أعرف نفسي جيدا .. أنا متعِبَة أحيانا وحساسة جدا.. فإذا تحمّلني سعدٌ ، هل ستتحملني أمه الرائعة وفدوى الصديقة ؟! وهل سنبقى أنا وفدوى صديقتين ؟!

إن ذلك سيكون حتما على حسابي كليا .. فهل سأستطيع التحمل ؟! ألن تنعكس الظروف مزيدا من السوء علينا ؟!

ومع ذلك ، لم أتحملْ تقبل الفكرة من أساسها ..

فما العمل ؟!

ومرة أخرى ، أنا هنا ، أسأل نفسي يا صديقي ..  

أرجو ألا تقلق أو تنزعج إذا تأخرتْ رسائلي عنك ..

لك تحياتي .. وأرجو أن تكون كلماتي هذه كافية لتفسير وتوضيح ما مررتُ به ..

آسفة جدا عما سببته لك من إزعاج .. أتمنى لك التوفيق ..

                                                                 صديقتك لبنى ..  

..........................

استلقى عصام إلى الوراء وهو يزفر الجملة الأخيرة ، فعاجلته قبل أن تأخذه حالة الاستغراق في التأمل المؤلم :

يا عصام ، هناك كلمة واحدة تجنبَتْ لبنى أن تكتبها لك .. أتعرف ما هي ؟

كان سؤالي الصاعقَ الذي فجّر كوامنه ..

هز رأسه بالإيجاب ، وتهدج صدره مصارعا افتضاح النشيج ، وترغرغت عيناه ، فأخفى وجهه عني ..

وحين اقتربنا من مفرق معلولا ، تمهلت ، ثم انعطفت يمينا صوبها ، فانتفض ، لكنه لم يتكلم ..

تلاقت عيوننا في نظرة سريعة ، فأومأت له برأسي ويدي : " أنْ صبرك عليّ يا عصام ، سنقتفي أثر لبنى هنا أولا ، في معلولا "..

" لعلها عادت إلى المكان .. أو ، لعل طيفها لم يبرحْه مذ أفصح لها ( سعد ) عن حبه خلال رحلتهم .. فإذا ما رأينا طيفها هنا ، فإنه سيساعدنا على اللقاء بها هناك  في الشام ..

" يا عصام ، لا تقل إني نسيتُ ما قرأتَه لي .. لقد حفظتُه يا صديقي .. ولن أنساه .. بل ، إنه لا يُنسى " ......

معلولا ، لا تُوصَف .. لأنها إن وُصِفت ، تفقدْ سحرَها وأريجَها وعبقَ التاريخ والطبيعة والزمان و " حضرة الغياب " ..

توقفتُ في مكان من الطريق ، يشرف على الوادي الذي يضم بين جنباته قداساتٍ أزلية مازال طِيب زيتها يتوهج ويصّاعد من أيقونات الفرح والمحبة ، كأنه يبارك كرَمَ أناسها وعمائرَها وأزقتها والأدراجَ الجبلية نحو المنبع ..

 ترجّلنا .. وقفنا طويلا على الجرف متأمِّليْن وصامتيْن ..

ثم ، ابتسم عصام يغالب جحوظ عينيه كأنه يهزأ من شيءٍ ما ، واستدار وهو يردد بحشرجة وأسى ويأس :

" قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل

بسِقط اللوى بين الدَّخول فحَوْمَلِ " ..

اجتاحني عنفُ وعمقُ المأساة التي ضربتْ رأسَ عصام ، وتتبعتُ المَواطنَ الأخرى للصدمة ، في اهتزاز سيكارته بين الأصابع المرتجفة ، وفي سيلان عينيه فوق ابتسامة حزن قاتل ، فأجبته غاصًّا :

بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونه ، وأيقن أنّا لاحقانِ بقيصرا ..

فقلتُ : لا تبكِ عينُك فإننا ، نحاول مُلْكًا أو نموتَ فنُعذَرا

لاحقتْه كلماتي وهو يتعثر ويترنح باتجاه السيارة ، ولبثتُ وقتا بانتظار هدوء تفاعلات ما اجتاحنا ..

حين صرتُ بجانبه ، كان يمسح عينيه ونظارته ، فسألني :

ما رأيك أن نعود إلى حلب ؟!

لم يفاجئني سؤاله ، لكنه أدهشني ، فلم أنبس .. استدرت بالسيارة أقودها بتباطؤ ، وأنا أفكر في جوابٍ يناسبنا نحن الثلاثة ، حتى اقتربنا من مفترق الطريق ، فتباطأتُ أكثر لأراقب امتقاعَ وجهِ عصام وسيكارته وعينيه الحمراوين ..

بدا عصبيًا مرتعدًا متوترًا متحفزًا ..

ولم أره محزونا منكسرا متألما كما هو الآن .. فأدركت أنه يعني ما يقول ..

انعطفت يسارا .. وقلت :

" فما وجدتُ إلى لقياكِ مُنعَطَفًا

إلا إليكِ ، ولا ألفيتُ مُفتَرَقا " ..

إليكِ حلبي .. فـ " أنتِ قصْدُنا ، وإليكِ السبيل " ..

 

الإثنين ـ 19 ـ آذار ـ 2012

 

انتهت القصة .. 

ــــــــــــــــــــ

(1)       " تسهيلا على القارئ الكريم ، آثرت ضم الأجزاء السابقة إلى هذا الأخير " ..

(2)         ربع قرن مرّ على تاريخ الرسالة العاشرة .. 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !