قصة :
كان إلحاح عصام ، وطلبه أن يسافر معي إلى دمشق ، سببا رئيسيا ، جعلني أسافر بسيارتي ، قاطعا مسافة طويلة في الذهاب والإياب .. وكان من الممكن أن أوفر ذاك العناء ، لو سافرنا بالقطار أو بالحافلة ، أو بالطائرة ، حتى ..
فليس لي من العمل الكثير في دمشق ، وتكفيني سويعات أقضيها في اجتماع عمل قبل الظهر ، وسأعود بعدها فورا ..
وقد أفضى لي عصام ، بأنه يريد أن نسافر بسيارتي ، كي تساعدنا على البحث عن " لبنى " ..
سألته : من تكون لبنى هذه يا عصام ؟
لم يجبني وقتها عن سؤالي ، لكنه قال : سيكون لنا متسع من الوقت ونحن في الطريق ، وسأحكي لك بالتفصيل الممل ..
قلت : لا أريد مفاجآت يا عصام .. خبرني شيئا الآن ..
قال : انقطعت أخبارها عني بعد عاشر رسالة منها .. ولا أعرف سوى اسمها ونسبتها وعنوان المراسلة ..
وبعد أن قرأ ملامح وجهي ، أضاف : أتكفي هذه المعلومات للسؤال عنها في الجامعة ؟؟ أو ، لعلنا نتمكن من الحصول على عنوان سكنها من ملفها الشخصي في شؤون الطلاب ..
قلت وأنا أستدير عنه : لأن دمشق أكبر من قريتنا بقليل ، فإننا ـ وبسهولة فائقة ـ نستطيع أن نعثر على الإبرة في كومة القش الكبرى !!
استاء من سخريتي ، وأرغى وأزبد ، وغادر المكان ..
ولم أرغب في مزيد من استفزازه ، لكني ـ أمام حماسه واهتمامه وعصبيته ـ لم أضع العصي في عجلات المركبة ، كي لا يتهمني سلفا بتسفيه آرائه ، أو الاستخفاف بمشاعره ، للتهرب وتجنب مساعدته ..
وكنت حريصا أن أستمع منه لدواعي اهتمامه بـ " لبنى " ، مادام ليس بينهما سوى المراسلات البريدية .. وهو لم يحدثني عنها مسبقا على غير المألوف بيننا ..
ضحكت في سري وأنا أتذكر قول بشار بن برد ، الشاعر الكفيف :
" والأذن تعشق قبل العين أحيانا " ..
ومنذ أن ركبنا طريق الشام ، لم يكن يفعل شيئا سوى التدخين ، والاسترخاء على كرسيه إلى الوراء ، واستحضار حواراته معها ، كأنه في عيادة طبيب نفسي ..
وقد أذهلني بمقدرته على التسلسل السردي واستعراض الأحداث ، وإن كان يستعين أحيانا بقراءة مقاطع محددة من الرسائل ، حين يريد أن يكون دقيقا في إيصال الفكرة إلي .. وكأنه يوثق شيئا ما للتاريخ ..
في الحقيقة ، أسعدني ذلك ، وإن وجدتُ في طريقته شيئا من المبالغة في الاحتراس والتوثيق .. فالأمر بالنسبة لي واطئ السقف ، كون الحكاية مسدودة الأفق حتى الآن ، ولا أريد أن تكون أكثر من مجرد حكاية نتسلى بها ونحن في الطريق إلى الشام ..
وطالما سافرنا كثيرا معا .. وقطعنا مسافات ومسافات .. لكني لم أره على هذه الهيئة من الترقب والقلق والحيرة ، حتى كدت أتركه في إحدى استراحات الطريق وأمضي لشأني ..
فهو في كلامه عنها ، يوحي لك وكأنهما ( شرَقـَا صحن الزليطة معًا ) كما يقولون .. لكن الوقائع التي سمعتها تنفي ذلك .. وهيهات !! ..
............
قال عصام بعد أن اتخذ وضعيته المناسبة على المقعد بجانبي :
خذ مني ما سأرويه ، ولك أن تفعل به ما تشاء .. لكن ، وبالنتيجة : أريد أن أجد لبنى اليوم .. فأنا أعرف نواياك ، وجهدك في البحث عن سيناريوهات حياتية ، تجعل منها أساسا للتندر والقص .. ولك علي ألا أخفي عنك شيئا ، لا من الخوافي ولا من القوادم ..
صمتَ قليلا كأنه غصّ بدخان سيكارته ، ثم اعتدل ، وقال :
رغم أني لم أكن أنتظر وصول رسالة لي من أحد ، لكن سعادتي كانت كبيرة جدا بالرسالة الأولى التي وجدتها في صندوق بريدي الجديد ، ولم ينتقص من فرحتي أنها ليست موجهة لي ، وبدا ـ فيما بعد ـ أن مرسلتها " لبنى " لا تعلم بتخلي أختها عن صندوقها منذ فترة .. وهنا بداية حكايتي معها ..
أخذتُ الرسالة مدفوعا بفضول ساذج لقراءتها .. كانت عادية ، من أخت لأختها ، تطمئنها وتطمئن عنها .. ثم أعدت إرسالها إلى عنوان المرسِلة : كلية الاقتصاد والتجارة في جامعة دمشق ، معتذرا لصاحبتها عن قراءتي لها ..
فأرسلتْ لي بتاريخ 13/06/1986 ، شاكرة صنيعي ، ومعتذرة عن جهلها بتخلي أختها عن الصندوق ..
وفي التفاتةٍ لبقةٍ منها ، ولكي تخفف عني عبء فضولي ، قالت : إنها في حالة مشابهة ، كانت ستفعل بالرسالة مثلما فعلت أنا .. وعلقتْ على عبارتي : ( كوننا شرقيين ) ، التي سوغتُ بها فضولي ، مستنكرة لصق تـُهَمِنا بالشرق ، وألا نجعل شرقيتنا مسوِّغا لتصرفاتنا الخارجة عن إرادتنا ، كالفضول مثلا ..
وقالت : إن العلم والعقل كفيلان بمساعدتنا على محاكمة مشاكلنا محاكمة عقلية ، ومحاولة حلها ، وبالتالي التغلب على ظروفنا الاجتماعية القاسية ، وإلا ، فالنسيان عزاؤنا ، لا الخضوع والاستسلام ..
في الحقيقة ، لم أكن أتوقع ردا كهذا ، بل ، لم أكن أتوقع ردا على الإطلاق .. أما أن يأتيني مثل هذا الرد الدسم ، فذاك ما دفعني للكتابة إليها من جديد ، لشعوري أنها حشرتني بين المطرقة والسندان ، وهو مكان لا يعجبني ، ولا أحسد نفسي عليه ..
ووصلتني رسالتها الثانية مؤرخة في 12/07/1986 ..
وقالت : إنها قررت الكتابة إلي ، رغم اعتراض صديقاتها ، لأنها وجدت مني تشجيعا غير مباشر لاستمرار تبادل الرسائل ، ولم تذكر لي شيئا عن اعتراضات صديقاتها .. ( لكني سألتها عن ذلك فيما بعد ، في ردي عليها ) ..
وأضافت شارحة سبب قرارها بمراسلتي قائلة : من الممتع بالنسبة لها أن تكتب ما يجول في خاطرها وتناقشه مع رجل على درجة من كذا وكذا وكذا والاحترام ..
لكنها ـ بعد أن استشفت من رسائلي أني سريع الغضب ـ اشترطت : " الصراحة التامة ، وبدون أن أغضب " .. وأنها لا تريد أن ترد على كلامي لمجرد الرد ، بل هي تود مناقشته حتى ولو كان رأيها غير صحيح ، المهم أن يكون مقنعا .. وتضيف : إذا وافقتَ على هذه الشروط ، فيمكنك متابعة قراءة رسالتي ..
طبعا هي تعرف أنني سأقرأ الرسالة سواء وافقت على الشروط أم لم أوافق .. لكني وافقت ضمنا ..
وحين أوغلتُ بالقراءة ، وجدتها ( تفصفص ) رسالتي بحِرفية الجزار الذي يسلخ جلد الشاة عن لحمها ..
قالت : تقول في رسالتك : إنك لم تتوقع رسالة " دسمة " مني ، ولم يكن في ذهنك أنني حقا من هواة كرة القدم وأنني أتابع مباريات كأس العالم .. هل السبب برأيك أنني فتاة ؟! إذا كان الأمر كذلك ، فهنا يكمن مفهوم " الشرق " ، وأتركُ هذا الأمر الآن ، لأن فهْمَنا للشرق يبقى نسبيا .. وأنا كثيرة المناقشة إلى حد يثير الملل أحيانا ، وكثيرة السؤال ، وأرغب في معرفة معظم الأمور .. لست فضولية .. لكن في رأسي أفكارا كثيرة وتساؤلات عن حياتنا القصيرة .. أستغرب ما يفعله الناس ببعضهم .. فليتذكروا دائما أن الموت يهمس باستمرار : " عِشْ حياتك ، فأنا قريب منك " ..
أقرأ الجرائد اليومية .. وأعشق فيروز .. وأحب كل أغنية تعبّر عن معنى ما .. أحب الرياضة وأهوى المطالعة وقراءة الشعر ، حتى إنني أقرأ قصص الأطفال أحيانا لأعرف ما الذي نقدمه لأطفالنا ..
عمري ثلاثة وعشرون عاما ، من مواليد 1963 .. وأعتقد جازمة ـ وهذه استعارة منكَ ـ أنني سبقتكَ في كثرة الكلام ، وأرجو رجاء حارا أن تتحلى برحابة الصدر والصبر .. وأكرر رجائي ـ يا سيدي ـ بقبول اعتذاري عما جاء في الرسالة ، ولك الحرية في أن تجيب عن تساؤلاتي ..
وقالت : أسلوبك ممتع ومشوق فعلا ، ولقد حاولت الكتابة مثلك ، ولكن بعد أن قرأت كتابتي أدركت فشلي ..
انتهت هنا رسالتها الثانية ، وبقي أن أخبرك أنها في الرسالتين السابقتين ، كانت تخاطبني : السيد عصام ..
في رسالتها الثالثة إلي 07/08/1986 ، كتبتْ في مقدمتها : إلى الصديق أبو غالب ..
هذا يعني أنها وافقت على طلبي بأن نكون أصدقاء ..
وبدأت رسالتها بالاعتذار عن التأخر في الرد ، فمسؤولياتها بعد سنوات من رحيل أمها ، حتـّمتْ عليها القيام بواجباتٍ لا يمكن أن يؤديَها غيرها ، وهذا ما يجعل وقتها ضيقا لا يسمح لها بكتابة رسالة تعادل ـ على الأقل ـ ما يصلها مني ..
وتقول : إنها من جديد ، ردت علي متجاهلة اعتراض صديقاتها ، اللواتي نصحْنها بعدم التورط ـ وهي المِكلامة ـ مع رجل مجهول لا تعرف عنه شيئا ، ولا تعرف نواياه ولا خلفياته ولا توجهاته ..
ثم سردت لي رأيهن قائلة : إن طيبة قلبها ، وسرعة ثقتها بالناس ، ونوع تفكيرها ، كل ذلك سيجلب لها أوجاعا ومشاكل هي بغنى عنها ، ولاسيما حين يتعلق الأمر بمراسلات مع مَن لا تربطها به أية صلة .. ووصفت لبنى ذلك بأنه : من باب النصح لها والحرص عليها .. ليس إلا .. لكنها مقتنعة بما تفعل ، ولن يؤثر رأيهن على موقفها مني ..
وقالت : إنها موافقة على كل ما كتبته لها ، لأنها وجدت فيه تشابها كبيرا بما يجول في خاطرها ، لكنها تحتاج إلى قدرة التعبير عنها مثلي ، إلى درجة أن إحدى زميلاتها طلبت إعادة قراءة رسائلي لإعجابها بها ، فعلقت لبنى مازحة : أعتقد بأنني سأنسخ عدة نسخ من رسائلك وأبيعها ..
توقف عصام عن الكلام وهو يشعل سيكارته ، وبدا كأنه يريد مني تعليقا ما .. وحين لم أعلق ، قال لي بنزق : أرأيت كيف يتلقف الناس المثقفون آرائي ؟!
ابتسمت ، وقلت له : ادع ربك ألا نتأخر عن إنجاز أعمالنا ، وإلا سنضطر للمبيت في الشام ..
قال : وماذا وراءك ؟! وإن بتنا !! لن يتغير نظام الكون ..
قلت : لا بأس .. الأفضل أن نعود ، والأفضل أن تكمل كلامك .. فيجب أن أعرف كل شيء قبل أن نبدأ البحث عنها ..
قال : وكان الجزء الأكبر من رسالتها هذه ، محاضرة عن المرأة في سوريا ودورها ومكتسباتها في الحياة العامة والبيت ..
ومن هذا المنطلق ، تحدثت عن نفسها : بأنها لا تخشى على نفسها من كلمة " عانس " إذا أطلقت عليها .. لأنها تعيش تناقضا داخليا بين أن تخوض تجربة زواج ناجح يرتب عليها مسؤولية أن تكون ربة بيت ناجحة ، وهذا ما يتناقض مع ثقافتها وعلمها وصحتها النفسية ، وفي نفس الوقت ، هي لا تستطيع تخيل فارس أحلامها الذي سيخلصها من حالة الكبت الاجتماعي والشخصي .. وعليه : فهي تفضل العنوسة مع العلم والثقافة ، على زواج فاشل يحطمها ويحطم أولادها وأسرتها ، أو يتركها أسيرة المنزل الزوجي ..
كما أخبرتني أنها الثالثة بين أربع أخوات .. تزوجت الكبرى من شاب لبناني وتعيش معه في صيدا ، وانخطبت الثانية لأخيه .. وبقيت هي والصغرى ندى ، التي نالت الثانوية العامة هذا العام .. واستقالت لبنى من عملها في إحدى الشركات بعد رسوبها العام الماضي في السنة الثالثة ، نتيجة انهماكها في مسؤوليات البيت ورعاية أختها ندى التي تعاني شيئا من البدانة ، أثر على نفسيتها وصارت تميل للانعزال ، واهتزت ثقتها بنفسها ، ونتج عن ذلك بعض المتاعب مع المحيط الأسري والعائلي والاجتماعي ..
لكنها تقول : إنها الآن تجاوزت أصعب مراحل الأزمة ، وصارت تبحث عن عمل من جديد بعد تحسن أحوال وظروف أختها ..
وسألتني في ختام رسالتها : برأيك ، هل الإنسان مخير أو مسيّر ؟ وأضافت : إن صديقتها وصفتني بأني مغرور ، لكن لبنى دافعت عني قائلة : بل هي الثقة بالنفس وإخفاء الجوانب الشخصية ..
بالله عليكَ يا صديقي : أتراني كما قالت لبنى ، أم كما قالت صديقتها ؟!..
قهقهت وقلت : أنا لا أراك .. لكني سأدخل إلى سراقب ..
ما رأيك بهيطلية أبي أيمن ؟ ألا تريد أن تأكل دوبل هيطلية ؟ ..
الخميس ـ 02/02/2012
التعليقات (0)