الشاعر إبراهيم طوقان
مع الجميلة المنقبة في قاعة المكتبة - 1
بقلم : حسن توفيق
كأن الحياة تتكرر، وكأن أحداثها ووقائعها تكاد تتماثل وتتشابه رغم اختلاف الزمان والمكان، وكأن ما جرى في دار المعلمين العليا ببغداد من علاقات حب غير متكافئة بين الطلبة الفقراء والطالبات اللواتي ينتمين لعائلات تنعم بالثراء، هو نفس ما سبق أن جرى بين طالب فلسطيني يتلقى العلم في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث وقع هذا الطالب في غرام طالبة جميلة كانت تدرس في نفس الجامعة وإذا كان عقد الأربعينيات من القرن العشرين هو الزمان الذي دارت فيه قصص الحب في دار المعلمين العليا ببغداد، فإن عقد العشرينيات من ذلك القرن الغارب كان الزمان الذي دارت فيه قصة الحب في الجامعة الأمريكية ببيروت، أما العاشق هذه المرة فهو الطالب الشاعر إبراهيم طوقان.
شهدت مدينة نابلس العريقة ميلاد إبراهيم طوقان سنة 1905 لكنه لم يكن من المعمرين، فقد رحل عن عالمنا سنة 1941 وهو في السادسة والثلاثين من عمره، بينما عاشت أخته الشاعرة الشهيرة والكبيرة ما يزيد على ثمانين سنة. تلقى إبراهيم طوقان العلم في نابلس أولاً ثم انطلق إلى القدس لمواصلة الدراسة، ومن القدس إلى بيروت، حيث حصل على البكالوريوس في الآداب من الجامعة الأمريكية سنة وكان يجيد اللغة الإنـجليزية، فضلاً عن إلمامه بكل من الفرنسية والألمانية والإسبانية والتركية .
كانت لإبراهيم طوقان زميلة من زميلات الدراسة، هي ماري صفوري التي كانت تتردد على قاعة مكتبة الجامعة الأمريكية لتتابع دراستها، أما هو فكان يتابع دراسته ويتابعها في نفس الوقت، يفرح إذا جادت عليه بلقاء، ويحزن إن تمنعت أو صدته بجفاء، وذات مرة جلس الطالب العاشق وحيداً قرب شباك غرفته التي كان يقيم فيها، مترقباً أن تطل عليه الحبيبة، ومتذكراً ما كان في لقاءات سابقة، غمرت روحه بالنشوة، وفجأة هبط ملاك الشعر أو شيطانه على الطالب العاشق، فقال يناجي حبيبته مناجاة عذبة :
بكوري عند شُبَّاكي
لأنشقَ طيبَ ريَّاكِ
ولا سلوى سوى نـجوى
أسر بها لمغناكِ
تـمر عليَّ ساعاتٌ
أشيعها بذكراكِ
وأخشى أن يرف الجفن
يحرمني محياكِ
طلعتِ فما لقلبي شاء
يفضحني فسمَّاكِ
صباح النور من دنفٍ
تنهدَ ثم حيَّاكِ
مررتِ وقيلَ مرَّ الناسُ
هل أبصرتُ إلاَّكِ؟
شكرتُ الله أن الدار
تجمعني وإياكِ
وتلقين السؤال عليَّ
في أمرٍ تعدَّاكِ
وحين أجيب تمنحني
ابتسامَ الشكر عيناكِ
ويظل العاشق الشاعر يتقلب بين ذكرى أسعدته ووعد بلقاء، وانتظار لأن تسأله الحبيبة عما صعب عليها فهمه خلال استذكارها لدروسها لكي يظفر بابتسامة شكر لا من شفتيها وإنما من عينيها الصافيتين الحلوتين!
ولأن السعي وراء الحب في سن الشباب لا يكاد يهدأ، فإن إبراهيم طوقان دخل ذات صباح قاعة المكتبة في الجامعة الأمريكية، فإذا بالنشوة تغمر روحه بعد أن رأى حسناء جميلة الوجه والقوام جالسة لتقرأ ولتكتب ما يتعلق بدروسها، فتسلل بهدوء لكي يجـلس بالقرب منها، ممتعاً عينيه بمرأى الجمال، ومن الواضح أن الطالبة الحسناء لم تكن منقبة أو محجبة، بدليل أن الشاعر رأى أن جمالها هو في حد ذاته نقاب، ولكن أي نقاب؟ وبكل عذوبة الإحساس بالحب انطلق إبراهيم طوقان ليرسم ملامح اللحظات السعيدة التي يعيشها وهو جالس على مقربة ممن ألهمته قصيدة جديدة :
وغريرةٍ في المكتبه
بجمالها متنقبه
أبصرتُها عند الصباح
الغضِّ تشبه كوكبه
جلستْ لتقرأ أو لتكتب
ما المعلِّم رتَّبه
فدنوتُ أسترقُ الخطى
حتى جلستُ بمقربه
وحبستُ حتى لا أُرى
أنفاسيَ المتلهبه
ونهيتُ قلبي عن خفوقٍ
فاضحٍ ... فتجنبه
ماذا جرى بعد أن أمر الشاعر قلبه ألا يخفق حتى لا تحس الحبيبة بأنه يجلس بالقرب منها؟
مع الجميلة المنقبة في قاعة المكتبة - 2
في قاعة مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت، ظلت الطالبة الفلسطينية الجميلة تقرأ وتتابع ما يترقرق أمامها من معلومات، تحتويها صفحات من الكتاب، الذي تقلب صفحاته، وتتمتم أحيانا ببعض ما راق لها من الكلمات السابحة عبر صفحات الكتاب.. كل هذا وهي لا تدري بما يدور حولها من فرط استغراقها في القراءة، أما الطالب العاشق إبراهيم طوقان فقد نسي الدنيا كلها واستغرق في مراقبة كل حركة او خلجة من حركات وخلجات هذه الطالبة التي لم تكن محجبة أو منقبة، لأن جمالها وحده كان النقاب وليس سواه، وهنا تـمنى الطالب العاشق أن يكون لضلوعه المتعذبة نفس الحظ السعيد الذي يناله الكتاب الذي تحتضنه :
يا ليتَ حظ كتابها لضلوعيَ المتعذبة
حضنْته تقرأ ما حوى وحنتْ عليه وما انتبه
فإذا انتهى وجهٌ ونال ذكاؤها ما استوعبه
سمحتْ لإصبعها الجميل بِريقها كي تقلبه
وسمعتُ وهي تغمغم الكلمات نـجوى مطربه
ولأن الحياة كما قلت من قبل تتكرر، وتكاد أحداثها ووقائعها تتمثل رغم اختلاف الزمان والمكان، فإن ما أحسَّ به إبراهيم طوقان، يكاد يكون نفس ما أحس به بعده بدر شاكر السياب، حين استعارت إحدى زميلاته ديوان شعره المخطوط والمحظوظ حيث أخذ يتخيل ما ستفعله الطالبات وهن يقرأن قصائد من هذا الديوان، بل إنه حسد الديوان، كما حسد إبراهيم طوقان من قبله الكتاب الذي تحتضنه الطالبة الجميلة، والفرق الوحيد بين الشاعرين العاشقين أن إبراهيم طوقان يرى بعينيه ما يجري بصورة مباشرة، أما بدر شاكر السياب فإنه يتخيل ما يجري، وهنا نتذكر ما كان يتمناه، وهو في غمرة الخيال
يا ليتني أصبحت ديواني
أختال من صدر إلى ثان
قد بتُّ من حسدٍ أقول له
يا ليت من تهواك تهواني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها
ولك الخلود وإنني فان
هكذا كرر السياب دون قصد ما سبق لإبراهيم طوقان أن عاشه لحظة بلحظة، أما الغريب حقا والذي يستدعي منا أن نفكر فيه، فهو ما جرى لعاشق آخر، ولكن في أرض أمريكا الجنوبية، وهو نفس ما جرى لإبراهيم طوقان حين جلس أمام شباك غرفته، مترقباً إطلالة حلوة من الجميلة التي يعشقها، حيث قال وقته
ا
بكوري عند شباكي
لأنشق طيب رياك
هذا هو الشاعر المهجري رشيد أيوب يجلس هو أيضا أمام شباك غرفته في نفس السنة، مع الفارق في المكان، فإبراهيم طوقان في بيروت، ورشيد أيوب في الأرجنتين، أما ما كتبه الاثنان العاشقان فهو من بحر واحد هو بحر الهزج- مفاعيلن مفاعيلن -وكذلك فإن القافية واحدة، وهذا ما يدفعني للتساؤل عمن سبق الآخر في كتابة قصيدته بعد جلوسه أمام شباك غرفته
وهذا ما قاله رشيد أيوب :
جلستُ بقرب شباكي
أردد طيبَ ذكراكِ
أتاركتي أخَا سهرٍ
متى عهدي بلقياك؟
ألا تدفعنا القصيدتان إلى التساؤل عن الشاعرين وعمن سبق الثاني في الجلوس أمام الشباك وكتابة ما كتب؟ أنا في الحقيقة أرجح أن رشيد أيوب هو الذي سبق إبراهيم طوقان، لأسباب عديدة يطول شرحها، وليس المجال هنا رحباً لذكرها، وأعود الآن إلى إبراهيم طوقان الذي ظل معذبا رغم وفائه لحبيبته، وها هو يشرح لنا أو لحبيبته ذاتها أن قلبه لم يذعن إلا لجمالها هي وحدها دون سواها من الجميلات
سلامٌ عليكِ ولو شَفني
من الوجد واليأس ما شفني
أداري غرامك جهد الحليم
فما يستريح وما أنثني
وقلبي كما يشتهيه الهوى
لغير جمالك لم يذعنِ
خفوق ولو شئت سكنتيه
ولو شاء غيرك لم يسكنِ
هكذا تعذب إبراهيم طوقان في الحب حين كان طالباً جامعيا، لكنه تعذب فيما بعد عذابا من نوع آخر، دفعه لأن يعاتب أمير الشعراء أحمد شوقي عتاباً واضحاً وصريحاً، وهذا ما سنعرفه بالطبع ولكن فيما بعد .
التعليقات (0)