مواضيع اليوم

إبداع الكلمة وإبداع السلوك

nasser damaj

2009-10-18 22:50:37

0

إبداع الكلمة وإبداع السلوك
بقلم: خليل الفزيع

تعجبك الكلمة المبدعة في قصيدة جميلة يأسرك إبداعها، أو قصة قصيرة تستولي على اهتمامك، أو رواية تشدك فصولها، أو مسلسلا تعيدك أحداثه إلى الواقع، فتحرص على متابعة أحداثه بشغف شديد، وتتصور أن وراء هذا أو ذاك مبدعا يستمد إبداعه من قيمه التي آمن بها، ومن سلوكه الذي يعطي إبداعه نبضا حيا يبعث عوامل البقاء والتميز في روح ذلك الإبداع، وتعتقد جازما أن إبداع ذلك المبدع هو انعكاس لواقعه الجميل، أو لحلمه الأجمل عن الحياة وما يجب أن يسودها من سلوكيات لا نقول أنها مثالية، ولكنها تحافظ على الحد الأدنى مما يجب أن تكون عليه، في وجهها المشرق الجميل. وكما يبدع هذا الفنان كلمته في القالب الذي يهواه شعرا أو نثرا, فإنك تعتقد أنه يبدع في سلوكه أيضا منهجا وممارسة على صعيد الحياة الخاصة والعامة. فالسلوك السوي إبداع يأخذ أشكالا عدة، يرضى عنها الضمير، ويرضى عنها الناس، لأنها تراعي رضا الخالق أولا وقبل كل شيء.
لكنك حتما ستصاب بصدمة لا تستطيع أن تستعيد بعدها توازنك إلا بصعوبة، عندما تكتشف أن البون شاسع بين إبداع مبدع ما، وسلوكه الذي يتناقض مع ما يبدو عليه أو على إبداعه ـ بمعنى أدق ـ من طهر وشفافية، يوحيان بأنك أمام إنسان (كامل الأوصاف) تسكنه هموم مجتمعه، وتقض مضجعه مشاكل الناس، فيسخر كل وقته للكتابة حول مشاكل الأسرة، وقضايا المجتمع، وطموحات الوطن وهموم الأمة، ثم تكتشف أن ذلك المبدع الداعي إلى قيم التعاون الأسري، ومبادئ التكافل الاجتماعي، هو في حياته الخاصة أبعد ما يكون عن هذه القيم التي يدعو إليها، وأن يقظة ضميره حول مشاكل الآخرين تتحول إلى بلادة متناهية حول مشاكل أقرب الناس إليه، وأن ارتفاع درجة حساسية مشاعره حيال المشاكل الاجتماعية تنخفض إلى الصفر عندما يتعلق الأمر بأحد والديه!!
وفي مجتمعنا الخليجي ـ كما هو حال المجتمعات العربية الأخرى ـ تسربت بعض القيم الانهزامية التي صرفت الكثيرين عن قيمهم الإسلامية الرائعة والجميلة، خاصة ما يتعلق منها بالأسرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مسألة بر الوالدين، التي بدأ يتسرب إليها شيء غير قليل من الإهمال، والتبلد في المشاعر، تجاه من أوصى الله بهما خير، مما استنفر بعض الأقلام للدفاع عن هذه القيم، بشتى الوسائل، لكن المؤسف أن بعض من يتصدون لهذه الظاهرة ممن نذروا أنفسهم للدفاع عن هذه القيم لا يستنكف أن يترك احد والديه في دار العجزة، فماذا يمكن أن يقال عن هذا السلوك المتناقض مع المعتقد، هل لأن هذا المعتقد هش إلى درجة أنه لا يعدو كونه حبر على ورق، يُُنسى حال الفراغ من كتابته، أم أن المسألة تتعلق بخلل في التربية أدى إلى عدم الولاء للأبوين رغم التشدق بالولاء لمنظومة القيم السائدة في المجتمع؟ وفي مقدمتها القيم الأسرية؟ أم أن الإبداع لدى هؤلاء هو مجرد تزييف لمشاعر معينة لتبدو منسجمة مع ما يفرضه أو يطلبه المجتمع من رؤية تتطلع إلى الخلاص من مشاكله وأمراضه المختلفة؟ وإذا كان هذا هو حــــال (المثقفين) فما هو حال عامة الناس؟ وكيف ينسجم الإنسان مع ذاته إذا دعا إلى شيء ومارس نقيضه؟ كيف يغمض له جفن وينعم بالحياة وأحد والديه يقبع في دار العجزة وهو يمارس حياته وقد أفرغ عقلة من أي هم أو قلق تجاه والدية؟ كيف يستطيع الكتابة عن مشاكل الأسرة وهو عاجز عن حل مشكلته التي لا تقتضي منه الكثير من التضحية بل الكثير من الشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب تجاه الوالدين كما أوصى بهما الدين الحنيف؟ وفي محكم التنزيل الكثير من آيات الحث على بر الوالدين والتحذير من عقوقهما، وفي السنة المحمدية من الأحاديث الصحيحة للبر بالوالدين الكثير الكثير، فكيف للطبيب أن يعالج الناس وهو عليل؟
إن إبداع السلوك أهم بكثير من إبداع الكلمة، فالسلوك لا يمكن تزييفه لأنه ظاهر للعيان، يشهد عليه ويلمس نتائجه الجميع، أما إبداع الكلمة فقد يعتريه الزيف والإدعاء دون أن ينتبه أحد لذلك الزيف أو الإدعاء، وهو لا يعني بالضرورة تمتع صاحبه بالمثالية التي يحاول أن يوهم الناس بها.. إبداع السلوك أهم وأجدى للمجتمع من أي إبداع كتابي كاذب، يفتقد المصداقية وينسى الإيمان بالهدف.
جريدة الشرق القطرية ـ الأحد 18/10/2009

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات