مواضيع اليوم

إبداع اعمى ..واصم

أن يكون الإنسان أعمى ، تلك معضلة ، ومصيبة ، لا يستشعرها إلا من خبرها ، فهو في كهف مظلم أسود عميق ، تتساوى عنده الألوان والأوقات والأشياء ، يستعيض عن حاسة البصر باللمس على أغلب الأحيان ، يهديه سمعه الذي يكون كما يقولون حادا مميزا ، يستشعر الأصوات ويميز الأشخاص ، ويقدر المسافات بالاعتماد على حاسة السمع ، وربما تميز بملكات أخرى لعلى من أبرزها أنه شديد الملاحظة قوي الانتباه سريع البديهة ... تلك صفات رأيت أغلبها تتركز في أكثر من كفيف عرفته .

فأبن جيراننا كفيف وأخته كفيفة وهما بالمناسبة توأم ، وجدت هذا الشاب يجاري أقرانه بكل ما يفعلون ، فلقد رأيته يلعب ( القلول ) وهي كرات زجاجية صغيرة يلعب بها الصبيان أوقات العطل ، ولها العاب مختلفة منها ..
البيش ( وهي حفرة في الأرض ) ربما أتكلم عنها لاحقا .. ولها قوانينها الصارمة الدقيقة عندهم أيضا .
ولعبة أخرى هي ( المور ) وهي عبارة عن مثلث يرسم بالطباشير على الأرض ولها قوانينها الصارمة الدقيقة عندهم أيضا .
ولعبة أخرى تشبه المقامرة ولكن بدل النقود يتم اللعب على( القلول ) باستخدام قطعة نقدية .. صورة كتابة ..
ووجدت هذا الشاب .. يقود دراجته الهوائية في بيئة صعبة .. في أرض كثيرة التضاريس .. مثله مثل باقي أقرانه .
ووجدته يتسوق ويمزح كما هم تماما .. ولعل كثير ممن عرفه لا يصدق أنه كفيف ومنهم زوجتي .. فعندما مررنا من الحارة وكان يقود دراجته الهوائية لم تصدق .. ووقفت وانتظرت أن يسقط في القناة الصغيرة التي تقسم الطريق الى قسمين .. فعندما اقترب منها وقبل أن يصلها بلحظات خفف السرعة ونزل وقطع القناة .. ثم تابع الطريق .. فقالت سبحان الله ..
ذلك إذا كان الإنسان كفيفا ... فقد يعوض حاسة البصر بما يمتلك من مهارات وملكات أخرى أما أن يكون كفيفا واصما فكيف يعمل .. ولأبين بعض الصعوبات التي قد تواجهه أثنا حياته اليومية ..فإذا ناديته لن يسمعك .. وإذا أمسكت به ولمسته وقلت له من أنت وماذا تريد .. وأخبرته عن اسمك .. كيف سيعرف .. ولو أتقن لغة بريل الخاصة بالمكفوفين .. فهل عند المبصرين القدرة على قراءة تلك اللغة والتواصل معه ...

أن لا تسمع أو ترى فتلك عزلة تامة ، زنزانة انفرادية الحكم مؤبد في معزل عن كل صوت او لون ، وتلك متع الحياة( الصوت واللون ) لم يسمع اسمه ينادى عليه لم يسمع كلمة بابا لم يسمع كلمة حبيبي .

تفرض الأشياء البسيطة المهملة وجعها بوحشية في غفلة الإحساس والحواس حيث تتساوى الأشياء في حيادية تفرض حالة من الوحشة المفرطة القاتلة وتحكم حلقات القفل على الذات في حالة قد تؤدي الى الجنون .
أن تعيش في داخلك محاصر في جزيرة صامته تتساوى فيها الأماكن والأوقات والأشياء تلك مصيبة .
صديقي معتصم البطاينة ، من الشباب القلة الذين تفوقوا على إعاقتهم وقهروها بمزيد من الكفاح والإصرار والصمود والقوة النفسية العالية والروح المعنوية المتدفقة التي ربما تفيض على من حوله من الأصحاء .. خريج جامعة اليرموك بلغة بريل تخصص لغة عربية .. حافظ للقران الكريم كاملا .. شاعر وقاص وناقد .. مشارك بالحراك المجتمعي والثقافي .. يمارس حياته بشكل طبيعي جدا .. ولم تقف إعاقته أمام إصراره .. ابتكر طريقة خاصة للتواصل وهي :
جاء بقطعة خشبية بحجم كف اليد وقسمها بعدد حروف اللغة العربية .. وكتب في كل مربع حرف من حروف اللغة العربية . ثم غرس في كل مربع أمام كل حرف ما يعادله من نقاط بريل .. حالما تجده يناولك القطعة الخشبية والتي تكون عادة في جيب قميصه ناحية القلب ..

تمسك بإصبعه الشاهد وتضغط على حروف الكلمة التي تريد أن تقولها له .. ومن الغريب انه يسبقك في القول والقراءة .. فحالما تضع أصبعه الشاهد على حرفين يكمل الكلمة فورا .. وكان لنا صديق مشترك وهو الأستاذ جواد غرايبة .. وكان مبدعا في التعامل مع تلك القطعة الخشبية .. وكان يتبادل الحوار معه بشكل فريد وسريع ..
قبل فترة تمكن معتصم الصديق العزيز من زراعة قوقعة للإذن .. حدثني عنها .. وقال أن الطبيب قال له لم أجد طوال الفترة التي عملت بها عزيمة وإصرار ومعنوية كما عندك يا معتصم ... اليوم معتصم يسمع بشكل طبيعي .. فشكرا للعلم ...وسألته عما لفت انتباهه وعما أحس به بعد أن بات يسمع وما أكثر شيء اسعد سماعه للمرة الأولى ؟؟ .. فقال أن جل ما أسعده سماع كلمة بابا .. وسماع الآذان .. و.. و.. يمكن لنا أن نتخيل الباقي .
تحية الى معتصم .. تحية الحب والتقدير والاحترام ... والحياة تستحق العناء فعلا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !