مواضيع اليوم

إبتكار مدرسة الفنون اللونيّة

كمال البهجوري

2013-04-08 16:03:51

0

إبتكار مدرسة الفنون اللونيّة

بقلم: حسين أحمد سليم

منذ طفولتي شعرت بنفسي الأمّارة بما يحلو لها من بهرجات الحياة, تُحرّضني وتدفعني بإستمرار على ممارسة الخربشات فوق التّراب النّاعم, حول بيتنا القروي وفي الحواكير والسّهول, وعلى جوانب الطّرقات والأزقّة بين البيوت المتلاصقة ببعضها البعض... وغالبا ما كنت لا أتردّد في ممارسة حركات فعل اللهو والتّسلية والشّيطنة بالخربشات العشوائيّة فوق ناعم التّراب, تلك الحركات الصّبيانيّة التي كانت تُحاكي ذاتي سكينة وإطمئنانا في ذلك العمر الذي رحل ولم يبق منه سوى الذّكرى... ولم تقف نفسي في ثورتها وتحريضها عند هذا الحدّ, بل وسوست لي بممارسة حركات فعل الخربشات أيضا, وذلك بقضبان الفحم من بقايا أغصان الأشجار المحروقة في قعر التّنور القروي, والرّسم الخربشي العشوائي على الجدران الخارجيّة للبيوت في قريتي, تلك الجدران المطليّة بالحوّارة من التّراب الشّبيه بالكلس الأبيض, عدا عن ممارسة الخربشات العشوائيّة فوق جدران غرف بيتنا الصّغير, الذي ورثه أبي عن جدّي, ونسكنه في قريتي المنسيّة في تلك البقاع الممتدّة, غربي ما يُسمّى بمدينة الشّمس وصولا لتلك القمم الشّمّاء, المكلّلة دائما ببياض الثّلوج, وكأنّها تعتمر عمامة من نسيج خاصّ ناصعة البياض دلالة الطّهارة والقداسة والصّفاء والعنفوان والإباء...
ذات يوم وسوست لي نفسي هذه, أن أمزج أنواع من ألوان التّراب النّاعم بالماء, ليصبح سائلا, وأنواع من ألوان التّراب متوفّرة في أماكن كثيرة في محيط بيتنا القروي, ومنها التّراب الأبيض والتّراب الأحمر والتّراب الأصفر والتّراب الدّاكن... ورحت أمارس ألعابي الصّبيانيّة, بسكب هذه السّوائل التّرابيّة, تارة فوق أرضيّة سطيحة الإسمنت التي أمام بيتنا, وتارة أخرى فوق قطعة من الخشب الرّقيق المطليّة باللون الأبيض, وهي من بقايا ألواح الخزانة العتيقة التي إستغنت عنها أمّي... وكثيرا كنت أكرّر في محاولات التّجريب في عمليّات تداخل هذه السّوائل ببعضها البعض, لتعكس لي مشهديّات لونيّة ترابيّة ترفل لها عيني, التي كانت ترتاح إلى مثل هذه النّتاجات ذات الطّابع الفنّي البدائي... وكنت غالبا ما أحتفظ بهذه اللوحات الأوّليّة لفترة زمنيّة, ثمّ أعمد إلى فتفتها وتلفها وتخريبها ورمي بقاياها, لأعود إلى حركات فعل التّجريب من جديد, وهكذا لسنوات طفولتي في قريتي الرّيفيّة النّائية...
بإنتقال أبويّ للسّكن والعمل في ضواحي مدينة الغد العاصمة التّاريخيّة لوطني, وإدخالي لمتابعة تعليمي في مدارس حزام البؤس المحيط بتلك العاصمة المميّزة في كلّ مكوّناتها آنذاك, تعرّفت وأنا على مقاعد الدّراسة, ومن خلال أستاذ مادّة الرّسم الأسبوعيّة, على الألوان مع الأقلام الخشبيّة, ثمّ تعرّفت على الألوان على شكل أقراص والتي تتمّ معالجة إسالتها لتصبح سائلة لزجة بالماء, وبعدها تعرّفت إلى الألوان المعبّأة بالأنابيب البلاستيكيّة والتي يتمّ معالجتها لتصبح سائلة أو لزجة بمادّة من الزّيت النّباتي الخاصّ, وتعرّفت كذلك على الأقلام ذات الألوان المائيّة, وتعرّفت أيضا على أنواع كثيرة من الورق المقوّى والكرتون, الذي كان يُصرّ أستاذ الرّسم على إستخدامه في ممارسات الرّسم والتّلوين...
شببتُ على ممارسة فنون الرّسم وإستخدام الألوان, حتّى شابت عليّ فنون الرّسم والتّشكيل والألوان... وبقيت تُراودني تلك التّجارب الأوّليّة التي مارستها في طفولتي القرويّة, بمزج التّراب النّاعم بالماء ليصبح سائلا, ومن ثمّ تشكيل ما يحلو لصبيانيّاتي يومها من أشكال ولوحات ومشهديّات مختلفة بالألوان التّرابيّة, التي توافرت لي في ذلك العمر الطّفولي...
كعادتي التي درجت عليها في مزج الألوان بالماء, كنت أستخدم لكلّ لون وعاء خاصّ صغير على شكل فنجان أبيض من الزّجاج أو البلاستيك أو الخزف, وغالبا ما كنت أصادر مجموعات فناجين ضيافة القهوة لزوّارنا وأستخدمها رغم رفض أمّي لمثل هذه الإستخدامات, وبعض الأحيان كنت أستعمل مساحة صحن أبيض واسعة إلى حدّ ما بسعة صينيّة تقليديّة, حيث كنت أضع ألواني وأمزجها بالماء وأستخدمها في طلاء مساحات لوحاتي... وكثيرا ما لفت نظري تداخل هذه الألوان السّائلة ببعضها البعض عن غير قصد, لتعكس لي بعض الجماليات اللونيّة دون تدخّل من فرشاتي أو حركاتي أو فلسفاتي بها... فوسوست لي نفسي من جديد وحرّضتني بقوّة هذه المرّة, لإجراء بعض التّجارب على الألوان الممزوجة بالماء لتصبح سائلة, والقيام بسكبها وتحريكها بأسلوب معيّن ورشاقة وخفّة معيّنة, لتتداخل فيما بين بعضها البعض, دون أن تتماذج متحوّلة إلى لون جديد, لتعطي لوحة لونيّة جميلة...
بقيت لسنوات عديدة أمارس هذه التّجارب حتّى إتّقنت اللعب بها بخفّة ورشاقة ودقّة وحرفة وتقنيّة, وأنتجت مئات التّجارب واللوحات التي أصقلت بها هذه المدرسة, وأثريتها بالكثير من الأعمال التي زادت في قناعتي,ووفّرت لي كامل الإطمئنان الإبداعي والإبتكاري... فكانت ولادة هذا الإبتكار الفنّي من هذه التّجارب الفنّيّة الغنيّة, وكانت مدرسة فنون الرّسم اللوني الحرّ... التي ألهمني الخالق للعمل بها والإبداع في تشكيلها من رحم الألوان السّائلة الممزوجة بالماء أو الزّيت...


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !