بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
"روسيا تكشف وثائق مجزرة كاتين".
كلمات قليلة تعني الكثير وتشير لفصل جديد – لا من تاريخ روسيا وحسب بل من – تاريخ العالم، والخبر قد يراه البعض لحظة مصارحة روسية لا أكثر، وقد يوسع إطار النظر قليلا معتبرا إياه فصلا من فصول تاريخٍ دامٍ في العلاقات الروسية البولندية. لكن الخبر في الحقيقة جزء من سياق أكبر بكثير هو أن "الدولة المطلقة" (كما كان يسميها المفكر المصري المرموق عبد الوهاب المسيري)، هذه الدولة كإطار تنظيمي تم إنزالها من عليائها، وهي بعد نزولها تمر بمرحلة تطهر (كاثارسايز) تبدأ بالاعتراف بخطاياها بعد طول إنكار ومكابرة، وهي في الوقت نفسه تعتذر عنها.
والمشهد الروسي ليس سوى جزء من مسلسل تتوالى حلقاته في عدة عواصم، وما حدث في موسكو أن الدولة قررت أخيرا نشر الوثائق الرسمية السرية الخاصة بمجزرة كاتين التي راح ضحيتها آلاف أسرى الحرب البولنديين في غابة كاتين غربي روسيا على أيدي القوات السوفياتية في الحرب العالمية الثانية.
والنشر لن يكون "في الظل" بل على الموقع الإلكتروني الرسمي للوكالة الفدرالية الروسية للأرشيف التي تحفظ الأرشيف التاريخي السياسي للدولة الروسية". والوثائق كما قال مسئول روسي كبير "دليل على انفتاح روسيا الكامل في ما يخص موضوع إعدام الأسرى البولنديين عام 1940 في الاتحاد السوفياتي".
وقد عثر في ملف مجزرة كاتين على مذكرة تاريخها مارس 1940 كتبها وزير الداخلية ذو السمعة الأسطورية لافرينتي بيريا وكان آنذاك يشغل منصب المفوض الشعبي للشؤون الداخلية، بيريا اقترح في المذكرة إعدام الضباط البولنديين الأسرى رميا بالرصاص، وفي المذكرة هوامش كتبها ستالين وغيره من أعضاء المكتب السياسي مثل فوروشيلوف ومولوتوف وميكويان. كما عثر في هذا الملف على نص قرار المكتب السياسي في الشهر نفسه بالموافقة على مقترح بيريا.
ولعل أخطر ما كشف عنه مذكرة بخط يد مدير الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) آنذاك ألكسندر شيليبين يخبر فيها قيادة الحزب بأن كل ما يتعلق بإعدام الضباط البولنديين قد أتلف، ما يعني أن مرتكبي الحادث من البداية كانوا يدركون أنهم اختاروا أن يكونوا من "كارهي الحقيقة".
وقد لخص أمير الشعراء أحمد شوقي المتوالية التي تتم بها علاقة الحب ببيت شعر ذي شهرة مدوية، يقول شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
ومؤخرا شهد البرلمان الصربي لحظة تاريخية عندما وصلت صربيا إلى المحطة الأخيرة من متوالية تلخص مسارا سياسيا بدأ بالهولوكوست النازي وامتد ليشمل جرائم مماثلة أصبحت في ذمة التاريخ لكنها عادت لتظل رأسها عندما أصبحت موضوع إدانة مثيرة للجدل، وآخرها إبادة الأرمن في تركيا. والمتوالية السياسية هي:
إبادة...فإنكار...فاعتراف...فاعتذار!
فقد اعتذر البرلمان الصربي مؤخرا عن مجرزة سربرنيتشا التي أدت لمقتل آلاف المسلمين البوسنيين عام 1995، لكنه لم يصل لحد وصف ما حدث بـ "الإبادة الجماعية". وصحيح أن الخطوة تستهدف على المستوى السياسي المباشر كسب تأييد الإتحاد الأوروبي بهذا القرار بأمل انضمام صربيا للاتحاد، لكن القرار له دلالات أخرى أكبر وأعمق وأهم.
البرلمان عبر قراره عن التعاطف مع الضحايا وقدم اعتذارا عن عدم اتخاذ إجراءات كافية لمنع المذبحة. والقرار أيضا تجنب استخدام مصطلح "التطهير العرقي" واكتفى بذكر مصطلح "الجريمة". والاعتراف والاعتذار كان يمكن إعلانهما في شكل مختلف لا يتمتع بالمصداقية والأهمية التي يتصف بها قرار صادر عن البرلمان, وهو بالتالي أصبح يتمتع بحجية قانونية تتجاوز أي شكل آخر من الاعتذار السياسي.
ومن الحقائق التي يجدر التوقف عندها أن القرار تم اعتماده بعد مناقشات استغرقت حولي 13 ساعة وأذيعت تلفزيونيا على الهواء مباشرة وانتهت بعد منتصف الليل، وحصل القرار على أغلبية 127 عضوا من أصل 173 نائبا حضروا الجلسة، وهو ما يشير إلى الانقسام الشديد إزاء القضية.
ومن الحقائق المهمة أيضا قول برانكو روزيتش الذي كان حزبه الاشتراكي تحت قيادة سلوبودان ميلوسفيتش خلال التسعينات: "إننا نتخذ خطوة متحضرة لأناس يشعرون بالمسؤولية السياسية – على أساس قناعة سياسية – عن جريمة الحرب التي حدثت في سربرنيتشا"، أي أن التغيير ليس سببه الوحيد وجود حلفاء للغرب في الائتلاف الحاكم في صربيا، بل إن المفهوم الجديد الذي تبناه يشكل سقوطا لواحد من أهم معاقل التطرف القومي الصربي، وهو الحزب الذي كان الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش على رأسه ذات يوم، وهو من بين المصوتين لصالح القرار.
وقتلت قوات من صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش حوالي 8000 رجل وصبي من مسلمي البوسنة بعد استيلائها على الجيب الواقع في شرق البوسنة والذي كان قد وضع تحت حماية الأمم المتحدة. والمذبحة هي أسوأ ما حدث بأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
والقرار يثير قضايا عديدة مهمة أولها أن معايير "التجريم" و"التكريم" في عالم السياسة تشهد تنازعا بين مرجعيتين: وطنية وكونية، وبناء على هذا التنازع فإن الجنرال راتكو ميلاديتش الذي قاد منفذي المذبحة هو بنظر القانون الدولي "مجرم"، لكنه بنظر كثيرين من صرب البوسنة القوميين المتطرفين "بطل قومي".
وفي المسافة بين البطل القومي والسفاح يشهد العالم تحولا في العلاقة بين ما هو وطني وما كوني، من السجال الحاد حول إبادة الأرمن بعد قرار الكونجرس الأمريكي بإدانتها، وهو ما امتد ليشمل إجراءات رسمية اتخذتها الحكومة التركية احتجاجا، فضلا عن موجات ارتدادية امتدت لعواصم أخرى انحازت للموقف الأمريكي.
والتدويل الذي تشهده العلاقات الدولية للحق في إبداء الرأي في علاقة الدولة الوطنية بمواطنيها لم يكن يوما محل إجماع في العلاقات الدولية، لا يوم حاولت أمريكا تسمية مفوض سامي دولي لحقوق الإنسان في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بفيينا (1993)، ولا يوم وجهت ضربة جوية أطلسية لصربيا لإرغام الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش على وقف أعمال الإبادة بإقليم كوسوفا الذي تزعمت أمريكا عملية فصله عن صربيا كدولة مستقلة.
وقد اتخذت الظاهرة منحنى آخر غي مسبوق بإصدار مذكرة من المحكمة الجنائية الدولية باعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير، لتكون المرة الأولى التي تصدر فيها مذكرة من هذا النوع بحق رئيس وهو في السلطة، كما أنها المرة الأولى التي يتخذ فيها إجراء من هذا نوع على خلفية اتهامات بشأن سلوك الدولة إزاء بعض مواطنيها، وهي منطقة كانت حتى وقت قريب "قدس أقداس" الدولة الوطنية.
ومع تغير معايير التجريم والتكريم وحدود المرفوض والمقبول في العلاقة بين الدول أو علاقة كل دولة بما يسمى "المجتمع الدولي"، وهو مفهوم أكثر وضوحا وتأثيرا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت "سيادة الدولة" محل إعادة نظر وإعادة تعريف، وما تزال المقاومة كبيرة لهذا التحول.
وإذا نحينا الاعتبارات السياسية جانبا فإن هذا يكون مؤشرا على حضور أقوى لثقافة الاعتذار بدلا من الإنكار والمكابرة والتبرير!
التعليقات (0)