أَبْطَأَ بالجَواب حتى فَاتَ الصَّوَابُ
والمثل قاله قصير لجذيمة الأبرش. وقصته طويلة نجتزئ بملخصها لما فيها من أمثال كثيرة: كان جَـذيمـة من العرب الأولى من إياد بن أميم، وكان به بياض فكرهت العرب أن تقول: أبرص فقالوا: الأبرش والوضّاح. مَلَكَ الحِيرةَ وما حولها ستين سنة وذلك زَمَنَ ملوك الطوائف، وكان يُغِير على من حوله من الملوك حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم، وهو أول من أُوقِدَ له الشمع ونَصَبَ المجانيق للحرب. وقد غزا الحَضْرَ وهي مدينة بين دجلة والفرات وكان صاحبها إذ ذاك عمرو بن الظَّـرِب وهو أبو الزبَّاء. فظفر به جَذيمة وقتله، وذهبت بنته الزَّباء مطرودة نحو الروم.
وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان لها شَعْر إذا أرسلته غطّى بدنها وبذلك لقبت بالزباء أي الكثيرة الشعر، والذكر هو الأزبّ. فجمعت الأموال والأجناد وتَقَوَّتْ وكانت نبيلة عاقلة، فعادت إلى ديار أبيها وأزالت جذيمة عنها وملكت، وحرّمت الرجال على نفسها فهي بَتُول. وكان بينها وبين جذيمة مهادنة بعد حروب. فلما همت بثأر أبيها أرسلت إليه تخطبه على نفسها وترغّبه في أن يتصل ملكه بملكها فأحب ذلك.
وقيل: هو الذي حدثته نفسه بخطبتها فشاوَرَ خاصته فوافقوه كلهم إلا قَصِير بن سعد وكان عاقلا نبيلا، وهو ابن عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره وعهده. ولم يكن قصيرًًا وإنما سمي به فقط. قال لجذيمة: أبيتَ اللعنَ أيها الملك، إن الزباءَ حَرَّمَت الرجال فهي بتول عذراء لا ترغب في مال ولا جمال ولها عندك ثأر والدم لا ينام وإنما هي تاركتك رهبةً وحِذارًًا والحقد دفين في سويداء القلب له كُمون ككمون النار في الحجر إن اقتدحتَهُ أورى، وإن تركته توارى، وللملك في بنات الملوك متسع، وقد رفع الله قدرك عن الطمع فيما هو دونك وعَظَّم الربُّ شأنَك فما أحد فوقك.
فقال جذيمة: يا قصير، الرأي مارأيته، ولكن النفس توّاقة، وإلى ما تحب مشتاقة، ولكل امرئٍ قَدَرٌ لا مفر منه ولا وَزَر. ثم وجه جذيمة إليها خاطبًًا وأمره أن يُظهر لها ما ترغب به وتميل. فلما جاءها الخاطب أجابت وأظـهرت فرحًًا كبيرًًا وغبطـة عظيـمـة، وقالت: لولا أن المسير في هذا أجمل بالرجال سرت إليه. فوجهت الخاطب وبعثت معه إلى جـذيمة بهـدية سنيـة فيها من الإماء والكُرَاع والسلاح والأموال والبقر والغنم وغير ذلك من الجواهر الرفيعة والطرف العجيبة ما يبهر الناظرين.
فلما بصر جذيمة بذلك أعجبه مع ما بلغه من حسن جوابها وطيب كلامها، وظن أن ذلك كان رغبةً منها فيه زوجًًا فخرج إليها من فوره مع خاصته وفيهم قصير، واستخلف على مملكته ابن أخيه عمرو بن عدي اللَّخْمي. فسار حتى بلغ موضعًًا يقال له بَقَّة، فأكل وشرب وأعاد المشورة فاستصوبوا أيضًًا ما أراد إلا قصيرًًا، فإنه قال: أيها الملك، كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى أَفَنٍ يكون كونه. فلا تثق بزخرف قول لا محصول له، ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد، ولا الحزم بالـمُنى فيبعد. والرأي عندي للملك أن يتعقب أمره بالتثبت، ويأخذ حذره بالتيقظ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزمًًا بتًًا ألا يفعل.
فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة. فقال قصير:«أرى القدر سائق الحذر لا يُطاع لقصير أمر أو رأي». فأرسلها مثلا. ثم سار جذيمة حتى قرب من ديار الزباء فأرسل إليها يعلمها بمجيئه. فلما جاء الرسول أظهرت السرور والرغبة وأمرت بمحل الضيافة إليه وقالت لأجنادها وخاصتها: تلقوا سيدكم ومالك دولتكم. وعاد الرسول بالجواب إليه وأخبره بما رأى وما سمع. فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصيرًًا فقال له: أنت على رأيك؟ قال نعم وقد زادت بصيرتي فيه، أفأنت على عزمك؟ قال: نعم وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير:«ليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب»؛ فأرسلها مثلا. ثم قال له: وقد نذرتك الأمر قبل فواته وفي يد الملك بقية هو بها قادر على استدراك الصواب. فإن وثقتَ بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة فقد نزعتَ يدك من سلطانك وفارقتَ عشيرتك وألقيتَها في يد مَنْ لَسْتُ آمن عليك مكروهه وغدره، فإن كنت فاعلا ولابد، فإنهم غدًًا يلقونك ويقومون لك صفَّيْن حتى إذا توسطتهم أحدقوا بك، فهذه العصا«لا يُشَقّ غُبَارُها» ـ وهو أول مَن قاله ـ وكانت العصا فرسًًا لجذيمة لاتُدْرَكَ. فهي ناجيـة بك إن ملـكت ظهرهــا وناصيتها.
ويروى أنه قـال له: إنـهـم غــدًًا إن لقـوك فترجلوا وحيوك فتقدموا فقد كذب ظني، وإن رأيتهم حيوك فطافوا بك فإني أعـرض لك العصا. فسمـع جذيمـة كلامـه فلـم يردّ عليــه جوابًًا. ثم سار جذيمة وقصير عن يمينه فقامت الزباء وبعثت بجندها وقالت لهم: سيروا حتى إذا لقيتموه فقوموا صفين عن يمينه وشماله فإذا توسطكم فانقضوا عليه أجمع وإياكم أن يفوتكم. فلما أحاطوا به وعلم أنهم ملكوه أقبل على قصير وكان مسايره فقال له: صدقت يا قصير. فقال قصير:«أبطأتَ بالجواب حتى فات الصواب»؛ فأرسلها مثلا. فقال جذيمة: كيف الرأي؟ فقال:«تركت الرأي بَبقَّةَ»؛ فأرسلها مثلا.
ويروى أنه قال له:هذه العصا فدونكها لعلك تنجو عليها. فأنف من ذلك. وقيل: إنه عرضها له فشغل عنها فركبها قصير فنجا. فلما نظر إليه جذيمة وهــو عليهـا ينقطـع دونـه السـراب قـال:«ما ذَلَّ من جـرت به العصـا»؛ فأرسلها مثلا.
ثم سارت الجيوش بجذيمة فتطلعـت عليه الزباء من قَصْرِها وحولها جواريها. وكانت قد رَبَّتْ شَعر عانتها سنة وضفرته. فلما دخل عليها تكشفت له فقالت:«أشَوارَ (زينة) عروسٍ ترى؟» فقال: بل شَوار أَمَةٍ بظراء. فقالت: أما إنه ليس من عدم المواسي ولا من قلة الأواسي ولكنه شيمةُ ما أقاسي.
فأمرت به فأجلِسَ على نِطع وقطعت رواهشه، ويروى في طست من ذهب تفاؤلا أن يذهب دمه هدرًًا. وكان قد قيل لها: تحفظي بدمه فإنه إن وقعت قطرة منه على الأرض طُلِبْتِ بثأره. فلما ضعفت يده سقطت فقطر منه في غير الطست شيء، فقالت«لا تضيعوا دم الملك»، فقال:«دعوا دمًًا ضيعه أهله»؛ ومات. وقيل إنه قد قال: «لا يحزنك دم أراقه أهله» فقالت: «والله ما وفى دمك ولا شفى قتلك ولكنه «غيض من فيض»؛ فأرسلتها مثلا. فلما قضى أمرت به فدفن.
وكان عمرو بن عدي يخرج إلى ظهر الحيرة يستشرف خبر خاله، فبينما هو ذات يوم ينظر إذ رأى العصا تهوى بقصير. فقال عمرو: أما الفرس ففرس جذيمة وأما الراكب فكالبهيمة «لأمر ما جاءت العصا»؛ فأرسلها مثلا. فإذا هو بقصير قد أقبل فقالوا: ما وراءك؟ فقال: سعى القدر بالملك إلى حتفه على الرغم من أنفي وأنفه. وتفصيل قصتها في المثل «خطب يسير في خطب كبير».
التعليقات (0)