مواضيع اليوم

أيّ الأصـوات أنت ؟

عبدالسلام كرزيكة

2010-09-02 22:19:33

0

أنت بين نوعين من الأصوات، لا يكفان يعترضانك في كل مكان وفي كل مقال ومقام. صوت مسكون بالحب والاحتواء، وصوت معجون بالبغض والاحتقار. صوت يتلمّس الجمالات، يتحسسها باستشعار ودود، وآخر يختلق البشاعات، يطلقها بزخم محموم. صوت يستودع قلبك همس الحكمة، وآخر يستل أطرافك نحو ضجيج غير حكيم.

الصوت ليس هو ذلك المكون الفيزيائي فقط، بل هو أشبه بروح تخترقنا، قد يأتي في هيئة كتابٍ أو مقالٍ أو خبرٍ أو روايةٍ أو لوحةٍ أو فيلمٍ أو مسرحيةٍ أو مشهدٍ أو حدثٍ أو حديثٍ. كل هذه الأجناس تخترقنا وتعمل فينا بشكل أو بآخر. الصوت هو الوسيلة الأولى التي استخدمها الإنسان لإيصال رسائله. فنحن مجموع الأصوات التي تخترقنا وتعمل فينا.

الأصوات المحمّلة بالحكمة، تغسل أرواحنا المثقلة بالتعب، تبيض قلوبنا المنكوتة بالسواد، تهذب أصواتنا المنزلقة نحو الابتذال، تنقِّح عباراتنا الممجوجة والمستهلكة والفارغة من المعنى. أما تلك المحمّلة بالاحتقار، فتغشى ظلاماتنا النائمة، توقظها، تهيئ لها لتتفرعن، تدجج ظلامها، تبصرها طريقها إلى الخروج الفج، تمنحها العذر لكي تتضّع أكثر، وتترهل أكثر، ويتمادى منها الانحدار والحمق أكثر.

النماذج (المحلية) التي تتحرك (بأصواتها) في ذهني الآن كثيرة، إلا أني لا أرغب في وضعها هنا، وذلك لما يمكن أن تثيره من حساسيات قد تحرف فهم صوتي جهة الأشخاص «المع أو الضد»، على حساب مفهومي الذي أرغب التوسع فيه. لذلك سأكتفي بمثالين هما لكاتب واحد، نرى من خلالهما أن الصوتين قد يعملان في شخص واحد، وأنه قد يقع الإنسان بين صوت ونقيضه على نحو مؤسف في بعض الأحيان.

لا يمكنك أن تصدق مثلاً أن (صوت) الكاتب المصري يوسف زيدان الذي كتب به روايته الرائعة ”عزازيل”، هو ذاته (الصوت) الذي تحرك بقلمه وهو يكتب مقالته ”ذكريات جزائرية” المنشورة في جريدة (المصري اليوم) نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي [1]. الصوت الذي كان يتشح بالحكمة والتأمل والتفهم العميق للكون والإنسان في ”عزازيل”، لن تشم رائحته في ذكريات زيدان الجزائرية. لن تشم غير رائحة الشخصنة والشتم والاستفزاز والاحتقار والاستهجان والتعالي والأحكام المطلقة التي يطلقها على كل ما ارتبط باسم (الجزائر) من بعيد أو قريب. لست في صدد التعرض لهذه المقالة وأسبابها التي فجرتها مباراة كرة قدم. لكني أقدمها لقراءة نموذج لصوت محّمل بالحكمة مقابل صوت محمّل بالاسحتقار.

ينشغل الصوت الأول بتوسيع فهمك وإدراكك، يعدد زواياك التي ترى منها إلى العالم والإنسان، يفتح مغاليق فكرك وقلبك، يوقظ فيك الحب، يؤخر أحكامك، أو يسقط أكثرها، يبسطها أمامك ليتسع الكون ولتتسع أنت، يريك أن الكون بدون أحكامك المطلقة أجمل، وأنك (أنت) بلا معولها القابض أطهر وأنقى. أما الصوت الثاني، فيتمادى في تحديدك، يحركك في زوايا ضيقة من التفكير، وفي مساحات طفيحة من الفهم والإدراك، يجعل زواياك حادة وقاسية، يحصرك بين ضلعين شبه منطبقين، ويحصر العالم كله معك بين هذين الضلعين. يغلق مفاتيح فكرك وقلبك. يقتل فيك الحب. وبقدر ما يغيب عنك الحب، ينشط منك الاحتقار. الاحتقار هو التعويض الطبيعي عن فقد الحب. من يفتقر أن يعيش حباً، ينصرف تلقائياً إلى الاستهزاء بالحب، فلا تسمع منه غير صوت الاحتقار. وكتعويض آخر، يتصور نفسه قمة جبل، والآخرين قاعا. وهناك من حيث قمة جبله، يروح يسقط أحكامه وأوهامه على من يعتبرهم قاعاً. ”إن احتقار الآخرين يشعرنا برضا بالغ عن أنفسنا، يشعرنا بأننا قضاة”. فبقدر ما تمارس احتقارك وتطلق أحكام قضاءك، تمتلئ بالرضا الذي يعوضك نقص الحب. الحب الذي أعنيه هنا هو ليس فقط ذلك الخيال الرومانسي الذي قد يصفه البعض بأنه غائب عن الواقع (وإن كنت عن نفسي لا أراه كذلك)، بل هو رفض الكره مهما كان الواقع مؤلماً. أي أن الحب الذي أشير إليه هو كره الكره عموماً وخصوصاً.

الصوت الحكيم، يبسطك على الأرض، ويمدك نحو السماء. يستيقظك من جفوتك وقسوتك وغرورك وأنانيتك. يسكبك ماءً في وعاء غيرك. يمنحك معنى السعادة ”السعادة هي أن تكون سمكة تسبح في بحر الناس”. ليس أجمل ولا أعقد من بحر الناس الممتلئ بالعجائب والغرائب. ليس مثل تنوعات ثقافاته وأفكاره ومعتقداته وعاداته وسماته وسلوكاته وطبائعه. وبالمقابل، ليس مثل رشاقة السمكة الملتوية بجسدها الصغير تشق نفسها داخل الماء. ممتلئة السمكة بعشق الماء حتى أن لحظات قليلة جداً، تلك التي تفصل بين إخراجها من الماء، وموتها فراقاً. وبقدر ما تتحرك السمكة بالماء فإنه يحركها. يتبادلان هي والماء لعبة الحب. حركة بحركة واهتزازة باهتزازة ودهشة بدهشة. وبقدر ما يدهشها الماء وكائناته العجائبية، فإنها تبحر نحو العمق أكثر لترى أكثر ولتعيش متعة دهشتها أكثر وأكثر، وكلما رأى منها الماء عمقاً، أخذها إلى سحره أكثر، وأمدّها بجنّة خفاياه التي لا يصل إليها إلا من يملك القدرة على الغوص نحو القاع أكثر. هكذا يكون القاع بالنسبة للسمكة مساحة كشف ومتعة استثنائيين، ويكون القاع بالنسبة لفاقد الحب، شيء دوني وبسيط، إن لم يكن حقيراً.

الصوت المحمّل بالحكمة يجعل عينيك تبحثان عن الجمال المختبئ في زوايا الكون وتحت حجارته القاسية. يجعلك تناغي قسوتها دون حاجة منك إلى معول كسر، بل يكفيك بماء الحكمة، يترك الماء أثره محفوراً على الحجارة دون عنف أو قسوة أو تعالٍ. يبعث فيك هذا الصوت الإحساس بقيمة كل شيء حولك. يخجلك من الابتذال حتى في قمة اختلافك. لا يُسمعك الكره والتباغض، ولا يحملك إلى الاصطفاف والتطاول، ولا يقبل لك التحامل والتراشق، هو صوت يمسح على قلبك بيده، يجعله أزهر. وعلى عكسه ما يشحنك بالغضب والتحامل. ما يُعلي منك صوت التنابز والتهاوش. ما يطلق لسانك بالبذاءة وعدم الاحترام. ما يغرقك في الأنانية البغيضة. ما يحيل الناس إلى سمك يسبحون في مستنقعات عصبياتهم وأنانياتهم.

ربما تقول بعد كل هذا، أن الصوتين يختلطان عليك في زمن كل ما فيه بات مختلطاً؟

بسيطة. كلما فرغت من الاستماع لصوت، أو قراءته، قف لحظة قصيرة لتسأل نفسك، أي المناطق حركها في داخلك هذا الصوت؟ منطقة حب أكثر، أم منطقة بغض أكثر؟ منطقة فهم جديد أم منطقة سوء فهم جديد؟ منطقة تقارب وتسامح، أم منطقة تحامل وتنابز؟ منطقة تتواضع بامتلائك أكثر، أم منطقة تستعلي بفراغك أكثر؟ منطقة ترتفع بإنسانيتك وترهف بروحك وقلبك، أم منطقة تجعلك أقرب للتوحش والافتراس؟

إجابتك وحدها كفيلة بأن تريك أي نوع من الأصوات هذا الذي يقتحمك. فرد فعلك وصوتك الذي تسمعه من نفسك يعكسان نوع هذا الصوت الذي سمعته. تتمايز الأصوات بما تنجزه فينا من أفعال، فالصوت المحمّل بالحكمة لا يمكن أن ينجز في الأصوات (المتفاعلة معه والمتأثرة به)، غير المزيد من الاحترام، بينما الصوت المحمّل بالاحتقار يجعلها تمارس (بوعي أو من دون وعي) الشيء نفسه. فانظر ما الذي تدخله إلى نفسك برضاك.

أيضاً، وحدها رغبتك في مواصلة الاستماع، أو الانصراف، هو ما يريك أي نوع من الناس أنت. فالإنسان دائماً يختار الاستماع إلى الأصوات التي تُشبهه. فانظر أي الأصوات أنت؟.

ـــــــــ

باسمـة القصاب ـ الوقــت

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات