أيها الناس أفيقوا
إنما الدنيا finish
بقلم : حسن توفيق
لم يكن جدي «أبو تـمام» قريباً مني، ولو أنه رآني الآن لأنكر أنني أحد أحفاده العرب، فأنا أتـمشى الآن في ليل الصحراء، مرتدياً قميصاً فرنسياً وبنطلون «جينز» وعلى وجهي نظارة طبية إيطالية، وفي يدي اليمنى ساعة سويسرية، ولكل هذه الأسباب وسواها، فإن جدي أبا تـمام سيقول عني إني أحد أبناء «الفرنجة» .. والحقيقة أني لم أكن أتـمشى لكي أهضم شريحة لحم من طراز «أسكالوب» وإنما لكي أمر على بيت حبيبتي الأولى التي هاجرت منذ سنوات، وحصلت على الجنسية الأمريكية، وبمجرد أن لمحت ذلك البيت من بعيد خفق قلبي بشدة، وتذكرت ما كان جدي «حبيب بن أوس» الشهير بأبي تـمام يقوله، وكأنه كان يوجه كلامه لي أنا بالذات
نقلْ فؤادك ما استطعت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
فجأة ودون أن أنتبه ، وجدت يداً توضع على كتفي، فأدركني الخوف، لكن صاحب هذه اليد أخذ يطمئنني قائلاً : لقد استمعت إليك وأنت تردد بيتين من إحدى قصائدي التي كتبتها منذ زمان بعيد، فكان لابد أن اقترب منك رغم أنك كنت تبدو لي من أبناء «الفرنـجة» ولابد أن أعترف لك بأني سعيد بلقائك الآن، لأن اليأس كان قد أغرقني منذ أن قررت زيارة هذا العصر، فاكتشفت أن الشعر العربي قد أصبح بلا وزن، وأن الشاعر العربي لم يعد له شأن، كما أنني اندهشتُ حقاً لأني استمعت إلى كلمات غريبة، رتبها أصحابها في جمل وعبارات ركيكة، ليقولوا إنها «شعر» وفضلاً عن هذا فإن أحد هؤلاء قد تصور أن تجديد الشعر يعني أن تتداخل فيه الكلمات العربية مع كلمات أخرى من لغات أبناء الفرنجة.
ضحكت ضحكة هادئة، مراعياً أني أمام أحد أجدادي القدامى، وقلت لأبي تـمام : أظنك تقصد الشاعر اليمني «إدريس حنبلة» فهو الذي كتب بهذه الطريقة، بل إنه جعل قافية كل بيت كلمة من إحدى اللغات الأعجمية وهي الإنـجليزية، حيث قال:
أيها الناس أفيقوا
إنما الدنيا finish
قد كفانا من سجونٍ
تجعل اللون redish
قاتلَ الله حياةً
همنا رزٌّ وfish
لم يضحك أبو تـمام، وإنما سألني وهو مغتاظ :
- كيف استطعت أن تحفظ هذا الشعر، كما حفظت أبياتاً من شعري؟
= للقبح عدوى وكذلك للجمال...
- ماذا تقصد؟
= حفظت من شعرك ما حفظت لأنه جميل وأصيل، وحفظت أبياتاً لشعراء عرب يعيشون في هذا العصر حتى لا يقول أحد عني أني إنسان متخلف، وينبغي أن أوضع في متحف، فما كان جميلاً ذات يوم أصبح رذيلاً، وأما القبيح فإن كثيرين يقولون عنه الآن إنه مليح.
- هذا كلام يتغلغل فيه الحمق، ولا يتقطر منه ندى الصدق يا ليتني ما جئت لأزور هذا العصر إني لم أستمع لقصائد عربية تصور كفاح العرب والمسلمين ضد الفرنجة، وأنا لا أقصد طبعاً أن يكون الشعر كله وطنياً، وفيه تصوير للمعارك والوقائع، فأنا مثلاً كتبت «نقل فؤادك ما استطعت من الهوى» وكتبت شعراً في وصف الطبيعة، ولكني لم أتجاهل ما حدث في أيامي من بطولات وتضحيات.
= أظنك يا جدي تقصد موقعة «عمورية» حين صاحت فتاة عربية كانت مسبية «وامعتصماه» فانطلق المعتصم ليحررها من السبي والأسر، وليحقق على الفرنجة أروع نصر.
- هذا ما أقصده ، وقد كتبت بالفعل قصيدة عن فتح «عمورية» .. يا ترى هل تتذكرها؟
= بل إني كنت أحفظها
- كنت تحفظها؟ ... معنى هذا أنك قد نسيتها؟
= لا أستطيع أن أنساها، لكن لابد لي الآن أن أتجاهلها، واعذرني يا جدي على ما أقول، فالعرب الآن يخافون من «الفرنجة» ومنهم من يتلاقون في العلن مع «اليهود» ويسمون هذه اللقاءات «مفاوضات من أجل السلام» ولكن ما دمنا الآن وحدنا في هذه الصحراء، هل أطمح أن تسمعني بصوتك العربي الأصيل ما قلته أنت عن فتح «عمورية» لعل روحي تنتعش من جديد.
- ما جدوى أن تسمع مني أقوالاً طالما أن من يتحكمون فيك لا يقدمون لك أفعالاً وإذا فعلوا فإن أفعالهم تأتي على أمتهم وبالاً؟
= وما ذنبي يا جدي؟ أنا مجرد متفرج .. فأرجوك لا تحرمني من الاستـماع إليك، حتى يطل الفرح على روحي ولو من خلال الخيال .
نظر «حبيب بن أوس» نحوي نظرة إشفاق، ثم تعالى صوته ليغمر بخصب الروح جدب الصحراء:
السيف أصدق أنباء من الكتبِ
في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطبِ
فتح تَفَتَّحُ أبوابُ السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القُشُبِ
لقد تركتَ أمير المؤمنين بها
للنار يوماً ذليلَ الصخر والخشبِ
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيبَ الدجى رغبتْ
عن لونها أو كأن الشمسَ لم تغبِ
وفجأة توقف الجد العظيم عن الإنشاد، وتغلغلت نظرته في الفضاء، وقال قبل أن يودعني عائداً من حيث جاء:
أعوامُ وصلٍ كاد ينسي طولها
ذكر النوى فكأنها أيامُ
ثم انبرتْ أيامُ هجرٍ أردفت
بجوى أسى فكأنها أعوامُ
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلامُ
التعليقات (0)