بعضُ الغضبِ يعتمل في النفسِ كساقيةٍ تدور حول نفسـِها، فالحيوانُ المعصوبُ العينين يظن أنه حرٌ يجري، ويلهث، ويهرّول، بل ويطارد فريستـَه.
وبعضُ الغضبِ يـَكـْمـُن في سكونٍ عجيبٍ كأنه حالةُ رضا، ومتـّعة، وشلل!
أما غضبُ العراقيين فهو من نوع مختلف تماماً، يستفزه طاغيةٌ فلا يتحرك من موضعـِه قيد شعره، ويأتي حصارٌ من الخارج فيموت مليون عراقي، وأكثرهم أطفال ونساء وضــِعاف فيقتنع العراقيون أنَّ الجريمةَ مقسّمة بالتساوي بين شيطان البعث و .. شيطان اليانكي.
تأكل من قبل ذلك حربٌ جهنمية المليونَ الأول من ضحايا غطرسة هي أيضا مقسـّمة مناصفة بين جنون الآيات في قـُم، وجنون غير الآيات في بغداد، والضحايا من المجيـَّشين، علمانياً أو دينياً أو حزبياً أو تبشيرياً أو هـَوَسيـّاً أو من المطيعين الطيبين الذين لا خيار ثالث لهم، فإما الفرم من السلطة أو .. الفرم تحت آلة حرب أشعلتها السلطة!
أيها العراقيون،
هل يمكن أن يصبح دورُ وارثي أعرق الحضارات في العالم مشاهدة الشباب على الشاشة الصغيرة وهم يثورون على أوضاع الذل والعبودية والاستخفاف والاستحمار والاستنعاج والاسترناب، ثم الاكتفاء بتشجيع فريق دون آخر كأن الثورات مباريات نهائي الدوري لكرة القدم، وينتهي يوم العراقي كأنه فقد القدرة على الغضب والتمرد والثورة والاحتجاج والعصيان؟
هل خفت وهج العراقي في الدفاع عن كرامته بعدما بـَصـَمَ بالموافقة على تقسيم طائفي بغيض تتجزأ فيه الهوية العراقية وفقاً لنزعات نرجسية متخلفة لدىَ قادة أوهموا العراقي أنه حر ما دام يعتنق المذهبَ الصحيح، وأنه مستقل ولو كان يسكن منطقة صغيرة يحميها العم سام، وأن مستقبله آمن في ظل قطعة الكعكة التي قطعتها له جماعات جاءت على ظهر دبابة أو شربت من النهرين لكنها ارتوت من خطبة هستيرية طائفية يوزع بعدها زعيم الطائفة مفاتيح الجنة وصكوك الغفران على فئة دون أخرى!
المطلوب مليونية عراقية لا يرفع خلالها عراقي واحد شعاراً يشير إلى طائفته أو مذهبه أو فرقته، فقد آن الوقت لخروج قوات الاحتلال، وإزاحة حكومة المنطقة الخضراء التي تتلقى توجيهاتها من البيت الأبيض، وإعادة رجال الدين إلى صوامعهم ومساجدهم وكنائسهم ومعابدهم، فقد آذوا العراقيين كما فعلت قوات الاحتلال أو أكثر، وأبو غريب في عهد صدام حسين لا يختلف عنه في العهد الأمريكي ومع حكومة خضراء المنطقة، سوداء السريرة، حمراء اليد، أتى بها المحتل لتلعب دورَ المحلل.
المطلوب ثورة عراقية لا تستثني شبرا واحداً من أرض الرافدين تــُحرر الوطن والثروة والدينَ والترابَ والمستقبل، وتــُنهي عملية الإخضاع الأليم والقسري الذي جعل العراقيين يتحسرون على عهد طاغية صنع العبوديةَ لثلاثة عقود، ومـَرَّ علىَ مكاتب أجهزة أمنه نصفُ العراقيين، تقريبا، وذاق مرارةَ الذلِّ والتعذيب والانتهاك ستةٌ من كل عشرةِ بالغين!
أيها العراقيون،
تدفعون ثمناً باهظاً لخلافات سياسية مضت عليها قرون طويلة، وتعيد قوى التخلف والغباء إحياءَها من جديد، فيعيد العراقي اكتشافَ أخيه، السـُنــّي أو الشيعي، على ضوء هـَوَس خطيبٍ مفوّه اعتلىَ المنبرَ وجعلكم دُمَىَ تتحرك، وتناقش، وتتجادل في صوابية الوقوف مع طرف دون آخر رغم أن الأشخاص المعنيين ماتوا، وشبعوا موّتاً لأكثر من ألف عام.
أيّ حماقة تلك التي تجعل عراقياً يؤكد أنه على حق ويأتي بشاهد زور وهو بطن أمـَّه، فهل منكم من سأل أمـَّه قبل مولده عن مذهبه وطائفته وهويـّته الدينية وتـَشـَيـُّعه أو إتباعه لمذهب أهل السـُنـّة أو حتى حامل الصليب أو عابد النار؟
أغلب الظن أنْ لو بعث الله، تعالى، أصحاب النبي، صلوات الله وسلامه عليه، وأهل بيته وأنصاره وناقلي سيرته وسنته وأحاديثه ليقفوا على المشهد العراقي لأعلنوا في نهاية اليوم براءتهم الكاملة من كل المذاهب والفـِرَق والجماعات والكتب،السـُنـّية والشيعية، التي تخوض في خلافات عنعنية لا يربطها منطق أو موضوعية أو عقل أو شفافية أو تسلسل غير مقطوع في زمن أو مكان اخترقته الإسرائيليات فأضافت إلى ما فيه ما لديها، وانتهىت ( فـَرَّقْ .. تـَسـُدْ) إلى سيادة تامة لتقطيع الأمة.
أنا كمسلمٍ لستُ مَعنياً بخلافات عاد أصحابـُها إلىَ تـُرابِ الأرض قبل موّلدي بمئات الأعوام، فأمامي مشهد مكتـَظ ومكـَدّسٌ ومليء بآلاف القضايا والهموم الحياتية اليومية التي خلقني العليُّ القدير في زمنـِها، أو صنعها في زمني، فكيف بالله عليكم ترضوّن أنْ يتلاعب بكم الطاغيةُ، ثم قوات الاحتلال، فأذنابـُهم ومتعاونوهم من قـَتـَلة ولصوصِ مصارف ولاعبي الثلاث ورقات ومهرّجي السياسة؟
أيها العراقيون،
الطائفية مميتة، والتمييزُ بين أبناء الوطن الواحد استعلاءٌ أحمق، والبحثُ عن معارك في الخارج لتغطية الفشل في الداخل ستــُدخل العراقَ في دوّامةٍ لا يخرج منها، لا قدر الله، إلا جثة هامدة كما يريد له مصاصو دمائه و .. نفطــِه!
ماذا تنتظرون؟
الثورة قادمة لا مهرب منها في الأردن والجزائر والسودان، أما السوريون فهم علىَ مرمى حَجَرٍ من الاحتفال بأول أعيادِهم منذ عام 1958 عندما حقق العربُ حُلمـَهم في الجمهورية العربية المتحدة، وأكاد أرى بوضوح عقدة حبل المشنقة الذي سيلتف حول عنق بشار الأسد، ولو لم تكن بطون الصوماليين خاوية لا تحملها الأقدام لسبقوا جيرانـَهم في الثورة على مصاصي دمائهم، فكيف يكون العراقي آخر من يغضب لكرامته، ولتجزئة وطنه العريق سـُنيــّاً وشيعياً وتـُركمانيا وكـُرديـّاً ومسيحياً و...؟
أيها العراقيون،
حتى لو لم تثوروا لكرامتكم المسلوبة، ولعراقيتكم المجزّئة، فانتفضوا، رحمكم الله، لثروتكم المنهوبة.
العراق يراد له الآن معارك جانبية وجاراتية تـُلهيه عن ناهبيه في الداخل، سواء كانوا من الوطنيين المتعاونين مع الاحتلال أو من قوات الاحتلال نفسه، فلا تجعلوهم يمتطون ظـُهورَكم مرة أخرى، فمعركتـُكم الحقيقية هي تحرير العراق من دخلاء الخارج و.. الكوهينيين في الداخل.
الدرس العراقي الذي ينتظره العالم كله سيعيد وجهاً مشرقا لبلد التسامح والمحبة والثقافة والفكر، ولن يخرج المحتل بمفرده لكن سيصحب معه أعوانـَه ومُريديه وحوارييه ومالكيـّيه وعلاويـّيه وجلبيـّيه , ..
مليونية عراقية تعيد الوطن جسداً واحداً، وتضرب الطائفية في مقتل، وتــُنزل أباطرة التفرقة بين أبناء الوطن الواحد من بروجهم المشيّدة بالحقد والكراهية، وتكتظ مساجد الشيعة بأهل السـُنـّة، ويخطب رجل دين سُنّيٍّ في مسجد شيعي، مؤكداً أن المساجد لله وحده لا شريك له.
مليونية عراقية من أجل التسامح يعود بعدها المسيحيون العراقيون إلى أحضان وطن غادروه وهم كارهون، وهجروه مع أمان كان يصحبهم لمئات الأعوام في بلد كانت كل طائفة فيه تؤْثــِر الأخرى على نفسها.
جمعة مليونية عراقية من أجل العيش في وطن واحد لا يـُفـَرّق بين الشركاء فيه، ولا تعرف رشفةُ ماء من دجلة أو الفرات في أي بطن تستقر!
أيها العراقيون،
ما أبأس وطن لا يغضب أبناؤه، فاغضبوا، وانتفضوا، واعتصموا، واتحدوا، وانبذوا خلافاتكم واختلافاتكم المذهبية البلهاء التي أورثكم إياها سادة الكراهية والحقد من رجال الدين، وارفضوا كل صور المقارنة بين المذاهب، ولا تنصتوا لمن يحاول اقناعــَكم أنَّ جماعة عراقية هي أفضل أو أقرب إلىَ الله من جماعة أخرى.
استعيدوا عراقــَكم لكم ولنا، فازدهارُ العراق الحـُرّ والديمقراطي والموحـَّد والمستقل والمتسامح هو عنوان الاستقرار في المنطقة برمتها، وهو أقل ما تقدمونه لأجيال قادمة ستلعن من ترث منه جـُزءاً من الوطن، وتتذكر بمحبةٍ وفـَخـْرٍ واِعتزازٍ مَنْ يورثها الوطنَ كاملاً.
أيها العراقيون .. انتفضوا، يرحمكم الله!
وسلام الله على العراق
مقالات سابقة للمؤلف:
أيها الفلسطينيون: انتفضوا، يرحمكم الله!
أيها السودانيون: انتفضوا، يرحمكم الله!
أيها الجزائريون: انتفضوا، يرحمكم الله!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 9 سبتمبر 2011
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)